خبر ⁄سياسي

المستقبل الحضاري في السودان 33

المستقبل الحضاري في السودان 33

المستقبل الحضاري في السودان (3-3)

الورقة التذكارية لمؤتمر اتحاد الكتاب السودانيين العام السادس: نسبنا الحضاري، قاعة الشارقة، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، جامعة الخرطوم، (24- 25 مارس 2013)، بمناسبة مرور نصف قرن على نشرها أول مرة للشاعر الكبير محمد المكي إبراهيم

تعريف بالورقة التذكارية وإضاءة على دورها في الحراك الفكري والثقافي  

بقلم عبد الله الفكي البشير

[email protected]

كتابات وسجالات ينتهي نسبها الفكري إلى ورقة الشاعر المكي

النسابة في مجال نسب الأفكار، إن صح التعبير، والمشتغلون في علم تاريخ الأفكار، وهو أحد الفروع العلمية التي نشأت في القرن العشرين، ويختص بدراسة تطور الأفكار البشرية وتغيرها أو ثباتها عبر الزمن،  ينظرون إلى علم تاريخ الأفكار، من ناحية نسبه العلمي، بأنه شديد الصلة بالتاريخ الثقافي Intellectual History. فهؤلاء النسابة والمهتمون والمشتغلون بهذا العلم، والمتابعون للحراك الثقافي والفكري في السودان، يعرفون بأن ورقة المكي التي نشرت في شهر ديسمبر من العام 1963م، ينتهي إليها النسب الفكري للكثير من الكتابات والسجالات في السودان. فقد اتكأت على ورقة المكي، حوارات واسعة، خاصة في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، كما أُستُلفت منها مصطلحات عديدة، ونشرت – انطلاقًا منها- كتب وأوراق علمية، وقامت حوارات ومداخلات في المنابر الحوارية على مواقع شبكة الإنترنت لا حصر لها، وكلها أحدثت ضجيجًا وحراكًا واسعًا. ولعل من أشهر المصطلحات التي أُستلفت من نص ورقة المكي هو مصطلح “تحالف الهاربين”. بهذا المصطلح شهدت السوح الثقافية والفكرية في السودان وخارجه وفي المواقع الإسفيرية مساجلات واسعة ورفيعة. ونشرت كتب كبيرة، سترد الإشارة لها. كما دخلت أجيال جديدة في حوار الهوية وبعثت الغابة والصحراء، ولا يزال الحوار مستمرًّا. ففي تقديري أن نجاح هذا الحوار يعود إلى عوامل عديدة تضافرت فساعدت على تعميقه واستمراره واتساعه، وأولها بلا ريب خصوبة أفكار الورقة، ثم عنصر الوقت والمعطيات المحلية، بيد أن هناك عنصرًا أساسيًّا وقويًّا، وهو مُدشن الحوار. لقد دشن الحوار مؤرخ بارع وأكاديمي ضليع وكاتب كبير ومفكر متعدي في نسبه الفكري والسياسي، وهو البروفيسور عبد الله علي إبراهيم. لقد استلف البروفسيور عبد الله على إبراهيم مصطلح “تحالف الهاربين“، من إشارة وردت في ورقة الشاعر المكي، ووسم به عنوان ورقته الشهيرة “الأفروعربية أو تحالف الهاربين”. قدم البروفسيور عبدالله في نهاية العقد التاسع من القرن المنصرم ورقته: “الأفروعربية أو تحالف الهاربين” إلى: ندوة الأقليات في الوطن العربي: دراسات في البناء الوطني والقومية العربية، التي نظمتها الجمعية العربية للعلوم السياسية وجامعة الخرطوم، قسم العلوم السياسية، في الأول من مارس عام 1988م، وقام بنشرها لاحقًا ضمن كتابه الثقافة والديمقراطية في السودان[1]. أحدثت ورقة الدكتور عبد الله جدلاً واسعًا، وتوكأت عليها، هي الأخرى، الكثير من الندوات والأوراق العلمية والمقالات الصحفية والحوارات الإسفيرية على شبكة الإنترنت، تمحور جُلُّها حول مصطلح “تحالف الهاربين“، وأخذت بعض الأوراق والمقالات عنوان “تحالف الهاربين”. يحمد للدكتور عبد الله أنه أول من دفع بمصطلح “تحالف الهاربِين” إلى ساحة التداول للتفحُص النقدي والتحليل والتقويم للمُشكل السوداني.

