خبر ⁄سياسي

لجان المقاومة في السودان: النشوء وتحديات الارتقاء

لجان المقاومة في السودان: النشوء وتحديات الارتقاء

الباقر العفيف

مقدمة

أنجزت لجان المقاومة ثورة ديسمبر بصورة جعلتها محل إعجاب العالم. وهي إنما حققت تلك الثورة بخصيلتين أساسيتين هما الوحدة والاستعداد للتضحية. أما الخصيلة الأولى فتعني وحدة اللجان والشعب حول إرادة التغيير، والالتفاف حول مباديء الثورة وشعاراتها. وقد صاغت اللجان تلك المباديء في شعارات بسيطة سهلة وجامعة، “حرية سلام وعدالة”، و”الثورة ثورة شعب” و”السلطة سلطة شعب”، و”الحكم المدني” أو “مدنياووو”. وهي كما أسلفنا شعارات بسيطة وسهلة الاستيعاب لكنها جمعت فأوعت كل معان وقيم الثورة السامية والنبيلة. كما أنها شعارات مبدئية، مطلبية غائية، وعمومية الطابع. لم تحفل اللجان في ذلك الوقت بتحديد كيفية تحقيق تلك الشعارات، أو كتابة وصفات علاجية أو إرشادية حول الوسائل التي يجب اتباعها لتحقيق تلكم الغايات. لأنه ببساطة ليس هذا من مهامها. بل بالعكس، فإن التورط فيه يعني الانشغال بما ليس هو أولى.

أما الاستعداد للتضحية فقد كانت مأثرة الشباب الحقيقية والتي رفعتهم لمقام التقديس والأسطرة. لقد دلَّلَت ثورة ديسمبر المجيدة على أنها ليست ثورة شبابية وحسب، بل ثورة شباب نادر المثال، اقتحم ساحة الفعل الثوري وهو يحمل أرواحه في أياديه، وهو يدرك أنه يواجه السلطة الأكثر دموية في تاريخ السودان، والأكثر استهانة بالحياة البشرية. على يديها قُتِل ما يقارب المليونين من المواطنين في الجنوب، ومئات الألوف في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وعلى يديها ذاق غالبية مواطني الشمال والوسط أبشع صنوف الذل والهوان المنطلق من الحقد الحقود، والرغبة المريضة في التَّشَفِّي والانتقام. أما إذا تساءلنا لماذا كل هذا الحقد، فسوف نجد أن كل جريرة أهل الشمال والوسط هي أنهم رفضوهم، باعتبارهم تجار دين، ونفروا من طرائقهم المتعارضة مع كل الإرث والتراث الأخلاقي والاجتماعي لأهل السودان قاطبة، وكذلك لأهل الشمال النيلي ووسط السودان على سبيل التخصيص، باعتبار أن الغالبية المطلقة من قياداتهم العليا ذات التأثير الحقيقي تنتمي لهذا الإقليم من السودان. لذلك رفع أهل الشمال والوسط في وجوههم شعار “منهم ومتبريء منهم”، مما صاغته عبقرية الطيب صالح في مقاله الذي تساءل فيه “عمن هم هؤلاء الناس ومن أين جاءوا”. والدليل على ذلك أن عراب تنظيمهم وكبيرهم الذي علمهم السحر، الترابي، سقط في جميع الانتخابات الحرة التي خاضها في السودان، ولم يصل للمناصب العليا التي تنسمها في الدولة إلا نتيجة تحالفات سياسية أتت به للوزارة رغم سقوطه، أو في ظل دولة عسكرية استبدادية مثل دولة مايو في مرحلة غروب شمسها، أو بعد انقلابهم العسكري الذي أدخل البلاد في هذا النفق المظلم الذي ما زالت تغرق فيه. لكل ذلك أخذ أهل الشمال والوسط نصيبهم من ا لمجازر مثل مجزرة العيلفون، وكجبار، وبورتسودان. هذا إلى جانب نسبة عالية من ال ٦٠٠ ألف موظف وعامل تعرضوا للتشريد من الخدمة والفصل التعسفي وقطع الأرزاق. أما الناشطون في العمل العام من جميع أنحاء السودان فقد ابتكرت لهم عبقرية الشر ما عرف في تاريخ البلاد “ببيوت الأشباح”، وهي بيوت كما كان يقول زبانيتها أمام ضحاياهم “لا يوجد فيها الله”. لذلك أهدرت فيها الدماء إهدارا كاملا، واهدرت فيها الكرامة المتأصلة في كل إنسان إهدارا كاملا. لم يقتلوا ضحاياهم وحسب، بل قتلوهم بأشد الطرق بشاعة، مثل دق مسمار في نافوخ إنسان. ولم يعذبوا وحسب، بل كانوا يتشفون وينتشون وهم يهدرون كرامة ضحاياهم، مثل أن تغتصب رجلا ثم تأتي بملابسه الداخلية لتعرضها أمام زملائه من الضحايا وتتساءل بسخرية، “دي حقت منو؟ وحصل ليه شنو؟”  والنتيجة هي أن فقد الرجل عقله لدرجة ارتكاب جريمة داخل أسرته.

