خبر ⁄سياسي

ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية 16

ثورة أكتوبر وتوق الشعب السوداني إلى حركة حقوق مدنية 16

مجتزأ من ورقة: عبد الله الفكي البشير، “ثورة أكتوبر ومناخ الستينيات: الانجاز والكبوات (قراءة أولية)‎”، نُشرت ضمن كتاب: حيدر إبراهيم وآخرون (تحرير)، خمسون عاماً على ثورة أكتوبر السودانية (1964- 2014): نهوض السودان المبكر، مركز الدراسات السودانية، القاهرة، 2014.

عبد الله الفكي البشير

[email protected]

مدخل

تحاول هذه الورقة تقديم قراءة أولية لثورة أكتوبر 1964، من خلال الاستقراء في مناخ عقد ستينيات القرن العشرين في السودان. تقف الورقة عند مناخ ستينيات القرن العشرين في العالم، باعتباره عقدا لانتصار حركة الحقوق المدنية Civil Rights Movement، وعقدا للتغيير وازدهار حركات التحرر الوطني، والخطاب القومي والعروبي والاتجاهات الزنُوجية وأسئلة الهوية- وباعتباره عقدا كذلك، للتشريع لمفهوم التعدد الثقافي، الذي برز لأول مرة، إلى حيز الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية، واستيعابه في الدساتير والقواميس السياسية، بعد أن توسع تداوله في حقول البحث العلمي.

لم يكن السودان من حيث المكونات والإرث التاريخي، وهو تحت حكم عسكري، بمعزل عن المشهد العالمي. فقد عبرت شعوب السودان عن أشواقها وتطلعاتها إلى التغيير بثورة شعبية سلمية عزلاء إلا من قوة اجماعها، فاستطاعت أن تغير حكماً عسكرياً بالقوة من غير عنف. بيد أن الثورة برغم قوتها، لم تستطع أن تحقق التغيير في اتجاه الحقوق المدنية والاعتراف بالتعدد الثقافي، بل تبعتها كبوات فكرية وسياسية كبرى، ظل السودان، ولايزال، يعاني منها. تقدم الورقة تفصيلاً وتحليلاً في هذا، وتزعم بأن عقد ستينيات القرن العشرين في السودان، كان عقداً للتناقضات الفكرية والمفارقات السياسية، فثورة أكتوبر من حيث القاعدة/ الجماهير، كانت تعبيراً عن الأشواق للتغيير بتناغم مع المشهد العالمي، ومن حيث القمة/ زعماء الأحزاب التقليدية وأصحاب الامتياز (غير المهمشين)، لم تكن سوى إعلان لمفارقه السودان لأشواق جماهيره، وتناغمه مع المشهد العالمي، منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. تقدم الورقة تحليلاً وتعليلاً في هذا الاتجاه، وتخلص إلى أن ثورة أكتوبر برغم اختطافها وعدم نجاحها في تحقيق التغيير، سوى تغيير النظام العسكري؛ إلا أنها عبرت عن قوة اجماع الجماهير على إرادة التغيير، كما أنها تركت إرثاً ثورياً ينتظر الاكتمال والتطوير لفكر التغيير وطريقة تحقيقه.

إن مجتمعات التعدد الثقافي، كحال السودان، عصية على الإدارة والبناء والتعايش، في ظل غياب الحقوق المستحقة: الديمقراطية والحرية وكرامة الإنسان. كما أن تحقيق التسوية الوطنية فيها، عبر منهج توقيع الاتفاقيات، الذي تبع اختطاف ثورة أكتوبر، ولا يزال مستمراً، ما هو إلا ترميم لبناء متهالك، في ظل غياب الحقوق المكتسبة. فلا سبيل لتلك المجتمعات لانتزاع تلك الحقوق سوى الثورة الشعبية. إن مغذيات الثورة الشعبية وأسبابها في السودان، اتسعت وتعمقت الآن، أكثر من أي وقت مضى، وتسربت إلى وعي الجماهير، بمعزل عن الأوصياء على العقول، ولهذا فنحن الآن على مشارف انفجار “الثورة الكبرى”. ولهذا جاءت خاتمة الورقة موسومة بـ -“نحو الثورة الكبرى ثورة العقول”- وهي ثورة ستشتعل في عقول الجماهير، هدفها التغيير الشامل والجذري، ولا يفصلنا عنها، سوى لحظة الاجماع، وقيام المثقفين بواجبهم نحو اشعالها في عقول الجماهير، وهذا ما سيحدث قريباً، لاريب في ذلك.

تتهيكل الورقة حول ستة محاور أساسية هي طبيعة ثورة أكتوبر، وثورة أكتوبر ومناخ عقد الستينيات في العالم، وقضية الجنوب وملاقاة الآخر، القادة والعبث بإرادة الجماهير والفوضى الدستورية، خيانة مبادئ الثورة والكبوات الكبرى: الكبوة السياسية والكبوة الفكرية، الكبوة الأخلاقية، وخاتمة تركّز على موضوع الثورة القادمة: نحو الثورة الكبرى ثورة العقول.

