خبر ⁄سياسي

هل يمكن العيش بلا أيديولوجيا.. الصادق الفقيه: مفتاح الاستقرار الإقليمي يرتكز على فهم الانقسامات

هل يمكن العيش بلا أيديولوجيا.. الصادق الفقيه: مفتاح الاستقرار الإقليمي يرتكز على فهم الانقسامات

لا شك أن بلاد العالم العربي تتمتع بـ"تضاريس" متنوعة مكونة من فسيفساء الأفكار والأيديولوجيات والهويات، وهي وإن بدت متناقضة، إلا أن هناك كثيرا من القواسم المشتركة التي تجمع بينها.

وإذ يُعتبر فهم تأثير الأيديولوجيات والرؤى المختلفة أمرا ضروريا لمواجهة التحديات الحالية في الدول العربية، فإن الماضي الاستعماري والنفوذ الاستعماري المتأخر يؤثر على الخريطة والانقسامات الأيديولوجية الإقليمية الحديثة، حسبما يقول ضيف هذا الحوار الدكتور الصادق الفقيه، ويدور الحوار حول رؤاه بشأن كيفية التغلب على الانقسامات القائمة، وأهمية تعزيز الوحدة والتعاون بين الدول العربية، بالإضافة إلى التحديات التي تواجه الفكر العربي المعاصر.

وعمل المفكر والدبلوماسي السوداني الصادق الفقيه سفيرا لبلاده في إثيوبيا ومندوبا للسودان لدى الاتحاد الأفريقي ولدى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة الأمين العام السابق وهو عضو مجلس الأمناء لمنتدى الفكر العربي، الذي تأثر بتجارب مجتمعه التاريخية والسياسية، مما أتاح له فرصة استكشاف قضايا الهوية والانتماء والصراعات الأيديولوجية، فإلى المقابلة:

بعد عام على طوفان الأقصى، كانت هناك معارك أخرى أبرزها المواجهة الإعلامية بين الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية، ما الذي جعل السردية الفلسطينية المحاصرة على أرض الواقع وفي المنصات الرقمية تجد تعاطفا شعبيا لدى فئات متنوعة من المجتمع الغربي؟

يتميز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ بداياته بصدام روايتين: الإسرائيلية الغربية، القائمة على الإيمان بحقهم اللاهوتي والتاريخي في إقامة دولة يهودية في فلسطين، والفلسطينية، التي تؤكد أنهم أصحاب حق أصيل تم تجريدهم من ممتلكاتهم من قبل الغرباء الذين يتصرفون بعدوانية في انتهاك للقانون الدولي. ومن خلال القوة وإقناع الرعاة الغربيين الرئيسيين، شقّت الرواية الأولى طريقها.

إن الفشل في إدراك قيمة الرواية الفلسطينية المنافسة، ووضعها في سياقها، يُشكل مناخ الغرب الثقافي والفكري. وفهم هذا الجانب مهم بشكل خاص للمواطنين ذوي الذهن الصافي من غير العرب والمسلمين. وباعتبار أن هناك أشخاصا لا تربطهم صلات مباشرة بالنزاع، فمن المرجح أن يتصرفوا وفق فهمهم وتقديرهم لأي الروايتين أرجح، ربما لأنهم أيضا قد تبنوا السردية الإسرائيلية لصداها الخاص، فمن المرجح أن يحلوا محل المنظور الغربي دون تفكير.

إذا كان السرد التفسيري التاريخي الإسرائيلي الغربي ليس معيبا فحسب، بل غير دقيق إلى حد كبير، فلا عجب أن تتلقى إسرائيل الكثير من الاهتمام السلبي في الآونة الأخيرة، خاصة بعد طوفان الأقصى وردة فعلها الجنونية. فقد كان يتم تحويل الظلم إلى عدالة، والعكس صحيح، فصورة الشابات الفلسطينيات اللواتي يرشقن الجنود الإسرائيليين بالحجارة لا يقاومن هدم المنازل، أو يخشين الموت بعد أن يرين أهلهن الكبار يتعرضون لإطلاق النار والقتل، بل يوصفن بأنهن إرهابيات مغسولات الدماغ.