هذه هي السيرة الذاتية المختصرة لسلطة الكيزان التي تحولت إلى آلة عملاقة للقتل وسفك الدماء وإهدار الكرامة. وبالرغم من إدراك الشباب من الجنسين للدموية المتأصلة في هذه السلطة لم يأبهوا لها، بل تحدوها واستهانوا بها. تقدموا الصفوف بصدور عارية في مواجهتها بسواعد مرفوعة في وجهها، وهتاف يشق عنان السماء. شباب أوصله حكم الكيزان لحالة وجودية، وجد بموجبها ظهره على الحائط، ليس لديه ما يخسره سوى القيود. فما كان أمامهم منذ الوهلة الأولى سوى أن يحفروا بأظافرهم في الصخر مستقبلا لأنفسهم، ينتزعونه من بين أسنان قوم قساة جفاة قتلة مَيِّتي الضمير، أو يسقطوا على الأرض ويموتوا كما تموت العير. لذلك لم يعبئوا بالعنف والبطش والقتل. بل كانوا يدفنون شهدائهم ويعودون للميدان أكثر قوة وعزما لمواجهة القَتَلَة من جديد، وهم ينشدون الموت الذي يخوفونهم به. وما زلنا نذكر هتاف شباب وردية الليل: “ماشين لي وين؟ ماشين للموت، الموت بي شنو؟ بالدوشكا كمان. وفي رمضان”، مما أطار صواب الكيزان وأفقدهم توازنهم وأدى لهزيمتهم معنويا وسياسيا، إضافة لسقوطهم الأخلاقي. هذه هي معايير نجاح الثورة التي تحققت وكانت شرط الانتصار، والتي كان من الواجب المحافظة عليها بواسطة الجميع والعض عليها بالنواجز، وعدم السماح بالتفريط فيها مهما كانت الأسباب أو الحوافز والإغراءات.

لم تُفْهَم اللجان على الوجه السليم

كتب الكثيرون حول نشأة اللجان. وبالرغم من أن الدعوات لتأسيس وبناء لجان ثورية في الأحياء قديمة نسبيا، ربما ترجع إلى ما قبل العام ٢٠٠٧، إلا أن هناك شبه إجماع أن بداياتها العملية ترجع للعام ٢٠١٣، وتحديدا بعد انتفاضة سبتمبر التي جرى قمعها بلا رحمة. وقد تفاخر البشير يومها بأنه قضى عليها دون الحاجة لإنزال كتائبه الخاصة. لقد تبلور رأي وسط الناشطين والعاملين من أجل التغيير أن الأسلوب القديم في الاحتجاج من مراكز المدن لم يعد يجدي. فقد طَوَّر الأمن استراتيجية فَعَّالة لإحباط هذه الاحتجاجات قبل أن تبدأ. وتنامت دعوات بأن تكون الاحتجاجات لا مركزية، وأن تتمركز في الأحياء. فأهل الحي أدرى بشعابه، وهم يعرفون بعضهم بعضا، حيث التنظيم والاتصال أكثر سهولة، وكذلك تفادي الأجهزة الأمنية والحماية المجتمعية أكثر يسرا، بينما يصبح اختراق الأجهزة الأمنية للقيادات الشبابية أكثر صعوبة. في تلكم السنين نشطت المئات من منظمات المجتمع المدني في جميع أقاليم السودان في تدريب آلاف الشباب من الجنسين في مهارات القيادة، من تنظيم واتصال، وتحليل للسياق، واتخاذ القرار. كذلك جرى تدريب الآلاف في الحماية، الجسدية والرقمية، وما الذي يمكن أن يُقال في مواجهة التحقيق بواسطة الأجهزة الأمنية. كذلك جرى تدريب آلاف الشباب في الرصد والتوثيق للانتهاكات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية لحقوق الانسان. لقد كان الوعي وسط الشباب يتزايد بوتيرة كبيرة وصلت مرحلة “نقطة التحول” أو ال tipping point. وقد لمسنا كيف تغيَّرت مفاهيم أعداد مقدرة من الشباب بالذات في مسألة الهوية و”فهم الذات” و”إدراك الآخر”. هذا بينما اطمأن النظام وظن أنه سوف لن يَقدِر عليه أحد، فلم يعبأ قادته بتكشف عوراتهم وتواتر فضائحهم الأخلاقية، ونشر فسادهم على الملأ. ولم لا؟ فالدولة مملوكة للحركة الإسلامية كما صرح رئيسهم المخلوع، والشعب يمثل بالنسبة إليهم صفرا كبيرا على الشمال، أسقطوه تماما من حساباتهم، نتيجة لسكرة السلطة الطويلة التي ظنوا أنها ستدوم لهم إلى الأبد. وهذا ما يؤكده سلوكهم تجاه الثورة منذ مسرحية أبنعوف الذي تحدث عن “اقتلاع النظام”، وعمر زين العابدين الذي تحدث عن أن “هذا التغيير حقيقي”، مرورا بمرحلة إطلاق المجرمين المعروفين باسم  “تسعة طويلة” ليخلوا بالأمن وينسبوا ذلك لفشل الدولة المدنية، وقد شاعت في دوائر البوليس تحديدا لدى أي بلاغ يصلهم تعبير “دي المدنية الدايرنَّها”، مرورا بنظرية “الطرف الثالث” الذي يقتل المتظاهرين، وغزوات الأجهزة الأمنية وكتائب الظل للاعتصام، مرورا بمجزرة القيادة، و”الانقلابات المحبطة”، ثم انقلاب البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر ٢٠٢١، وهذه الحرب التي تمثل آخر سهم في جعبتهم، وهي الآن تدخل مرحلة الإرهاب الداعشي، وبيع السودان في المزاد العلني.