ثورة أكتوبر ومناخ عقد الستينيات من القرن الماضي في العالم

لم تكن أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، بمعزل عن مناخ عقد الستينيات من القرن الماضي في العالم، حيث انتصار حركة الحقوق المدنية، والتي تبعها الاعتراف بالتعدد الثقافي والتشريع له، إلى جانب ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا، وتمدد خطاب القومية العربية. لقد برز مفهوم التعدد الثقافي لأول مرة، إلى الوجود، غداة الحرب العالمية الثانية ومع إنشاء منظومة الأمم المتحدة. ودخل مصطلح التعددية Pluralism للتداول في حقل الدراسات الإثنية والسياسية عقب الحرب العالمية الثانية – من قبل جون فيرنفال J. S. Furnivall – وقد استوحى ذلك من واقع دراساته عن بلدان جنوب شرق آسيا، ولا سيما بورما وجاوا.  ثم بدأ الاهتمام السياسي بالإثنيات في عقد الستينيات في الولايات المتحدة الأمريكية، عقب انتصار حركة الحقوق المدنية التي فجرها الأمريكيون المنحدرون من أصل أفريقي.  كذلك افسح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في عام 1948، الطريق إلى صدور معاهدتين دوليتين أجيزتا في عام 1966، عالجت الأولى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فيما عالجت الثانية الحقوق المدنية والسياسية، وكلا المعاهدتين تؤكدان مبدأ حق تقرير المصير كمبدأ عالمي وتدعوان الدول الأعضاء إلى الدعوة لتحقيق مبدأ تقرير المصير وفقاً لميثاق الأمم المتحدة.  تبع كل ذلك أن زاد الاهتمام بالاثنيات والتنوع العرقي والثقافي وأصبح في مقدمة هموم أهل السياسة في الولايات المتحدة الأميركية، سواء في التعليم بلغات المجموعات أو تشجيع نشر آدابهم وفنونهم وتاريخهم باعتبارها إضافة جديدة للثقافة الأمريكية.  ثم تطوَّر مفهُوم التعدد الثقافي Multiculturalism ليشمل التعدد الديني وكريم المعتقدات والتعدد اللغوي والعرقي، ويتضمن تعدد تعبيرات الجماعة والمجتمعات عن ثقافاتها، وأشكال انتقال هذه الثقافات، بالمضامين الحاملة لها، المستمدة من الهويات الثقافية أو المعبرة عنها . تبع ذلك الاستيعاب للتعدد الثقافي في التشريعات ومواثيق الحقوق والحريات ثم وجد طريقه للدساتير القومية. فإلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، مثلت كندا منذ السبعينيات نموذجاً آخر لاستيعاب التعدد الثقافي.

لم يكن السودان عند اندلاع ثورة أكتوبر، بحكم مكوناته وإرثه التاريخي وموقعه الجغرافي في أفريقيا، بعيدا عن هذا المشهد العالمي والإقليمي. فالسودان يزخر بتعدد ثقافي، ليس له نظير في أفريقيا، بل أن تعدده الثقافي من حيث الأصالة والقدم بلا مثيل في العالم. يقول جوزيف أومارا وخديجة صفوت: “كان السودان معبرا عظيما للمسافرين منذ مينا موحد الوجهين القبلي والبحري ومؤسس الأسرة الأولى من الممالك القديمة (2925 ق.م.-2775 ق.م.) تقريباً- وقد بقي السودان ذلك المعبر العظيم من كل مكان إلى كل مكان من القارة الأفريقية وما ورائها- إن تلك الرحلات وموجات هجرة المسافرين المغامرين والغوارين والمكتشفين تركت أجزاء ثقافية منحت السودان تميزاً وتعددا وغنى بلا مثيل، سوى ربما الولايات المتحدة؛ إلا أن الأخيرة لا تملك ادعاء أصالة تاريخ يعود إلى 3000 عام قبل الميلاد”.  إن بلدا بهذا التعدد الثقافي نادر المثيل، لابد أن يكون منفتحاً على التجارب العالمية في التعاطي مع أشواق مجتمعات التعدد الثقافي، خاصة مع ازدهار حركات التحرر الوطني في أفريقيا. فعند اندلاع ثورة أكتوبر، والتي كانت قضية الجنوب أهم أسبابها، لم يكن السودان بعيدا عن دعوات حركات التحرر الوطني الأفريقي، إن لم يكن ميدانا لحراكها وشريكاً أصيلا في أشواقها، فهو قطر أفريقي في المقام الأول.

الشاهد أن السودان في عقد الستينيات من القرن الماضي، كان أكثر اتصالا بالمشهد العالمي، وعمقه الأفريقي، الأمر الذي أسهم، إلى جانب المعطيات المحلية ومناخ الستينيات في السودان، في القابلية للثورة. (وقد ورد بعض التفصيل في أصل الورقة).

نلتقي مع الحلقة الثانية وهي تتناول محورين، هما: مناخ ستينيات القرن العشرين في السودان، قضية الجنوب والثورة: الجماهير والخروج من الذات لملاقاة الآخر.

altaghyeer.info