ثم جاء الدكتور محمد جلال هاشم بدراسته الموسومة بـ “السودانوعروبية، أو تحالف الهاربين: المشروع الثقافي لعبد الله على إبراهيم في السودان”، وتحدث عن الهروب الكبير من خلال ما أسماه بـ “السودانوعروبية”. وأشار إلى أنه نحت عنوان دراسته على غرار عنوان ورقة الدكتور عبد الله على إبراهيم “الأفروعربية أو تحالف الهاربين”. وذكّر في صدر بحثه قائلاً: “حريٌّ بنا أن نذكر أن بحثنا هذا ليس عن عبد الله علي إبراهيم، بقدر ما هو يستند على تحليل لمقالاته في هذا الشأن”[2]. وكتب عن هدف دراسته، قائلاً: يهدف هذا المقال إلى ترسم أبعاد اتجاه جديد في قضايا الثقافة والهوية في السودان. هذا الاتجاه يقوم ـ كما نرى ـ على سودنة الإسلام والعروبة، وبالتالي رسم حدود هوية إسلاموعروبية خاصة بالسودان دونما عداه من دول أخرى ضمن المنظومة الإسلامية عامة، وتلك الناطقة بالعربية خاصة. ولهذا أطلقنا على هذا الاتجاه مصطلح “السودانوعروبية”، على أن “العروبية” تستبطن في داخلها الإسلام[3]. وعن مصطلح “تحالف الهاربين” يقول محمد جلال هاشم: لقد عنى عبد الله علي إبراهيم بمصطلح “تحالف الهاربين” أولئك الذين هربوا من هويتهم إدعاءً لهويات لا أساس لها من الواقع. ونحن هنا نعني عكس ذلك. نعني أولئك الذين اختطوا لهم هويات بخلاف الهوية العربية، ثم هربوا فيما بعد من هوياتهم المصطنعة هذه ـ على حدة أو جماعات ـ اعتصاماً بهوية لهم أسميناها السودانوعروبية هي بنت الآفروعروبية التي كانت بدورها بنت المدرسة الإسلاموعروبية في السودان[4].

ومثلما اتكأت دراسات على ورقة المكي، فقد أقامت الورقة شراكات مع دراسات عديدة في الهم، كما حدث التناص في الانشغال، كما ظلت الدراسات تستشهد بما ولد من إنتاج فكري في عقد الستينيات، بشأن سؤال الهوية، لا سيما تيار الغابة والصحراء والعودة إلى سنار… إلخ. ففي عام 2000م نشر الدكتور منصور خالد كتابه الشامل والمنذر في شأن الهوية ووحدة السودان، جاء الكتاب بعنوان: جنوب السودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي[5]. تناول منصُور قضايا عديدة وكبيرة. فقد تناول الهوية السودانية والسودان في فصل وسمه بـ: “الهوية السودانية، السودان الجديد، وبراءات الاختراع”. وتحدث منصور عن الغابة والصحراء وهو يتناول الهوية السودانية والبناء الوطني، والدين والرؤية المأزومة، والتباين العرقي. وتناول السودانيزم أو السودانوية وبراءة الاختراع. وتناول رؤية الحركة الشعبية للهوية والبناء الوطني. وتحدث منصور عن كيف أن السودان نسيج ولكن.. ووقف عند جماعة الغابة والصحراء وتناول إنتاجهم الفكري والشعري.

