خبر ⁄سياسي

تقسيم السـودان.. ما زال المبـرد في النـار فهل من نجاة

تقسيم السـودان.. ما زال المبـرد في النـار فهل من نجاة

محمد الأمين عبد النبي

شهد السـودان أحداثاً عاصفة وخطيرة منذ اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل من العام الماضي، تركت تأثيراتها على مجمل المشهد السوداني، إذ تضاعفت أوارها في معظم ولايات السودان، وما زالت تداعياتها تتفاعل وتؤثر في مسار الصراع المتواصل والمحتدم على خيارات المستقبل، ومآلاتها تتدحرج لتعانق شبح التقسيم الذي يطل برأسه من جديد؛ ففكرة تقسيم السودان قديمة، صحيح بدأت الحرب الحالية كصراع سلطة وثروة، ولكنها بالتأكيد لا تنفصل عن تمظهرات الأزمة المتطاولة وتحولات سردياتها باستدعاء صراعات داخلية مكتومة واستراتيجيات خارجية تستهدف وحدة السودان، حتى طفح على السطح خطر التقسيم على غرار تجربة انفصال الجنوب في سياق فشل إدارة التنوع؛ والشواهد شاخصة والإرهاصات كثيرة أهمها:

أولاً: الحرب الحالية أفرزت تداعيات كارثية تتمثل في أوضاع اللاجئين والنازحين غير الإنسانية، التدفق الكبير للأسلحة، الانهيار الاقتصادي، انتشار الجوع والمجاعة، الانتهاكات الفظيعة والواسعة لحقوق الإنسان، والانزلاق إلى الحرب الأهلية بتأجيج الصراعات القبلية وعلو خطاب الكراهية والعنصرية والقتل على أساس الهوية؛ كل ذلك ساعد على تحويل الحرب من صراع داخلي إلى صراع ذي أبعاد عالمية، ففي عالم اليوم أصبحت الصراعات الداخلية إقليمية، وفي بعض الأحيان دولية، فمنذ اندلاع الحرب كانت مدخلاً للعديد من الأطراف الإقليمية والدولية التي تبحث عن تحقيق أطماعها وأجندتها – كل طرف يوظف الحرب وفقاً لمصالحه – حتى لو كان ذلك على حساب تفتيت السودان، ولن تتوانى هذه الأطراف عن قبول وضع الحكومتين أو الدولتين إذا كان ذلك يعني استفادتها من ثروات البلاد المختلفة وكسب حليف جديد في المنطقة.

ثانياً: مثلت حرب السودان نقطة تحول نوعية في مخطط تقسيم المنطقة العربية على أساس مشروع الشرق الأوسط الجديد لبرنارد لويس الذي وافق عليه الكونغرس الأمريكي في 1983، وأصبح جزءاً من الاستراتيجية الأمريكية، والذي يستهدف تقسيم السودان إلى أربع دويلات الجنوب والنوبة والشمال ودارفور، وفي هذا السياق يفهم أن دولاً على النطاقين الإقليمي والدولي لا ترغب في توقف الحرب بل تسعى من خلالها للفوضى في المنطقة بأسرها في إطار هذا المخطط الكبير، وبصورة أقل فقد شكلت حرب السودان مدخلاً جديداً لإعادة رسم التحالفات التي تغلب عليها الحسابات الجيوسياسية التي فرضتها تعقيدات وتشابك المصالح الإقليمية والدولية، وأظهرت توجهاتها في إدارة الأزمة، وليس البحث عن حل وخروج من مأزق الحرب المدمرة.

ثالثاً: وجود مخطط خارجي لتقسيم السودان لا يخفي حقيقة وجود عوامل داخلية تشجع على التقسيم، فاستطالة أمد الحرب وما أفرزته من اختلالات كبيرة في البنية الاجتماعية بفعل الكراهية والعنصرية والتوحش والقبح، وتغيير في التوزيع السكاني بفعل النزوح واللجوء، والانتهاكات الجسيمة والفظيعة الواسعة، وغياب أفق الحل لتراجع العمل السياسي، واتساع رقعة الحرب وتمددها بالتحشيد وسرديات التعصب وثقافة العنف والحديث عن استهداف الحواضن الاجتماعية لأي من طرفي الحرب، تعزز وترسخ فكرة التقسيم وتسويقه ليس كحل للأزمة الراهنة فحسب، بل كمعالجة للمظالم التاريخية، مما يشير بأن البلاد تتجه نحو التلاشي التدريجي لكيان الدولة، والتي بدأت بانفصال جنوب السودان في 2011، وهو ليس حالة استثنائية، بل حالة ذهنية قابلة للتكرار في مناطق أخرى؛ لأن الأسباب التي أدت إلى انفصال جنوب السودان لا تزال قائمة، بل أكثر وضوحاً وإمكانية تكرارها بذات النتيجة والصيرورة واردة أكثر من أي وقت مضى، إذ إن عوامل بناء الدولة القومية لا تزال بعيدة المنال في ظل تشعبات الحرب وسردياتها.

