خبر ⁄سياسي

ولاية قيس سعيد و5 سنوات من بورقيبة وبن علي والثورة

ولاية قيس سعيد و5 سنوات من بورقيبة وبن علي والثورة

"الإجابة تونس"؛ لطالما ترددت هذه العبارة على لسان المتحمسين للربيع العربي خلال سنواته الأولى التي بدت فيها تونس النموذج الذي يقدم جوابا للمعضلات الصعبة والأسئلة الشائكة.

من جانبهم، كان الإسلاميون السياسيون في العالم العربي وحتى الأمس القريب يعتبرون تجربة إخوانهم في قرطاج هي الأنجح، بعد أن شكَّلوا ضلعا أصيلا في الحكم ونجحوا في تفادي محاولات إقصائهم لفترة طويلة.

وحتى العلمانيون رأوا تونس مثالا يُحتذى به، فهي الدولة القادمة من ماضٍ لائكي عريق نافح عنه بورقيبة ومن بعده بن علي، لتأتي الثورة وتُضفي عبق الياسمين على هذه العلمانية وتمنحها مسحةً من الحرية، لكن الشعب التونسي نفسه كان يرى نفسه وثورته بصورة مختلفة عن أولئك الناظرين إليها من الخارج.

لقد كابد التونسيون احتلالا فرنسيا خانقا دام زهاء ثمانية عقود، تلقَّفتهم بعدها أيادي الأنظمة "البوليسية" لخمسة عقود ونيف، حُرم خلالها الشعب التونسي من حقه في الحرية والكرامة، بل وفي العيش، فكانت نيران البوعزيزي نهاية عام 2010 هي ما أشعلت الثورة في تونس ومنها انتقلت إلى العالم العربي بأسره.

ومع الثورة، حلم التونسيون بحياة أفضل، متخيلين أن تصدُّرهم طليعة المبشرين بالحرية سوف يمنحهم نصيبا وافرا من كعكة الغد الأفضل، لكن الكثير من هذه الأحلام أضحى سرابا.

صحيح أن تونس لم تنزلق إلى ديكتاتورية عسكرية صريحة ولم تضربها الحروب الأهلية كما حدث لجيران الربيع العربي، لكنها نالت حظها الوافر من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وأوشكت أن تودِّع التعددية السياسية نحو حكم أحادي وإن تغلَّف بغلاف ديمقراطي.

فقبل سنوات خمس من اليوم، وصل قيس سعيد إلى كرسي الحكم مشفوعا بدعم سياسي وشعبي كبيرين، ومصحوبا بتفاؤل جامح أن الأستاذ الجامعي، القادم من خارج عوالم السياسية، ربما يحمل إكسير الشفاء لسنوات التخبط السياسي ما بعد الثورة.

واليوم يخوض قيس سعيد رحلته الانتخابية نحو ولاية ثانية، مع تفاؤل أقل واستقطاب أوسع، وهو ما يدفعنا إلى إعادة قراءة صفحة قيس سعيد في كتاب التاريخ التونسي، من خلال عناوين ثلاثة، اختصارا لا إخلالا.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) والرئيس التونسي قيس سعيد (رويترز)

العنوان الأول: أنا

"أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا

وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي

أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ"

 

أبو الطيب المتنبي

 

في أكتوبر/تشرين الأول 2019، شقَّ قيس سعيد طريقه إلى قصر قرطاج بأريحية كبيرة ربما لم يتوقعها الأستاذ الجامعي حين قرر خوض غمار السياسة من الباب الكبير، بعدما حصد 72.71% من أصوات التونسيين في الجولة الثانية من انتخابات شهدت مشاركة 57.8% من مجموع الناخبين الذين دغدغتهم وعود قيس سعيد بقطع جميع العلائق مع الزمن الذي ولّى، زمن الفساد والرشوة والمحسوبية.

لم يدرِ أحد كيف سيُنفِّذ قيس سعيد هذا الوعد بالضبط، بمَن في ذلك مناصروه المتحمسون ودوائره الأكثر قربا.

كان "مشروع" قيس سعيد -إن صح وصفه كذلك- شعبويا إلى حدٍّ كبير، وفقيرا في التفاصيل إلى أبعد مدى، لكن سِمَتُه الرئيسية كانت أنه وضع مسافة شاسعة بينه وبين الطبقات السياسية والمؤسسات والنخب التقليدية في تونس، معتمدا على استقطاب الشباب المحبط من الثورة التي لم تقدم إجابات عن جميع المطالب التي رفعها التونسيون بعد أن هرموا في انتظار اللحظة التي يتنحى فيها بن علي من على كرسي السلطة.