أفرد الأستاذ كمال الجزولي في كتابه الرصين: إنتليجنسيا نبات الظل: باب في نقد الذات الجمعي، فصلاً عن كتاب المكي الذي تخلق في عقد الستينيات: الفكر السوداني: أصوله وتطوره. قدم كمال في المبحث الثاني من كتابه، قراءة في كتاب المكي ووسم قراءته بـ: “ملاحظات منهجية على استنتاجات محمد المكي إبراهيم”. كانت ملاحظات كمال متكئة على موضوع: “حركات النبي عيسى: صفحة مطوية من أيديولوجيا الثورة السودانية”[6]. كتب كمال قائلاً: “في القسم الثاني من مبحثه القيِّم الموسوم بـ: الفكر السوداني: أصوله وتطوره، توصل محمد المكي إبراهيم إلى تقسيم أجيال المهدية إلى ثلاثة”. ثم تحدث كمال عن الأجيال الثلاثة: جيل (المهزومين)، وجيل (ورثة الهزيمة)، وجيل (أحفاد الهزيمة). ثم تحدث كمال قائلاً: “ومن خلال تقصِّيه لسيرورة تلك الأجيال الثلاثة طرح محمد المكي ملاحظاته واستنتاجاته الرئيسة في ذلك الجانب من مبحثه”. وأضاف كمال قائلاً: “وبرغم ما قد يأخذ بعض النقاد على هذه الملاحظات والاستنتاجات من مآخذ جديَّة يتصل بعضها بالمنهج، مثلاً، أو بحصر غالب مادة الدراسة في (الشعر) كشكل يصعب الرصد أو التقويم الدقيق لتطور الفكر من خلاله وحده، إلا أنها تثير، مع ذلك، عددًا من الأسئلة المُلِحَّة التي تشكل كل منها محورًا يحفز الحفريات اللاحقة المطلوبة لتعميق المبحث في ضوء تطور الفكر وانفتاحه على ذخيرة وافرة من المعارف والمناهج الجديدة”[7]. ثم يذكِّر كمال القارئ بعمر وتاريخ هذه الاستنتاجات والملاحظات، فيكتب قائلاً: “خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن هذه الملاحظات والاستنتاجات قد تكرَّست، عملياً، وعن جدارة واستحقاق، خلال ما يقرب من الأربعين سنة حتى الآن، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه (الكلاسيكيات الحديثة)”[8]. ثم يتحدث كمال عن أهمية الكلاسيكيات الحدثية قائلاً: “التي لا غنى عنها لأيَّة محاولة جادة للبحث في جذور الفكر السوداني، أو التأريخ لعمليات التطور الجارية فيه، فلم يعد من الممكن لأي درس في هذا الحقل أن يغفل مناقشتها دون أن يتصف بالنقص والقصور”[9].

كانت إفادة المستعرب المسلم عند كمال الجزولي، في كتابه الموسوم بـ: الآخر: بعض إفادة مستعرب مسلم عن أزمة الوحدة المتنوعة في السودان[10]، سرداق عزاء فكري وسياسي ضخم، ودعوة للشراكة في تقاسم الألم، ألم انفصال جنوب السودان قبل وقوعه.  فقد تبخرت الجهود الضخمة التي بذلت على مدى نصف قرن في شغل الوطن، وفي الخدمة التنويرية. استنجد كمال الجزولي بمحمد المكي إبراهيم، فبعث بأطروحات جماعة الغابة والصحراء، وكتب قائلاً: “خطل هاتين النظرتين المتصادمتين، واللتين لطالما حبستا (العروبة) و(الإفريقانية) في أسر مفاهيم عرقية وثقافية ضيقة، إنما يكمن على اختلاف الأنظمة والحكومات الشمالية، والأحزاب والتنظيمات الجنوبية، في كونهما تمتحان من الأوهام بدلاً من الوعي بحقائق الواقع الموضوعي”[11]. وعن خطورتهما أضاف كمال قائلاً: “وخطورتهما إنما تتمثل في كونهما تواصلان دعم مناخ العدائيات المستمر بلا طائل، بدلاً من الإسهام في دعم أي مشروع محتمل لوحدة مرموقة”[12]. أعاد كمال في كتابه النظر في جهود سؤال الهوية منذ عقد الستينيات وقبله. كما استدعى صوت جمال محمد أحمد (1915م-1986م) عبر قوله الشهير: “ليسَ أمَرَّ مِن صدِام الثقافات.. وأدْمى!”[13]. ثم أهدى كمال كتابه إلى روح الشهيد جوزيف قرنق (1932م- 1971م)، وقد خصص له فصلاً، كان من أكثر الفصول حزنًا فيما قرأت في حياتي. وسم كمال الفصل بـ: “جو: أي فتي أضاعوا؟”[14]. كان الفصل كبيراً في معناه ومبتغاه. انفجر كمال يردد قائلاً، وهو يستحضر مشهد وفاة طفلة (جو)، التي توفيت بعد خمسة أيام من مقتل أبيها شنقًا حتى الموت في صباح يوم من أيام العبث والقسوة في مستهل عقد السبعينيات، وما أكثر أيام العبث والقسوة في دوائر مثقفينا، ماتت الطفلة وأعدم أباها، فانفجر كمال يردد قائلاً: ما أبشعنا!! ما أبشع كل ذلك!! [15]، وكان ينتظر شراكة صديقه محمد المكي إبراهيم في تقاسم الألم، استجاب المكي عبر صرخاته الباكرة في عقد الستينيات، فتوكأ كمال على صرخات المكي من أجل الوطن والناس فناقش ونسج وأعاد توصيف بعض المعاني في فصول كتابه. كما ضم كتاب كمال فصلاً بعنوان: “لو كنا نسمع أو نعقل: جبال النوبا.. الإنجليزية..”![16]، وفصول أخرى.

