خبر ⁄سياسي

السودان القتال المميت: ما بين الفشل الجماعي والأمل في النهوض

السودان القتال المميت: ما بين الفشل الجماعي والأمل في النهوض

 

بقلم هالة الكارب    

 لا شك أن الصراع الذي يدور في السودان هو صراع وجودي في المقام الأول يهدد فكرة بقاء الدولة السودانية والسودان كبلد موحد، حيث لا يلوح في الأفق مؤشر لرؤية واضحة حول عملية التفاوض ما بين تعدد الفاعلين وتعقيدات دوائر المصالح والضعف المريع والتشظي في الجبهة الداخلية السودانية وغياب القيادة والرؤية نحو تطوير عملية سياسية شاملة وصيغة للتفاوض ما بين الأطراف المتناحرة.

منذ خمس أعوام  كان  هنالك أمل للوصول  لحكم ديمقراطي ودولة تعبر عن السودانيين والسودانيات وفقًا لخلفياتهم/هن المتنوعة وأولوياتهم/هن  ورؤاهم/هن ، الآن و حسب وصف الأمين العام للأمم المتحدة  للأوضاع في السودان بأنها “كارثة إنسانية فادحة”،  وقد صرح  المستشار الخاص للأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية “أن   احتمالات  الإبادة جماعية يمكن أن تتمدد في إقليم دارفور” وفي الواقع نحن كلنا  شهود عيان وضحايا في نفس الوقت ، للكم الهائل من الفظائع التي ارتكبت  والمجازر في عموم بلاد السودان، وتدمير البنى التحتية و انهيار القطاع الصحي والتعليمي ونهب وتدمير المنازل و البنوك و الأسواق والأعمال الصغيرة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص والاثار  ومراكز البحوث والمدارس والجامعات  والمصانع .

والشاهد في الامر أن الملايين من السودانيين والسودانيات قد فروا وتركوا منازلهم التي استولت عليها ونهبتها مليشيا الدعم السريع.  أما أعداد الضحايا من المدنيين الذين قتلوا جراء الحرب فلا يقل وفق لتقديرات هيئات الإغاثة الدولية عن ال 50 ألف وإذا أضفنا من قتلوا جراء الأمراض والجوع فقد تصل الأعداد بسهولة إلى ما يفوق ال 150 ألف منذ قيام الحرب. بينما وصلت أعداد النازحين بعد استيلاء المليشيات على مناطق شمال النيل الأزرق وولاية سنار إلى 12 مليون نازح وهو الأكبر في العالم. ولا يقل عدد الذين لجأوا إلى البلدان المجاورة عن 5 مليون لاجئ وما لا يقل عن 19 مليون طفل فقدوا فرصهم في الدراسة، والملايين من طلبة الجامعات قد لا يتمكنون من استكمال دراستهم. يحدث كل هذا وكأننا نحن السودانيون يتم عقابنا بشكل جماعي لمجرد آمالنا في تحقيق الديمقراطية والسلام والعدالة.

وصدقاً يمكن القول إن الأجواء التي كانت تحيط بالثورة السودانية والطموحات نحو الديمقراطية والعدالة لم تكن مهيئة إن لم تكن عدائية. بالنظر لمواقف أنظمة الدول حول السودان نجد أن كل دول الجوار كانت قلقة من احتمالات التغيير في السودان وسرديات العدالة والحرية والسلام، حيث كان الهم الأساسي للفاعلين في دول الإقليم هو كيفية إيقاف وتحجيم احتمالات التحول الديمقراطي قبل أن تصبح الثورة عدوى منتشرة يصعب التحكم فيها ما بين شعوب المنطقة.

ورغم أن هنالك العديد من الأخطاء التي ارتكبت من قبل الفاعلين الإقليمين والدوليين فيما يخص السودان، إلا أن الأخطاء الجوهرية التي أوصلتنا لهذا الوضع المروع الذي نحن فيه هي سلسلة أخطاء النخب السودانية من القادة العسكريين والنخب السياسية المدنية فأصبح السودان فريسة سهلة لكل الطامحين.