وصف موقع "أورينت 21" الحملة الانتخابية لقيس سعيد بأنها "فريدة، وغير مكلفة"، وأنها "حملة رئاسية بدون حملة انتخابية ولا أدوات تسويقية سياسية ولا أية وسائل توفرها الدولة".

كان الجزء الأهم من هذه الحملة هم الشباب المؤمن بمشروع مختلف لا يرى أية ضرورة في الانضواء تحت شعار هذا الحزب أو ذاك، ويؤمن بوجود طريق مختصر أكثر وضوحا هو إحداث تغيير حقيقي من خلال مساندة رجل لا تُعد استقامته ونزاهته محل تشكيك من أي طرف.

مَثَّلت هذه الخلفية المتواضعة سياسيا، والمستقيمة شخصيا، وغير المنحازة أيديولوجيا، مفارقة واضحة مع كل ما ينفر منه التونسيون بشأن السياسيين التقليديين، ومنحت سعيد رمزية لا تُقدَّر بثمن.

لذلك، لم يحتج الرجل إلى تقديم رؤية حقيقية أو مقترحات ملموسة للظفر بثقة داعميه، الذين رضوا منه بالوعود الكلاسيكية حول محاربة الفساد واحترام الدستور والقوانين وإعادة الشباب إلى الحياة السياسية ثم تحييد الأحزاب السياسية وبناء دولة قوية برئيس يجسد إرادة الشعب.

بدأت إرهاصات النجاح تقترب من قيس سعيد بعد أن وصل إلى الجولة الثانية من الانتخابات التي خاضها ضد مرشح مجرد من العديد من الامتيازات هو نبيل القروي، الذي كان يواجه تهما بغسيل أموال وفساد احتُجز على إثرها خلال حملته الانتخابية التي كان عليه أن يكملها من وراء القضبان.

لذلك كان انتصار قيس سعيد شبه حتمي، خصوصا بعد حصوله على دعم حزب النهضة في جولة الإعادة، وغيرهم، فضلا عن دعم اليسار والقوميين العرب.

لقد أجمع الجميع أنه يجب عدم السماح للقروي بأن يصل إلى كرسي الحكم، في الوقت نفسه فإن داعمي سعيد الجدد الذين انحازوا له اضطرارا ظنوه للوهلة الأولى شخصا سهل المراس سياسيا، فهو قادم من ماضٍ أكاديمي وليس محسوبا على تيار سياسي يحميه أو يستقوي به، ولا يمتلك علاقات قوية مع الدولة العميقة.

لكن سرعان ما تكشفت الحقيقة أمام الجميع حين بدأ سعيد في تطبيق رؤيته الخاصة للنظام الدستوري في تونس، وكانت رؤية "غير تقليدية" في أدنى الأحوال.

الرئيس التونسي قيس سعيد (يمين) والرئيس الصيني شي جين بينغ (صفحة رئاسة الجمهورية التونسية)

رأى الرئيس الجديد أن ممارسة الشعب للسلطة تعني بالضرورة التخلص من النظام البرلماني ومن النخب "الفاسدة"، بل ومن الأحزاب السياسية كونها "الهيئات الوسيطة" التي تحتكر إرادة الشعب، فلا تنفذها ولا تخرجها للواقع.

أما الحل أو البديل فيكمن في منصب رئيس الجمهورية الذي يعمل خادما للشعب وصوتا له ومحاربا للفساد وجامعا لصفوف التونسيين.

شرع سعيد في إنزال رؤيته "الطوباوية" إلى أرض الواقع في 25 يوليو/تموز 2021، من خلال إجراءات استثنائية تضمنت عزل رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتولّيه السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة يعيّنه بنفسه، مع تجميد عمل مجلس النواب، ورفع الحصانة عن النواب.

عُرفت هذه الإجراءات إعلاميا بـ"الانقلاب الدستوري"، وقد أعلن خلالها سعيد نفسه ملكا لقرطاج، لا يُسأل عما يفعل، وخصومه يُسألون.