رابعاً: يسعى طرفا الحرب كل على طريقته لتشكيل حكومة مؤقتة بحثاً عن الشرعية والاعتراف الإقليمي والدولي ومع تزايد احتمالات الوصول إلى نقطة اللاعودة، وفي إطار صراع السلطة المتصاعد بين البرهان وحميدتي كنقطة محورية من مسببات الحرب ومن دوافع استمرارها، فكلاهما مدفوع بطموحاته الشخصية ورغبته في السلطة، هذا التنافس المحتدم زاد حدة الاستقطاب والتصعيد، وأدى إلى انهيار الدولة المركزية وتنامي الفراغ السياسي وتفكك المؤسسات وانتشار الفوضى، وأصبح كل طرف يجتهد ويثابر في تعزيز سلطته على المناطق الخاضعة لسيطرته، ويسعى لتشكيل حكومته، عطفاً على مطالب الحكم الذاتي في مناطق أخرى سيما جبال النوبة.

خامساً: الإصرار المتعاظم لدى الحركة الإسلامية على استمرار الحرب وإجهاض أي بارقة أمل في مبادرة تفاوض أو حل سلمي، وبث خطابات العنف والكراهية والشطط والعنصرية وتوظيف الحرب لإحكام القبضة على السلطة ضمن خطة “خداع الذات” بالعودة إلى حكم البلاد كاملة، وإذا تعذر ذلك تقسيم البلاد وحكم جزء منها، وما يجب أن يفهم في هذا السياق الطابق الجهوي في الخطاب السياسي للحرب لتحقيق مآرب سلطوية بأي ثمن والتي تكشفت بوضوح.

سادساً: أصبح واضحاً وجلياً خلال السبعة عشر شهراً من عمر الحرب بأن المأساة في السودان ليس أولوية اهتمامات المجتمع الدولي والإقليمي، فكل المبادرات والجهود تفتقر لأفق الحل، وليس هناك مبادرة جادة لوضع حد لمعاناة السودانيين والضغوط الحقيقية على طرفي الحرب، بل أصبح الاهتمام منصباً على الحرب في غزة وغيرها، وترك السودان يوجه مصيره، بالرغم أن حرب السودان تهدد الأمن الإقليمي والسلم الدولي.

سابعاً: المعلوم تاريخياً أن بذرة التقسيم غرسها المستعمر بعد زوال دولة المهدية، فقد عمد على إعادة هيكلة الدولة وفق منظوره ومصالحه الاستعمارية، وقسم السودان إثنياً ودينياً إلى كيانات مختلفة. كان ذلك جليا في تنفيذ سياسة المناطق المقفولة في جنوب السودان وذات السياسة الإثنية والعنصرية طبقت في كل من دارفور وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة. وبهذا الإجراء أُحْكِم الفصل الإثني والديني بين مناطق السودان. عطفاً على ذلك فإن السياسة الاستعمارية ركزت مشاريع التنمية في مناطق جدوى اقتصادية تخدم أهداف هذه السياسة؛ مما خلق تمايزاً وتهميش في بعض المناطق. هذه الاختلالات التنموية والمظالم التاريخية فاقمتها النظم الشمولية التي حكمت أكثر من 80% من فترة حكم السودان، وحدث تمييز أكبر وتراكم خبيث، ولم تفلح محاولات الأنظمة الديمقراطية المضنية والوعي بخطورة التنمية غير المتوازنة وقضايا الهوية وإدارة التنوع من معالجة هذا الاختلال، فقد عمق نظام الإنقاذ هذه الرواسب، وأعطاها صبغة دينية وعنصرية؛ مما دفع إلى انفصال جنوب السودان الذي شكل بداية تفكك الدولة السودانية “المُبرد ما زال في النار”.