لعقود من الزمان تم حرمان المعارضة السودانية المتمثلة في الأحزاب والكتل السياسية من الوصول إلى السلطة. حيث مارس نظام المؤتمر الوطني قسوةً وقهرًا لا متناهي في التعامل مع المعارضين من السجن، والقتل، والتنكيل، والمراقبة. أنتج ذلك بنية سياسية مركز مشروعها هو التخلص من نظام المؤتمر الوطني الذي امتد ل 30 عامًا.  وأصبح الوصول إلى السلطة في حد ذاته هو مشروع ومبرر لوجود المعارضة السياسية، مع غياب تام للتصورات حول أي مشروع تغيير وحكم واضح الملامح يأخذ في الاعتبار مقدار التعقيدات المتراكمة وإرث الظلامات. ورغم عظمة الثورة السودانية إلا أنها ثورة ولدت يتيمة، فالصراع الذي حدث حولها وفي أعقابها كان معزولاً عنها وعن تطلعاتها إلى حد كبير ومتركزًا في كيفية الاستحواذ على السلطة في المقام الأول وهو أمر مشروع، ولكن هذه الرغبة الجامحة في الاستحواذ على السلطة لم تكن مقرونة باستراتيجيات أو معارف أو على الأقل السعي الجاد لبناء مشاريع متماسكة للتغيير. فما بين غياب القيادة والنهم للسلطة وفي نفس الوقت انعدام الخبرة في التعامل مع تعقيدات الواقع السياسي والأمني بالسودان والغرور، كل ذلك أوصلنا إلى الخامس عشر من إبريل 2023، عندما وجد السودانيون والسودانيات أنفسهم في مصيدة وحشية لمليشيا مسلحة ذات تاريخ دموي، وقيادات جيش ضعيفة وفاسدة، فشلت حتى في حمايتهم وحماية جنودها، وساسة مستقطبين ما بين دول الإقليم غير مستعدين وغير قادرين على مواجهة الأزمة وتداعياتها.

منذ بداية الثمانينات مرورًا بحقبة الديمقراطية الثالثة وتحت ظل نظام البشير والجبهة الاسلامية ظل السودان عرضة لأوقات عصيبة وحروبات داخلية وجرائم حرب وعنف ممنهج. حيث عاشت البلاد عقودًا من العزلة الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية التي اثرت على أجيال من السودانيين وحرمت السودان من العديد من المنافع الاقتصادية والثقافية التي كان يمكن أن تغيير من واقع الحال، ومع حلول العام 2019 كان الوضع في السودان غاية في الخطورة والبلد على حافة الانهيار والفساد يستشرى في نسق تصاعدي غير مسبوق..

ففي سنواته الاخيرة فقد البشير الثقة في حلفائه من منسوبي نظام المؤتمر الوطني/ الجبهة الإسلامية، وعمل جاهدًا على إضعاف الجيش لحماية نفسه ومصالحة من احتمالات الانقلاب العسكري.  وفي المقابل عمل على تقوية الدعم السريع /الجنجويد، تلك المليشيا القبلية التي استثمرت فيها الأنظمة السودانية المتوالية بداية من حكومة الوفاق الوطني خلال حقبة الديمقراطية الثالثة عندما كان الراحل الصادق المهدي رئيس الوزراء والتي شهدت التحالف ما بين حزب الأمة وتنظيم الجبهة الإسلامية الذين استثمروا في مليشيات “المراحيل” وتجنيد قبائل الرعاة في الحرب ضد الجيش  [1] الشعبي في جنوب السودان وفي جبال النوبة وشمال بحر الغزال ومناطق أبيي. وقد [2]راكمت المليشيات العربية الرعوية في تلك المناطق تواريخ مظلمة في قتل المدنيين واسترقاقهم وارتكاب المذابح الجماعية وجرائم العنف الجنسي نيابة عن الأنظمة الحاكمة في السودان. وتظل الحقيقة الماثلة أن الدولة السودانية والمؤسسة العسكرية قد استثمرت في عسكرة القبائل العربية الرعوية واستغلت ضعف وغياب التعليم والتنمية وتواطؤ النخب من المجموعات الرعوية في المتاجرة بالشباب واستخدامهم كوقود للحرب والعداءات ما بين تلك المجتمعات وجيرانهم لصالح النخب المدنية والعسكرية. وبالتالي خلق ذلك أوضاعًا لا انتصار فيها إلا للجهل والدمار الذي استمر ما يزيد على النصف قرن من الزمان في مناطق دارفور وكردفان. حيث تمدد هذا العنف ليشمل كل السودان مع تمدد الظروف والملابسات التي أسست له، من ضعف الاستثمار في التعليم والتدريب والتوظيف والفقر والعزلة والتطرف الديني. فأصبحت العسكرة هي مصدر رزق للعديد من المجتمعات الريفية في السودان، بداية من كتائب الدفاع الشعبي وانتهاءً بالدعم السريع. وفي العقد الأخير من سنوات حكمه لم يجد البشير حليفًا أفضل من محمد حمدان دقلو  (حميدتي) الذي نال حظوة وثقة البشير المطلقة، حيث كان حميدتي تلميذًا نجيبًا وأكثر فعالية في الاستجابة لرغبات البشير ونظامه الإجرامي في إبادة السودانيين وسرقة   وانتزاع الموارد المعدنية والأنشطة خارج القانون والمتاجرة في الشباب وتجنيدهم كمرتزقة في الحروب في اليمن وليبيا.