صورة الشابات الفلسطينيات اللواتي يرشقن الجنود الإسرائيليين بالحجارة لا يقاومن هدم المنازل، بل يوصفن في الرواية الإسرائيلية بأنهن إرهابيات مغسولات الدماغ (شترستوك)

ومن ثم، فإن سبب تلقي الرواية الإسرائيلية الغربية ونشرها في كثير من الأحيان كان يعتمد على التجهيل، ولا يركز كثيرا على كيف ولماذا تجد الرواية الفلسطينية موطئ قدم لها.

أحد الأسباب هو أن الرواية الفلسطينية قد انخرطت في مشهد الفعل الدامي لعدوان الاحتلال، لأن الفهم الأفضل لكيفية إبرازها قد وجد له حججا إضافية، ووصلت إلى الكثير من الناس في الغرب. وينخرط الكثيرون في الغرب ويشاركون، من خلال التحليل النقدي أو التطوع أو التبرعات للأعمال الخيرية، في محاولة لتخفيف معاناة الفلسطينيين.

وإذا تعامل أحدهم مع شخص آخر، في أي مكان، وبأي شكل من الأشكال، فإنه يتحدث لغته الثقافية بشكل أساس. والانخراط يستلزم الجلوس، وربما أيضا مجرد التحدث مع شخص آخر.

ومن أجل الحفاظ على علاقات المشاركة هذه، يحتاج الفلسطينيون إلى فهم بعضهم بعضا أولا، ومن ثم النفاذ إلى عقول غيرهم. ومن خلال الكتابة والمناقشة والوصول إلى المشاركة، يجب أن يحاولوا مناقشة كيف ولماذا يجب فهم القضية الفلسطينية بدلا من شرحها.

  • وكيف يمكن نقد هذه الرواية الإسرائيلية الغربية؟

إن اقتراح أي تحليل للرواية الإسرائيلية الغربية الحالية بشكل نقدي موضوعي قد يجد الإنسان صعوبة بالغة في تبنيها، فيما تجترح الرواية الفلسطينية حججها من خلال ضعف غيرها في إثبات الحق.

وبشكل أكثر تحديدا، عند تحليل ما يسمى بمفهوم "الرنين السردي" لتحديد المعتقدات والقيم، التي يروج لها هذا التحليل لانتقاء الرواية الإسرائيلية الغربية من خلال التركيز على منعطفات حاسمة بشكل خاص في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تعزز منطقهم. بالإضافة إلى ذلك، نأمل أن يركز الفلسطينيون والعرب بعمق على كيفية كتابة سرديتهم للمجتمع الغربي، التي تميل إلى التأثير على تلك المجتمعات نفسها، وفحصها ومراجعتها باستمرار.

والغرض من ذلك ليس تقديم قراءة متعاطفة مع المنظور الفلسطيني حول هذا الصراع، أو الإيحاء بأن المنظور الإسرائيلي الغربي غير أمين، وإنما تأسيس فهم عميق للرهانات الخاصة لأولئك المتضررين على كل جانب من هذه المأساة التي يُشكلها الاحتلال.

لقد ثبت أن الرواية الإسرائيلية الغربية تتكون عموما من ثلاثة مكونات على الأقل: مكوّن "نحن"، ومكون "هم"، والمكون "المشترك". يتحدث عنصر "نحن" عن من نحن؛ حلفاء في النضال من أجل تحرير الحضارة الإنسانية من خطر الحكم البربري؛ ما يشير إلى الثقافة والقيم، وخاصة الديمقراطية التي تميز "المجتمع الغربي" وتؤكد ضمنيا تفوقه؛ ويتحدث عنصر "هم" عن من هم، "هم" أي البرابرة، أو الإرهابيين الذين ينكرون الثقافة وحقوق الإنسان؛ ويتحدث المكون "المشترك" عن "شر" "هم" الذين لا يمنع قانونهم الأخلاقي استهداف النساء والأطفال أو السياح الغربيين الأبرياء والصحفيين والدبلوماسيين.