اختصر الرئيس التونسي جميع مشكلات بلاده في "الدستور"، لذلك في ذكرى قيام الجمهورية، وبعد عام بالتمام والكمال من "الانقلاب الدستوري"، نظَّم استفتاءً حول دستور جديد أعاد تونس إلى النظام الرئاسي الذي يحتكر فيه الرئيس السلطات بدلا من النظام المختلط الذي يجري فيه تقاسم السلطة بين الرئيس والحكومة "البرلمان"، كما قلَّص صلاحيات البرلمان بشكل كبير.

وفي 17 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، ذكرى بداية الاحتجاجات في تونس ضد نظام بن علي، نظَّم قيس سعيد انتخابات تشريعية مبكرة بعد أن أخفى خصومه الرئيسيين في غياهب السجن أو في سراديب التهميش.

أحاط سعيد نفسه بعدها بمجموعة مختلفة تماما ومتباينة المشارب في الفترة الجديدة، ففي الصف نفسه، نجد رضا المكي، الشهير برضا "لينين"، الناشط السابق في اليسار الراديكالي، ونجد أيضا نوفل سعيد، وهو أخو الرئيس المتأثر بأفكار المفكر الشهير علي شريعتي الذي يُعتقد أن لديه علاقات جيدة مع إيران.

ولكن خلف هذه التوليفة المتنوعة و"المتغيرة باستمرار" يقف سعيد بمفرده حاكما بأمره، في مسرح السياسة في تونس وفق تعبير صحيفة "لوموند"، وهو أمر يبدو غريبا لرجل لا ينتمي إلى الطبقة العسكرية أو إلى رجال الدولة العميقة الذين يشتهرون بالوصول إلى سُدَّة الحكم ثم إغلاق باب التعددية خلفهم.

العنوان الثاني: الحرية

 

"الشعب التونسي حر

الشعب التونسي ما يموتش

المجد للشهداء

الحرية للتوانسة

بن علي هرب.. بن علي هرب".

  • المحامي التونسي عبد الناصر العويني

 

لا يمكن فهم قصة قيس سعيد جيدا بمعزل عن رجل آخر كان طيفه حاضرا في العديد من تحركات الرئيس التونسي وقراراته. ستحط طائرة هذا الرجل، راشد الغنوشي، أرض بلاده بعد 20 عاما قضاها في المنفى، في لحظة عاطفية للغاية استقبله فيها أنصاره بنشيد "طلع البدر علينا" بعد أسبوعين اثنين فقط من خسوف قمر زين العابدين بن علي.

لم يكن من الصعب أن يُحسَب الغنوشي وحركة النهضة على معسكر الثورة، فقد عانوا كالعديد من الإسلاميين من تهميش واضح وقمع بوليسي وتشويه إعلامي فاضح وتغريب قسري في زمان بن علي.

ومنذ الوهلة الأولى، أظهرت النهضة براغماتية سياسية وتفادت -قدر المستطاع- أية خصومات أو مواجهات مع منافسيها حتى أولئك الذين بادروها بالعداء. وفي انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر/تشرين الأول عام 2011، حصلت الحركة على نسبة 37% من الأصوات تُرجمت إلى نحو 42% من المقاعد.

كانت النهضة تواجه تحديا قويا في هذه الفترة، فمن جهة لديها قواعد غير متحمسة لجميع التحالفات "غير المتجانسة"، وتُفضِّل الوفاء للأفكار الإسلامية التي قامت عليها الحركة الإسلامية في تونس، ومن جهة ثانية، كان هناك العداء الكبير الذي تواجهه الحركة إقليميا بفعل موجة العداء للإسلام السياسي إقليميا، ومن جهة ثالثة كانت هناك المخاوف الخاصة المتزايدة في تونس "ذات الماضي العلماني القريب" من أن محاولة تطبيق الأفكار الإسلامية سوف يقود إما إلى نموذج دولة دينية على غرار إيران، وإما إلى بحور من الدم على شاكلة الجزائر.

عمل إخوان راشد الغنوشي على طمأنة الجميع، وأكدوا استعدادهم للرجوع خطوة من أجل أن تتقدم تونس خطوات إلى الأمام، فعقدوا تحالفات مع حزب المؤتمر برئاسة المنصف المرزوقي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات بقيادة مصطفى بن جعفر، ومنذ ذلك الحين باتت حركة النهضة الرقم الرئيسي في نظام ما بعد بن علي رغم تعدد الحكومات.

ارتكزت حركة النهضة على الشرعية الانتخابية في معاركها مع خصومها، رغم أن الغنوشي كان يدرك جيدا أن هذه الشرعية قد تتآكل بسبب تراجع نتائج الحركة مع مرور الوقت في الاستحقاقات الانتخابية التي تخوضها.

كان إسلاميو تونس يعون جيدا أيضا أن الأجواء تتبدل من حولهم، وأن رفاق الطريق في دول أخرى انتهى بهم الأمر خارج السلطة تماما، أو في السجون، لذلك كان بديهيا أن الشرعية الانتخابية لن تحمي من ارتداد محتمل عن الديمقراطية بأسرها، لذلك وضع الغنوشي وإخوانه الأفكار والأيديولوجيا في الخلف، وتحالفوا مع أشخاص منهم مَن يُحسَب على بقايا النظام السابق، ومنهم مَن يختلف فكريا مع النهضة، كحزب نداء تونس.

استفادت حركة النهضة كثيرا خلال فترة رئاسة الباجي قايد السبسي، الرجل المحسوب على العهد البورقيبي الذي كان أكثر ضعفا من أن يحكم بمفرده ويجر البلاد نحو السلطوية أو حتى ليضبط الشأن الداخلي لحزبه الذي بدأ يتفكك بسهولة بسبب الخلافات بين التيارات المختلفة التي شكَّلته.

في الحقيقة، كان الخصمان الأيديولوجيان، الغنوشي والسبسي، متفقين على العديد من الأمور، حتى إن حركة النهضة دعمت الإصلاحات التي أوصت بها الجهات الدائنة لتونس، كما دعمت قانون المصالحة مع المتهمين بالفساد في زمان بن علي.

زعيم حزب النهضة الإسلامي التونسي راشد الغنوشي (رويترز)

وعندما كانت هذه الاتفاقات والتحالفات والتوازنات السياسية تتم في تونس بين النهضة وشركائها المختلفين في لعبة كراسي موسيقية أثبتت عدم نجاعتها في إيجاد الدواء للشعب التونسي الذي كان يعيش وضعا اقتصاديا مترديا، كان قيس سعيد يدخل على استحياء في "مستنقع" السياسة، ربما لم يكن يعلم أنه سيكون رئيسا لهذه البلاد بعد سنوات قليلة، في الحقيقة، لم يكن أحد يتوقع آنذاك أن تتداعى الأمور بهذه الطريقة على الإطلاق.

في عام 2013، كان قيس سعيد يشارك في بعض الاجتماعات السياسية المتواضعة مع بعض الشباب الذين كانوا يحسون بمرارة "سرقة" ثورتهم من طرف السياسيين، مجموعة شباب تتفق مع سعيد في الكثير من الأمور وعلى رأسها كُره السياسيين.

أثمرت هذه الاجتماعات إنشاء حركة "مؤسسون"، وهي حركة شبابية تكفر بالوضع السياسي الحالي، وتُبشِّر في المدن والقرى والبلدان والمناطق النائية بكلام رجل مستقيم ومختلف عن السياسيين المتلونين يُدعى قيس سعيد.

بعد 5 سنوات من ذلك، ستبدأ بوادر الانهيار السياسي لـ"أهل الحل والعقد" في زمان ما بعد الثورة، بعدما خسر الإسلاميون نصف ناخبيهم في الانتخابات مقارنة مع عام 2014، وخسر السبسي وحزبه ثلثي ناخبيه، وعززت هذه النتائج الأمل في هذا التيار الجديد الذي يحلم بتغيير سياسي مختلف يقلب الوضع في البلاد رأسا على عقب، لكن كل هذا كان مجرد أمل.

وبحلول 25 يوليو/تموز 2019، استفاق التونسيون على خبر وفاة الباجي القايد السبسي عن عمر يناهز 92 سنة، وهو الذي جاء بوصفه ثاني رئيس للبلاد بعد ثورة قادها الشباب على فيسبوك.

تبع رحيل السبسي دعوة حتمية لانتخابات مبكرة، حينها كان الجميع يبحثون ليس فقط عن خليفة للسبسي، ولكن عن رجل يُخرِج البلاد من الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها، فالبطالة وصلت إلى نحو 16%، والدين العام إلى 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وأضحت قروض بنك النقد الدولي ممولا رئيسيا للبلاد التي حصلت على 4 قروض خلال عقد واحد فقط.

سياسيا ظهرت تيارات جديدة تريد مكانا لها في المشهد الجديد، فقد تأسس "ائتلاف الكرامة" الإسلامي الذي d