بعد عامين من كتاب كمال الجزولي: إنتليجنسيا نبات الظل، وبوقت ليس ببعيد عن محمد جلال هاشم، وبعد نحو عقدين من ورقة عبد الله علي إبراهيم، جاء الدكتور النور حمد بكتاب: مهارب المبدعين: قراءة في السِّير والنصوص السودانية[17]. كتب النور في توطئة كتابه قائلاً: “بدأت أبعاد إشكالية هرب المبدعين تتضح في ذهني منذ سنوات عديدة، أثر قراءات متنوعة، لجدل ظل ثائرًا حول ما سُمي إشكال الهوية، وحول ما عُرف في الأوساط الأدبية بهرب جماعة الغابة والصحراء، إلى المكون الزنجي في الذاتية السودانية”[18]. اتكأ النور على جدل الهروب، فكانت ورقة عبد الله علي إبراهيم، وكان الخيط الذي افترعه الناقد، عبد المنعم عجب الفيا عن (الأفرُوعروبية) بمنبر سودانيزأونلاين. تحدث النور عن مداخلاته التي أسهم بها في خيط (الأفروعروبية)، وكتب قائلاً: “وقد كانت محاولتي، وقتها، منحصرة في إقامة الشواهد على أن ظاهرة الهرب لها تجليات أوسع بكثير، ممَّا أدار المتداخلون الحوار حوله، وأوسع من ما حصرتها فيه ملاحظات الدكتور عبد الله علي إبراهيم في مقالته المهمة، الشهيرة، التي عُرفت بـ (تحالف الهاربين)… التي كانت مقالة مفتاحية في هذا الشأن”[19].

لم أكن بعيدًا عن الحدث، ولم أكن بعيدًا عن الجدل بشأن الهروب فقد كتبت تصديرًا لكتاب: مهارب المبدعين: قراءة في السِّير والنصوص السودانية، وجاء التصدير في خمسين صفحة. أشرت فيه قائلاً: “إنني أرى أن البحث في أسباب الهروب ودوافعه لا ينفك عن الصراع الجاري لإيجاد مرتكز حضاري للسودان. لقد انفصل السودان عن مرتكزه في الحضارات النوبية والثقافات الإفريقية، فأضحى يسيرُ قسرًا في وجهة تناقض آركيوليوجيته الثقافية وتناطح إرثه الحضاري”. وأضفت متناولاً الحصيلة التاريخية فكتبت قائلاً: “لذا كانت الحصيلة التاريخية لجهود تحقيق حالة سودانية متجانسة متناغمة، حتى هذه اللحظة، جهوداً قاصرة في رؤيتها وضعيفة في آلياتها. ولهذا، ليس هناك سودان بعد، وإنما هناك بحث عن السودان. ولكي نبني السودان المرغوب والمتصور، لابد من قتل السودان الحالي الموروث، المضطرب، بحثًا، ووضع دراساته على الأرفف وبثها في الفضاء”[20].

وفي قراءة نقدية للناقدة البارعة في النقد وفي إعادة توصيف الصور والعناوين، الدكتورة لمياء شمت، وكانت بعنوان: “مهارب المبدعين وسيكلوجية نبات الظل”[21]، جمعت لمياء في قراءتها بين كتابين، الأول: إنتليجنسيا نبات الظل: باب في نقد الذات الجمعي، لكمال الجزولي، والكتاب الثاني: مهارب المبدعين، للنور حمد، وقفت لمياء عند القضايا المركزية في الكتابين، فقدمت إضاءات هادية في سبر غورهما. انتهي نسب النقد عند لمياء وهي تتفحص القضايا المركزية في الكتابين، عند ورقة المكي، كما هو حال بعض أفكار الكتابين، كما تجمع البعض الآخر من الأفكار مع ورقة المكي صلة الشراكة في الهم والانشغال. وفي عام 2010م كتب الدكتور الصادق الفقيه في عام 2010م مقالة بعنوان: “المهارب: التزام المبدعين بأصل التفوق[22]، ونشر كذلك دراسة نقدية لكتاب: مهارب المبدعين، كانت بعنوان: مهارب المبدعين[23]. وفي نفس العام كتب الأديب محمد الربيع، مقالة حدقت في كتاب: مهارب المبدعين، كانت بع&#