النشوء والتطور

كانت السنوات التي أعقبت مجزرة سبتمبر ٢٠١٣ مرحلة تأمل ومراجعة لما مضى من تكتيكات المقاومة، وكانت أيضا مرحلة كمون وانكماش استعداد للوثبة القادمة. إنها أيضا مرحلة تغيير التكتيكات والانسحاب من المركز للأحياء حيث جرى تكوين مجموعات صغيرة من النشطاء تسمت باسم لجان الأحياء. صارت لجان الأحياء تنمو في الفترة ما بين نهاية ٢٠١٣ ونهاية ٢٠١٦. في العام ٢٠١٦ كنتُ ضمن مجموعة من النشطاء قرروا تكوين مجموعات شبابية في الخرطوم ومدني تحت مسمى “لجان المقاومة السودانية” كانت ذات هيكل هرمي، لها أمانة عامة ومكاتب. وقد شهد هذا العام والعام الذي تلاه، ٢٠١٧، انتشار اسم “لجان المقاومة” ورسوخه، وظهر شعار “خُشْ اللجنة وخشي اللجنة”. أصبحت اللجان ظاهرة انتشرت انتشار النار في الهشيم، mushroomed في جميع الأحياء والقرى والدساكر. وعندما بدأت المظاهرات في نهاية ٢٠١٨، خرجت اللجان من تحت التيار إلى السطح كعملاق مكتمل النمو.