وفي صبيحة الحادي عشر من إبريل للعام 2019، عند سقوط نظام البشير، كانت هنالك العديد من الجيوش في الداخل والقوى السياسية ودول المنطقة تراقب الوضع في السودان وتقرر ما الذي يمكن أن تجنيه من هذا التغيير. ومن ناحية أخرى ونسبة لتغلغلهم في المؤسسة العسكرية وبنية الدولة السودانية، ظن منسوبو النظام السابق من المؤتمر الوطني بأن التغيير لن يؤثر على قبضتهم على منظومة الدولة التي سيطروا عليها لثلاثة عقود، وأن الدعم السريع سيظل مجرد مليشيا مكرسة لخدمة مصالحهم. إلا أن ظنهم قد خاب بالمطلق ففي ذلك الوقت كانت قيادة الدعم السريع قد أدركت انه ليس بتابع، بل هو عامل رئيسي وحاسم ذو علم بدواخل الأمور ويمتلك علاقات دولية تتيح له فرصًا واسعة للمناورة والهيمنة.

وأمام موجات الرفض الشعبي العارمة إضافة إلى الرفض الإقليمي والدولي لنظام المؤتمر الوطني واهتراء المنظومة نفسها وتشظيها من الداخل كان لا بُد للمؤتمر الوطني من التواري عن الأنظار، إلا انهم ظلوا حاضرين في الخفاء.

وفي الواقع كانت دول الجوار الإقليمي تراقب الوضع عن كثب فيما يخص احتمالات التغيير في السودان، حيث كانوا يضعون خياراتهم ويقلبونها بصدد خلق حليف طيع لهم في السودان. تحديدًا مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة اللذين برزا كلاعبين أساسين في المشهد السوداني. فمصر صاحبة علاقات تاريخية وجوار ومصالح استراتيجية وعلاقات وطيدة مع السودان ومع الجيش السوداني الذي أسهمت في تأسيسه وتدريب العديد من قياداته. وبالتالي يظل لها تأثيرها في المشهد السياسي السوداني، وقد أسهمت عدة مرات في تقويض النظام الديمقراطي في السودان لصالح المؤسسة العسكرية. أما عن دولة الإمارات العربية المتحدة، فهي لاعب جديد في السودان وفي إفريقيا. فمنذ عقود عديدة أصبحت ملاذًا لمئات الآلاف من العمال المهرة والموظفين السودانيين جراء فقر مؤسسات الدولة السودانية وإغراء أموال الاغتراب والعيش المريح منذ بداية السبعينات والثمانينيات في مختلف القطاعات الاقتصادية، والخدمية، والبنية التحتية، وغيرها. ومع تفاقم عزلة السودان الدولية التي فرضها نظام المؤتمر الوطني وانهيار التعليم والمنظومات الاقتصادية، وشح الأموال من مدخولات النفط بعد استقلال جنوب السودان، قرر نظام البشير الاستثمار في فقر الشباب في السودان وإرسال السودانيين للانخراط في حرب اليمن نيابة عن التحالف الإمارتي السعودي، وهو القرار القاتل الذي يدفع السودان ثمنه الآن.