ثامناً: من نافلة القول؛ أن الديمقراطية لم تجد فرصة كافية للتجذر في الأرض السودانية المترامية الأطراف والغنية بتنوعها الإثني والثقافي والديني الذي لم ينسجم في كيان أمة موحدة الوجدان والأهداف الوطنية. فقد أضعفت الأنظمة العسكرية المستبدة كل الكيانات الاجتماعية الطوعية مثل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والاتحادات المهنية والطوائف الدينية ومنظمات المجتمع المدني، التي كانت تجمع السودانيين بمختلف أعراقهم وقبائلهم وأديانهم ومناطقهم في هيئات مدنية تعمل معاً لخدمة أغراض مجتمعية مفيدة. فالحرب الأهلية المتطاولة والحكومات العسكرية المتعاقبة هي السبب الرئيس في تعويق التحول الديمقراطي والحيلولة دون رسوخه في المجتمع السوداني، الذي كان من أوائل الدول الإفريقية استقلالاً من الاستعمار البريطاني وتقبلاً لتجربة ديمقراطية واعدة. قال الإمام الراحل الصادق المهدي: (مؤسسات الدولة التي ورثناها من العهد الإمبريالي لم تكن ناضجة كما يجب وولاءات المواطنين الأولية الإثنية والقبلية والطائفية لم تتراجع بالقدر الكافي لصالح الولاء القومي، وفي ظل الحكم الوطني من عام 1956 في السودان تراجع نضج مؤسسات الدولة، وبرزت الولاءات الأولية بصورة أضعفت الانتماء القومي هذه العوامل جعلت الشروط المطلوبة لنجاح الدولة الوطنية تتقاصر على المستويات المطلوبة، مفهوم الدولة الوطنية نفسه غير موصل بالقدر الكافي؛ مما فتح المجال لولاءات فوق قطرية، الاهتمام بإنضاج مؤسسات الدولة الحديثة وبلورة الولاء القومي الذي يعلو على الولاءات الأولية، ويكرس الولاء للدولة الوطنية من شروط نجاح التجربة الديمقراطية). الشاهد أن هناك تراجعاً خطيراً عن التحول المدني الديمقراطي لدى كثير من القوى السياسية والمدنية، وعلو صوت العسكرة والانحيازات لطرفي الحرب مما يكرس حالة الانقسام في المجتمع السوداني الذي غيرت الحرب أولوياته، ولم تعد الديمقراطية من بينها.

تاسعاً: كرست اتفاقيات السلام المعيبة نمط مكافأة الحركات المسلحة بإعطائها ما تبتغيه من نصيب في السلطة والثروة وصلت إلى حق تقرير المصير لجنوب السودان؛ مما أدى إلى انفصاله دون انتصار عسكري حاسم على الجيش السوداني، هذا السلوك عمق الأزمة، وجاءت الاتفاقيات التالية بذات النمط المتكرر؛ مما فتح الشهية لبروز نزعات مناطقية وكيانات جهوية على حساب الدولة الوطنية الموحدة تبحث عن نصيبها في السلطة والثروة تحت مسوغات التهميش والمظالم التنموية، مما أضعف الولاء والانتماء القومي.

ظلامية الواقع وقتامة المستقبل بمعطياته الراهنة يجب أن تكون دافعاً لإنتاج حلول وطنية تخرج البلاد من مأزق الحرب الراهن وتحمل وهجاً من ضوء وأمل للسودانيين، بالتأكيد هذا يتطلب الجراءة في استنباط الحلول السلمية لأخطر أزماتنا الوطنية، فالمخرج الأمن لا بد أن يستند إلى ركيزتين؛ الأولى الخروج من مستنقع الحرب وإعلاء راية الحل السلمي والثانية تحقيق التحول المدني الديمقراطي عبر مائدة مستديرة تقطع الطريق أمام شبح التقسيم وتبني على المشتركات في المجهودات والتفاهمات السابقة، لا سيما ما تم في القاهرة ونيروبي لصياغة مشروع وطني يعالج قضايا التأسيس والانتقال، يخاطب هموم وتطلعات الشعب السوداني ومقاصد ثورة ديسمبر المجيدة، يخاطب مشاغل طرفي الحرب، ويفتح حواراً مع الأطراف الإقليمية والدولية حول المصالح المشتركة ما بعد الحرب.

هذه المقاربة ممكنة، رغم التعقيدات المتزايدة وتزايد مخاوف التقسيم، إذا ما استحضرنا المسؤولية الوطنية والتاريخية التي لا تحتمل المراوغات والتكتيكات، فهناك مؤشرات يمكن تعزيزها لإيجاد حل شامل لهذه الأزمة العاتبة قبل أن تقود إلى تقسيم الوطن؛ أهمها:

أولاً: إدراك القوى السياسية والمدنية حتى تلك التي تدعم أحد طرفي الحرب بخطورة الوضع ومآلاته، وأبدت رغبتها وسعيها إلى الوصول إلى حل سلمي توافقي ينبثق عن حوار مائدة مستديرة تتوفر له الأجواء المواتية ليضع مبادئ وأسس وخريطة طريق لإعادة بناء الدولة السودانية على قاعدة من العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية.

ثانياً: أثبتت التجربة أن اجتماع المدنيين في طاولة واحدة وتحت سقف واحد والاتفاق فيما بينهم ممكن، على غرار ما تم في مؤتمر القاهرة وورشة نيروبي، والتي وضعت أساساً يمكن البناء عليه.

ثالثاً: عانت القضية السودانية كثيراً من التجزئة وتعدد المنابر، فالأزمة الراهنة مع اختلاف تجلياتها ومساراتها أزمة واحدة، بعد تعثر مباحثات سويسرا زادت القناعة بضرورة توحيد المنبر التفاوضي كمدخل لعملية سياسية شاملة تربط جذور الأزمات وأبعادها في حزمة واحدة؛ مجابهة الكارثة الإنسانية ووقف العدائيات والاتفاق على قضايا ما بعد الحرب.

رابعاً: ليس هناك حل عسكري ولا انتصارا كاملاً، وأن استمرار الحرب حتماً سيفجر الصراع في كل مناطق السودان وبين الجماعات المختلفة التي تتنافس للسيطرة على الأراضي أو الموارد أو النفوذ السياسي، وسينتج واحد من اثنين إما الحرب الأهلية الشاملة “الكل ضد الكل” أو تحريك مطالبات حق تقرير المصير، مما يفاقم الكارثة الإنسانية القائمة، ويؤدي إلى زيادة النزوح وتدفق اللاجئين، وتقييد قدرات الاستجابة الإنسانية إقليمياً ودولياً، هذه الصورة أصبحت جلية؛ مما جعل الشعب السوداني يتطلع إلى تحرك الحادبون لفتح أفق جـديد لحل باليد بدلاً عن حل السنون.

خامساً: التفاهمات الثنائية والمشتركة بين القوى السياسية والمدنية تؤكد بأن الحل في نهاية المطاف يتمثل في مشروع وطني جامع، وفي عقد اجتماعي جديد يتوصل إليه كل أهل السودان بمختلف أعراقهم وثقافاتهم وولاياتهم ليؤسسوا دولة تسع الجميع، وتضمن مشاركة الجميع في القرار الوطني، وفي الاقتسام العادل للثروة والسلطة وتأسيس النظام الديمقراطي القائم على العدالة ورد المظالم والمشاركة الجماعية في إدارة الشأن العام والتبادل السلمي للسلطة ليس على أساس ديكتاتورية الأغلبية إنما على أساس رعاية حقوق الأقلية واحترام تعددية وتنوع أهل السودان، فواجب المرحلة تطوير هذه التفاهمات الثنائية إلى تفاهم أوسع بأن تلتقي كل الجهود ليكون الحوار حراً ومفتوحاً حتى يُطور في وثيقة واحدة جامعة.

سادساً: المبادرات الخارجية تؤكد ضرورة أن يكون الحل بيد السودانيين أخذت بعين الاعتبار تعقيدات المشهد السوداني وأبعاده التاريخية وقضايا ما بعد الحرب وملكية السودانيين للعملية السياسية، كما أن معضلة “الفرجة” وانتظار الحل من الخارج غير مجدية، فالصحيح تحرك السودانيين أنفسهم لحل قضاياهم ليأتي الدور الخارجي داعماً ومكملاً وضامناً. كما أن المبادرات الخارجية وقعت فريسة لتضارب المصالح وتباعد الأجندات والتنافس وعدم الحياد وغياب الرؤية الكاملة لطبيعة الحرب وتعقيداتها وجـذور الأزمة التاريخية.

الحقيقة المجـ&#x