فالرواية الإسرائيلية هي الرواية الغربية، أو العكس، يرددون مقولات بعضهم بعضا، ويتردد صداها داخل مجتمعاتهم. إنهم يعكسون رؤية بعضهم ويبلغون بعضهم بعضا بها باستمرار. وفي العديد من البلدان الغربية، وخاصة في إسرائيل والولايات المتحدة، فإن السردية الإسرائيلية الغربية جوهرية في تشكيلها للثقافة السياسية، والسياسة في الغرب تتنفس هذه الرواية.

وهذه السردية موجودة في وسائل الإعلام، وعلى جدران الإعلانات، وفي الخطب السياسية، وتغذيها وتحميها مراكز الفكر و"صناع الرأي"، الذين هم في خدمة المحافظين الجدد والقدامى والليبراليين واليساريين، الذين، بعد 11 سبتمبر مباشرة، حددوا السردية برمزين متعارضين.

الأول كان ابن لادن، المسؤول عن تلك المجزرة، على الأقل بشكل غير مباشر.

والرمز الثاني كان عرفات، رغم قبوله بمبدأ السلام.

وغالبا ما يتم التقليل من شأن جانب الفصل العنصري في سياسة الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، أو تجاهله في المجتمع الغربي، فصار كثير من الناس لديهم تحيز مؤيد لإسرائيل ويجب أن يعترضوا على معاداة السامية وتقريع العرب، والضحية الأبدية هي إسرائيل، والمشتبه بهم الأبديون هم الفلسطينيون.

لذلك، يقوم مفهوم الآخر على الانقسام ويشل حركة الآخر في هذه المعارضة، إنه يحوله إلى منافس على الأرض، أو، الأسوأ من ذلك، خصم دائم.

  • ما أهم عيوب الرواية الإسرائيلية الغربية، التي يجب كشفها وتعريتها للدفاع عن القضية الفلسطينية واختراق الرأي العام الدولي؟

تتكون الرواية الإسرائيلية الغربية، كما أسلفنا، من عدة مكونات رئيسة، وبشكل عام، تشترك في مطالبة تاريخية بالأرض باعتبارهم أحفاد القبائل الأصلية التي غزت القوى الاستعمارية الأجنبية وطنها على مر القرون.

أولا، وقبل كل شيء، تركز هذه الرواية الإسرائيلية الغربية على عناصر الدفاع عن النفس والحق في الوجود. وغالبا ما تستهدف هذه السردية مشاعر المجتمع الغربي من خلال تقديم نقاطها بطريقة محددة للغاية؛ لكسب الدعم العاطفي لحجتها. وتميز الكثيرون في المجتمعين الإسرائيلي والغربي بصدمات مركزية المجتمعات اليهودية. كما تم دمج ذكريات الصراعات العنيفة مع الدول العربية المحيطة، وحالة الصراع المستمرة التي يجب أن يعيشها جميع المواطنين الإسرائيليين في السردية، واستخدامها بشكل معتاد ودائم.

وثانيا، وفي كثير من الأحيان، يتم نقل هذه العناصر التاريخية والعاطفية من السرد إلى المجتمع الغربي من خلال وسائل فنية مثيرة للجدل، مثل الأفلام والكتب والموسيقى، التي تهدف على وجه التحديد إلى توضيح نقطة حول وجود الشعب اليهودي داخل دولة إسرائيل.

يتم تجاهل معاناة الفلسطينيين ومقاومتهم لها، أو تفسيرها على أنها نتيجة مباشرة للحقد الفلسطيني ومعاداة السامية (الأناضول)

وفي هذا المقام، فإن دعم الدولة اليهودية هو بمثابة تأكيد للأخلاق الغربية الشاملة، التي تتجاوز الحدود وتجعل الأشخاص ذوي الشهرة والسلطان يