خبر ⁄سياسي

المستقبل الحضاري في السودان 2 3

المستقبل الحضاري في السودان 2 3

المستقبل الحضاري في السودان «2- 3»

الورقة التذكارية لمؤتمر اتحاد الكتاب السودانيين العام السادس: نسبنا الحضاري، قاعة الشارقة، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم، (24- 25 مارس 2013)، بمناسبة مرور نصف قرن على نشرها أول مرة للشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم

تعريف بالورقة التذكارية وإضاءة على دورها في الحراك الفكري والثقافي  

بقلم عبد الله الفكي البشير

عقد الستينيات في السودان: عقد المفارقات الفكرية والتناقضات السياسية والكبوات الكبرى

“أضع افتراضي الخاص بأن بلادنا ستكون في المستقبل القريب وتحت ضغط مطالبها الخاصة منبعاً للفتاوي الجريئة والتخفيف عن الناس وتيسير اللقاء بالله عبر كل الدروب. أقول إن الدعوات الجديدة في مجال الدين ستجد سندها الواقعي في السودان فكراً وتطبيقاً وأن العالم الإسلامي سيظل دائماً يتطلع إلى السودان كقيادة للتسامح والإحياء والتجديد في مجال الديانات”[1].

محمد المكي إبراهيم، 15 ديسمبر 1963

الأستاذة أسماء محمود محمد طه والشاعر محمد المكي إبراهيم والدكتور عبد الله الفكي البشير

حينما كتب الشاعر محمد المكي ورقته في بحر عقد الستينيات من القرن الماضي لم يتجاور عمره الأربعة والعشرين ربيعًا، وكان قد مضى على استقلال السودان سبع سنوات. كان العالم يعيش تراجع أمم وتقدم أخرى، ويشهد طيًا لثقافة استعمار الأرض والاستحواذ على خيرات الآخرين. كان عقد الستينيات عقد التحرير والثورات والخطاب القومي والعروبي والاتجاهات الزنُوجية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكان كذلك هو عقد الحقوق المدنية، وإدخال مفهوم التنوع الثقافي في الدساتير والقوانين والقواميس السياسية وحقول البحث العلمي. فقد برز مفهوم التنوع (التعدد) الثقافي لأول مرة، إلى الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية ومع إنشاء منظومة الأمم المتحدة[2]. ودخل مصطلح “التعددية “Pluralism” للتداول في حقل الدراسات الإثنية والسياسية عقب الحرب العالمية الثانية – من قبل فيرنفال J. S. Furnivall – وقد استوحى ذلك من واقع دراساته عن بلدان جنوب شرق آسيا، ولا سيما بورما وجاوا[3]. ثم بدأ الاهتمام السياسي بالإثنيات في عقد الستينيات في الولايات المتحدة الأمريكية، عقب انتصار حركة الحقوق المدنية (Civil Rights Movement) التي فجرها الأمريكيون المنحدرون من أصل إفريقي[4]. ثم تطوَّر مفهُوم التعدد الثقافي Multiculturalism ليشمل التعدد الديني وكريم المعتقدات واللغوي والعرقي، ويتضمن تعدد تعبيرات الجماعة والمجتمعات عن ثقافاتها، وأشكال انتقال هذه الثقافات، بالمضامين الحاملة لها، المستمدة من الهويات الثقافية أو المعبرة عنها[5]. ولم يكن السودان بمعزل عن انتصار حركة الحقوق المدنية، ولم يكن سؤال الهوية بمعزل عن المناخ الجديد في العالم مناخ الاهتمام السياسي بالإثنيات ومن ثم مفهوم التنوع- التعدد الثقافي.

كان مناخ عقد الستينيات وروحه في العالم، يختلف من دولة لأخرى، ففي ألمانيا كان عقدًا للندم والتكفير كما لاحظ المكي. أما إفريقيا فكانت في عقد الستينيات تعيش مرحلة رحيل المستعمر عن الأراضي، وليس العقول، فالمستعمر رحل عن الأرض بيد أنه ظل حتى اليوم مهيمنًا على العقول والقلوب[6]. شهد عقد الستينيات في إفريقيا بداية مرحلة البناء المتعثر لدولة ما بعد الاستقلال، وتبعتها ثقافة تغيير أنظمة الحكم عبر الثورات العسكرية. فحينما قامت ثورة 23 يوليو 1952م في القاهرة بقيادة اللواء محمد نجيب (1901م-1984م)، وأدت إلى خلع الملك فاروق (1920م-1965م) عن عرشه، وتحويل مصر من ملكية إلى جمهورية، لم تكن في إفريقيا سوى ثلاث دول فقط مستقلة وهي: إثيوبيا ومصر وليبيريا[7]. كانت ثورة 23 يوليو بقيادة اللواء محمد نجيب، وما لبث أن خلفه جمال عبد الناصر (1918م-1970م) في قيادة الثورة ورئاسة مصر في عام 1954م، فكان الخطاب العروبي القومي، وكان صيت عبد الناصر الزعيم العربي. ألقت ثورة 23 يوليو بظلالها وآثارها على كل إفريقيا: حركات التحرر، وتمدد ثقافة الثورات العسكرية التي غشيت الكثير من دول إفريقيا… إلخ، وكان الأثر الأكبر في السودان. كان لعقد الستينيات في السودان شأنٌ آخر. فقد شهد السودان في بحر الستينيات أعتى الأحداث والزلازل الفكرية والسياسية، وأضخم أنواع الإنتاج الفكري، فكان عقدًا للتناقضات السياسية والمفارقات الفكرية والكبوات الكبرى وبامتياز.

ففي عقد الستينيات في السودان، بدأ البث التلفزيوني من أم درمان، وزار الزعيم السوفيتي ليونيد برجنيف (1906م-1982م) السودان في نوفمبر عام 1961م[8]. وشهد عقد الستينيات طرح سؤال الهوية فشغل السوح الثقافية والفكرية. حدثني البروفيسور عبد السلام نور الدين في بحر عام 2011م، أن للشاعر محمد المكي إبراهيم مقالين في غاية الأهمية، المقال الأول عن الرق في السودان باللغة الإنجليزية وقد ألقاه كمحاضرة في دار اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، في عام 1963م، أما المقال الثاني فقد قرأت وسمعت أجزاءً منه قبل ديسمبر 1963م، عن السريالية في الأدب الشعبي السُّوداني. فخبر المقالين كان عندي موضع احتفاء، فقد وضعتهما ضمن قائمة الموضوعات التي تتطلب مني التنقيب في دار الوثائق القومية بالخرطوم، وهل هناك أروع من التمحيص والتنقيب عن المعارف وشغل الكبار والأفكار في مظانها؟ إن دار الوثائق القومية تدفع بنفسها للذكر في هذا المقام، بل لابد  لنا من ذكرها. فهي “ذاكرة السودان ومستودع تراثه الوثائقي”[9]، وحافظة أسراره، وهي الهادي في تشخيص عِللنا وأمراض وطننا، وتقبع في دهاليزها روشتات علاج أمراضنا، فلو أحسنا التواصل معها، قادة ومثقفين وأكاديميين وطلابًا… إلخ وعمَّقنا التعاطي مع مقتنياتها، وأكثرنا من الاستشارات لمحتوياتها، لتجذَّر النظرُ في قضايانا، ولكنا في صحة وعافية في حواراتنا وفي تشخيصنا للقضايا. فأسُّ قضايانا كما يقول البروفيسور عبد الله علي إبراهيم، هو في أزمة التشخيص. وأكثر ما يؤذي التشخيص، سذاجة النظر، وانخفاض السُّقوف المعرفية، وانقطاع القادة والساسة والمثقفين والأكاديميين والمشتغلين بالخدمة التنويرية عن الذاكرة والمستودع.

إن البحث والإنتاج بلا تعمق وتجذير للقضايا عبث وطفولة. كتب الشاعر محمد المكي إبراهيم في ورقته التذكارية، وهو يحث الناس على البحث والتنقيب، كتب قائلاً: “لأن البحث بلا مركز موجه عبث، والإنتاج دون الاستناد إلى محور هو الآخر طفولة”. تعود النواة الأولى لدار الوثائق إلى عام 1916م، حيث خصصت الإدارة البريطانية مكتبًا لجمع الأوراق المالية والقضائية ثم تطور الأمر في عام 1948م إلى تأسيس مكتب محفوظات السودان[10]. يقول الدكتور على صالح كرار، الأمين العام الأسبق للدار: “دار الوثائق… تعد من أقدم وأعرق دور الوثائق القومية بالعالمين العربي والإفريقي إذ تحتل من حيث الأقدمية المرتبة الثانية بعد دار الوثائق القومية المصرية، وتعود جذورها التأريخية إلى عام 1916م”[11].  تولى إدارة مكتب محفوظات السودان، البريطاني بيتر مالكوم هولت Peter Malcolm Holt (1918م- 2006م). لقد جاء البروفيسور محمد إبراهيم أبو سليم (1927م-2004م) مساعدًا لهولت ثم خلفه في مهمته بعد السودنة. لقد شهد عقد الستينيات تعديل مكتب محفوظات السودان إلى دار الوثائق المركزية، وذلك بموجب قانون دار الوثائق المركزية لسنة 1965م[12]. ثم في عام 1982م عُدلت مفردات القانون، وبموجب ذلك التعديل أضحت الدار هيئة ذات شخصية اعتبارية تُعرف بدار الوثائق القومية[13].

ارتبط سؤال الهوية في عقد الستينيات بأطروحات الغابة والصحراء والتي سرعان ما تحولت إلى تيار. لقد ولدت فكرة الغابة والصحراء في ألمانيا مع الخطوة التي غيرت حياة المكي. كتب المكي في “التاريخ الشخصي للغابة والصحراء”، قائلاً: “لقد سجلت مرارًا وتكرارًا أن تسمية (الغابة والصحراء) من ابتكار الأستاذ النور عثمان أبكر. وكنا قد أدرنا بيننا حوارًا حول تلك الشؤون، وكانت له أفكار سباقة عن التكوينات العرقية للسودان”. وعن الميلاد الحقيقي لتيار الغابة والصحراء يقول المكي: “وفى واحد من إضرابات الجامعة أقفلوها وطلبوا منا مغادرة الداخليات إلى حين إشعارٍ آخر. وكان متوقعًا ألا يستغرق ذلك طويل زمان، فدعاني محمد عبد الحي للبقاء معه في بيت جدته (لها الرحمة والغفران) بدلا من السفر إلى مدني (في حالته) والأبيض (في حالتي).  تأخر فتح الجامعة أكثر من ما توقعنا، فامتدت إقامتنا عند جدته المبرورة إلى قريب من الشهر. وكان ذلك الشهر هو الميلاد الحقيقي لتيار (الغابة والصحراء)”. ففي هذا المناخ في عقد الستينيات كان كتاب المكي: الفكر السوداني: أصوله وتطوره، يتخلق. كتب المكي وهو لا يزال، بمعية محمد عبد الحي (1944م-1989م) في بيت جدته، كتب قائلاً: “وأطلعت محمدًا على بعض الفصول التي سجلتها من كتابي (الفكر السوداني: أصوله وتطوره)، وهو محاولة لاستكشاف العناصر المكونة للثقافة السودانية في بدايات تخلقها في العصر الفونجى، وإعادة ترتيب مراحل نشوء الفكر السوداني على ضوء التزامه بتلك العناصر الأصيلة”[14]. كما شهد ذلك المناخ في عقد الستينيات مجئ قصيدة محمد عبد الحي، القصيدة الباذخة في فلسفة الهوية وتجذير الوعي، والمتعمقة في البحث عن الذات لحد توهان قارئها، وهي قصيدة: “العودة إلى سنار”. يقول المكي: “وكان وبينما كنت أجاهد متنقلاً بين المادة الخام لذلك البحث وإعداد مخطوطته الأولى كان محمد ينغمسُ في إعداد واحد من أهم أعماله وأحقها بالخلود، فقد كان يكتب قصيدته الكبرى عن (العودة إلى سنار)” [15].

تحدث المكي عن موت تيار الغابة والصحراء والعوامل التي بعثته من جديد، كتب المكي قائلاً: “بعد ظهور تيار الغابة والصحراء، ثم إعلان موته بعد ذلك بسنوات، خفت صوته، وأقفلت ملفاته، وانشغل كل عنه بما شغله. ولكن حدثًا خارجيًّا قُيضَ له أن يبعث الحركة من مرقدها مرة أخرى  ولأسباب لا تمت إلى الآداب والفنون بصلة وثيقة”. كان السبب كما يقول المكي: “ففي أوائل السبعينيات تبدى فشل السياسات الاقتصادية للدولة المايوية… وتزامن ذلك مع الطفرة البترولية التي أعقبت حرب أكتوبر 1973م، فانفتحت أبواب التوظيف للسودانيين في الدول البترولية الخليجية المجاورة، وسرت حمى الاغتراب في نفوس الشباب بشكل مؤثر”[16]. ويضيف المكي قائلاً: “حمل المغتربون السودانيون معهم إلى السعودية والخليج نفس الأفكار الساذجة وغير الواقعية التي يحملها السودانيون في أذهانهم عن العرب… ولكنهم فوجئوا بأن الأقاصيص التراثية لا تمثل الواقع، ولا تنتمي إليه، … ونشأ عن ذلك إحباط عميق ورغبة في التخلي عن انتماء بدا أقل كثيرًا من الصورة التي حملوها عنه… وفي تلك الظروف لم يجدوا ما يتكئون عليه سوى سودانيتهم، أي أفرو-عروبيتهم) أو بصيغة أخرى (غابو- صحراويتهم”. وعن أثر ذلك الحدث، حدث الاغتراب واكتشاف التناقضات، في تيار الغابة والصحراء، يقول المكي: “كان ذلك حقنة في الذراع لتيار الغابة والصحراء. لكنه لم يكن نجدة فنية أو أدبية لمدرسة تتخصص في الآداب والفنون، وإنما كان تأسيسًا لتيار اجتماعي أو إثنى يساعد المعنيين في تحديد هويتهم وممايزتها عن الهويات العربية الأخرى”[17]. وأضاف المكي وهو يتحدث عن السودان الجديد قائلاً: “ثم دخل الحلبة عنصر جديد هو فكر حركة التمرد الثانية التي قادها الزعيم الوطني جون قرنق دي مبيور مناديًا بالسودان الجديد الذي تتعايش فيه كل الإثنيات في مساواة وسلام. وبلغت الحركة أقصى مداها الفكري مع إعلان الجهاد عليها من قبل حكم الإنقاذ ممَّا خلق أزمة فكرية لدى أجيال من السودانيين عبرت عن نفسها بأشكال متعددة منها التعاطف ومنها الانتماء الصريح”[18]. ثم تحدث عن العودة الثانية، كتب المكي قائلاً: “ومن كل ذلك عادت الآفروعروبية إلى الظهور، وواكبها تيار إفريقانى. يمكن اعتباره صورة متطرفة تقع على يسارها، بينما تلقى التيار الواقف على يمينها ضربات قاصمة، وهو تيار العروبة الخالصة الذي يحاول بعض الكتاب المرتبكين بعثه في أكفانه المهترئة”[19].

وشهد عقد الستينات رئاسة الإمام الصادق المهدي للجبهة القومية المتحدة (1961- 1964م) خلفًا لوالده الصديق (1911-1961). كان السيد الصديق قد تقلد إمامة الأنصار إثر وفاة والده الإمام عبد الرحمن المهدي، إمام الأنصار، وراعي حزب الأمة، في مارس 1959م. ثم انتخب الإمام الصادق رئيسًا لحزب الأمة في نوفمبر 1964م، كما انتخب رئيسًا لوزراء السودان (25 يوليو 1966- مايو 1967م). كتب الصادق في عقد الستينيات بعض الكتب، منها كتابه: مسألة جنوب السودان. وشهد عقد الستينيات بداية الخلافات بين السيد محمد أحمد المحجوب (1908م- 1976م)، والإمام الصادق المهدي مما أدى إلى انقسام حزب الأمة[20]. عاد الحزب وتوحَّد وأعلن ذلك رسميَّا في أبريل 1969م، رفض محمد أحمد محجوب الأسس التي تمت عليها وحدة الحزب، وكان حينها رئيسًا للوزراء، فقدم استقالته[21]، وكان ذلك قبل شهر وبضعة أيام، من انقلاب 25 مايو 1969م. كما شهد عقد الستينيات اندماج حزب الشعب الديمقراطي برئاسة الشيخ علي عبد الرحمن الأمين (1906م-1983م) مع الحزب الوطني الاتحادي في عام 1965م، وتم تكوين الحزب الاتحادي الديمقراطي، برئاسة إسماعيل الأزهري (1900م-1969م)، وأصبح الشيخ على نائبًا للرئيس[22]. وفي عقد الستينات انتقل إلى الرفيق الأعلى السيد علي الميرغني (73/79/1880-1968م)، مرشد طائفة الختمية. وفي عقد الستينات أنجز الدكتور حسن عبد الله الترابي دراساته العُليا في جامعة السوربون بفرنسا، وعاد للسودان فأصبح في بحر الستينيات الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي.

وفي عقد الستينيات هبت ثورة أكتوبر المجيدة عام 1964م، وهي من الثورات الفريدة في التاريخ كما وصفها الأستاذ محمود محمد طه. لقد كتب الأستاذ محمود قائلاً: “إن ثورة أكتوبر ثورة فريدة في التاريخ، وهي لم تجد تقويمها الصحيح إلى الآن، لأنها لا تزال قريبة عهد، فلم تدخل التاريخ بالقدر الكافي الذي يجعل تقويمها تقويمًا علميَّا مُمكنًا.. ولقد يكفي أن يقال الآن إنها ثورة فريدة في التاريخ المعاصر تَمكَّن بها شعبٌ أعزل من إسقاط نظام عسكرd