أثار حميدتي الذي كان يقود جهود الوكالة نيابة عن البشير إعجاب قيادات التحالف بفعاليته وبساطته والأهم من ذلك قسوته المتناهية وضعف علاقته بفكرة الدولة والمناورات السياسية مما يسهل من التعامل التبادلي الذي يطمحون إليه. كما اكتشفوا عن طريقه المصادر البشرية المهولة والكوادر الشبابية قليلة التكلفة والبسيطة التي يمكن تطويعها. وتوطدت العلاقة بين الإمارات وقادة الدعم السريع وتمددت في أعمال التنقيب عن الذهب والموارد الطبيعية حتى أصبح يشكل منافسة لقيادات الجيش التي طالما احتكرت الاتجار في الموارد والأعمال غير المشروعة. وفي نفس الوقت لم يكن صعباً على الإمارات أن توطد علاقاتٍها مع السياسيين المدنيين والنخب في السودان، فأسس التعاون مع الإمارات والعلاقات ما بينها والعديد من النخب السودانية بما فيهم الإسلاميين كانت موجودة منذ عقود. على الجانب الآخر عملت مصر على تعزيز نفوذها في داخل القوات المسلحة السودانية، ولكن بسبب أزمات الأخيرة السياسية والاقتصادية الداخلية تقلص هذا النفوذ بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة.

وفي الواقع، إذا كان هنالك نوع من التعاون ودراية بالأوضاع الداخلية وتعقيداتها من قبل دول الإقليم كان يمكن لعملية سياسية إقليمية جادة أن تسهم في تجنب الحرب، لكن طبيعة التحالفات التي حدثت هي تحالفات مُبتسر ة وخطرة في نفس الوقت، وخطورتها تكمن في أنها لم تعِ تعقيد السودان الذي يحتاج إلى معرفة حقيقية وتواصل مع مختلف الفاعلين. ومن ناحية أخرى أسهم التناول السطحي واللامبالي للمجتمع الدولي في مجريات الأمور في السودان والتقليل من تعقيدات الأوضاع في ثالث بلد من حيث المساحة في إفريقيا ويعاني من حدة الصراعات والحروب لعقود من الزمان في تفاقم الازمة.

يظل للأفراد ومقدراتهم القيادية دور جوهري في تشكيل بنية الدولة، تحديدًا في دول تغيب فيها المؤسسات والبنية السياسية الناضجة. فرغم زخم الثورة السودانية والتطلعات نحو التغيير، إلا أن فترة الانتقال القصيرة عانت إلى حد كبير من غياب القيادة المرجوة التي تتسق وخطورة الوضع في السودان في تلك اللحظات الحرجة. أدّى ذلك إلى حدوث أخطاء كبيرة وتهاون في الصلاحيات لصالح العساكر ولصالح الدعم السريع، مثل عدم الاهتمام بالحصول على استشارات واسعة ومتخصصة منذ البداية، حيث تحولت عملية التفاوض من تسليم السلطة إلى المدنيين إلى تقاسم سلطة مع سدنة النظام البائد، والإهمال في الاشراف على الملفات الأمنية التي منحت بكاملها للدعم السريع، وقرار إنهاء تفويض بعثة الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة في السودان في دارفور (يوناميد) في ديسمبر 2020. ورغم كل التحفظات على البعثة إلا أنها كانت إحدى الوسائل التي تعمل على امتصاص والتخفيف من حدة الصراع وحماية المدنيين في دارفور وتوفر آليات مراقبة مستمرة للأوضاع على الأرض.

ولأن “مَن أمِن العقوبة.. أساءَ الأدب” فقد أرسل تواجد الدعم السريع -وهي قوات قوامها ساهم في انتهاكات لا حد لها بجانب الجيش في مناطق دارفور المختلفة- رسالةً واضحة إلى مجموعات الجنجويد التي شاركت نظام البشير في العنف والتنكيل بمواطني إقليم دارفور، أن العنف والقتل لا غضاضة فيهما بشهادة المجتمع الدولي والحكومة الانتقالية. وكان في كل ذلك تقويض لشعارات الثورة والتطلعات نحو السلام والعدالة.

النتيجة أن السودانيين وجدوا أنفسهم أمام واقع مرير في أعقاب سقوط البشير، حيث أصبح الجنجويد هو الحاكم بأمره وتصوروا أنهم لم يكونوا مخطئين بإفلاتهم من العقاب والنصر الكبير الذي أحرزوd