لقد أخطأ الكثير من المثقفين والمحللين فهم الطبيعة الحقيقية للجان المقاومة. وبطبيعة الحال، ما عدا بعض الاجتهادات الفردية، لم تتصدَّ الأكاديميا السودانية لدراسة هذه الحالة الاجتماعية المذهلة التي حققت واحدة من أعظم الثورات في تاريخ العالم المعاصر بشهادة قادة العالم الحر. لقد أصبحت لجان المقاومة محل اهتمام العالم كله، ومحل اهتمام السودانيين وبالذات القوى السياسية. وقد رُفِعَت اللجان بحق لمقام الاحترام والتبجيل. بل قد جرى تقديسها وأسطرتها. كانت التنسيقيات والمركزيات في الأحياء تنسق وتقود كل الثوار في المنطقة بلا خلافات جوهرية، إذ أن الشعارات والأهداف مبدئية ومتفق عليها بين الجميع رغم اختلاف فئاتهم وطبقاتهم وخلفياتهم الثقافية والفكرية والسياسية المتنوعة. لقد كانوا يجسدون مبدأ “الوحدة في التنوع” تجسيدا حقيقيا. فلماذا لم نحافظ على هذه الحالة؟ ولماذا سمحنا بشرذمتها؟ الإجابة العامة على هذا السؤال هي لأننا لم نفهم طبيعة اللجان فهما سليما. ففي ظل غياب المعلومة العلمية الصحيحة لطبيعة أي ظاهرة اجتماعية ينفتح الباب على مصراعيه للاجتهادات الفردية غير المؤسسة على شغل بحثي أو علمي فيه اجتهاد حقيقي. فمثلا هناك بعض المثقفين الذين ينطوون على مواقف سلبية من الأحزاب السياسية والذين يحملونها على الأقل جزءا من مسؤولية فشلنا كدولة، هؤلاء رأوا في اللجان طوق نجاة من الأحزاب السياسية القديمة وحاولوا تحويل اللجان لحزب سياسي شبابي ظنوا أنه سيكون الأكثر تأهيلا لقيادة البلاد نحو المستقبل. وهذا أمر مدهش حقا. مدهش لأنه ببساطة يمثل المستحيل عينه. إذ من المستحيل تحقيق هذه الفكرة عمليا، لأن أحد أهم شروط نجاح اللجان هو تنظيمها الأفقي المناهض للهيكلة الرأسية التي تقوم عليها الأحزاب، مما خفَّف أو أزال سبب رئيسي من أسباب الصراع، وهو الصراع على القيادة. وثانيا أنه من المعلوم بالضرورة أن شباب اللجان ينحدرون من خلفيات ثقافية، وفكرية، واجتماعية، وطبقية مختلفة، ومتنوعة. والمنتمون منهم سياسيا، إنما ينتمون لجميع الأحزاب الموجودة في الساحة. ففكرة أن تجمع كل هؤلاء، أو غالبيتهم، لتبني منهم حزبا سياسيا اسمه “حزب اللجان” إنما هي فكرة عجولة، تبسيطية، وربما ساذجة. وهي أيضا تنطلق من وتدل على الجهل بطبيعة اللجان.

أما الأحزاب السياسية فقد تحركت غرائزها للسند الجاهز وشرعت تُجَنِّد الشباب في صفوفها وتخترق تنسيقيات ومركزيات اللجان بكوادرها المتمرسة وتحركها لخدمة أجندتها السياسية. فضربت أهم صفة من صفات اللجان في مقتل، وهي كونها “فوق حزبية”. والمعني بهذا التعبير هو أنه داخل كل لجنة المتوقع من العضوية المنتمية حزبيا أن تضع هويتها كلجان فوق هويتها الحزبية. فإذا تعارض موقف اللجنة مع موقف الخزب فالانحياز يجب أن يكون للجنة وليس للحزب. وبعبارات أخرى فهذه العضوية المنتمية حزبيا لا تمثل أحزابها داخل اللجان لأن هذا من شأنه أن ينقل الصراع الحزبي إلى داخل اللجان. هذا المثال بكل أسف لم يصمد طويلا فقد نشبت الأحزاب مخالبها في اللجان، وكانت النتيجة المأساوية هي ضياع وحدة اللجان وانقسامها وفق برامج سياسية تمثلت في الميثاقين المتنافسين، (الميثاق الثوري لسلطة الشعب) والذي يُعَبِّر عن قوى التغيير الجذري، ويحتوي على برنامج الحزب الشيوعي، و(ميثاق تأسيس سلطة الشعب) الذي صاغته لجان مقاومة الخرطوم، والذي يقوم على رؤى قوى الوسط عموما، ويُعَبِّر عن تصورات قوى الحرية والتغيير. وبذلك أصبحت للجان المقاومة مواثيق سياسية دون أن تعلن عن نفسها كأحزاب سياسية، ودون أن تهيكل نفسها رأسيا.  فصارت كل واحدة من المجموعتين كحصان طروادة، بداخل أحدها يختبئ الحزب الشيوعي وحلفائه وواجهاته النقابية المتعددة مما أُطْلِقَ عليه اسم “قوى التغيير الجذري”، وفي الآخر تختبئ أحزاب الحرية والتغيير والمهنيين الذين يتحالفون معها. هذا ما انتهت إليه اللجان حتى انفجار حرب الخامس عشر من أبريل 2023.

وكما ذكرتُ أعلاه فإن هذه واحدة من كوارث الحياة السياسية في السودان كونها لا تقوم على أي دراسات علمية للظواهر الاجتماعية، بل تعتمد على روح الكسب السياسي السهل والسريع. إذ لم تتريث هذه الأحزاب لفهم الظاهرة حتى تحسن التعامل معها، بل تحركت غريزتها الافتراسية predatory instinct نحو اللجان واعتبرتها لقمة سائغة للابتلاع، لتُجَيِّرها لصالح أجندتها الضيقة وتكبير كومها، دون أن تحفل بالخراب الذي يمكن أن تلحقه بها وبالوطن. وهكذا انتهينا إلى أن صار لكل حزب لجانه، وبما أنه “ما في حد أح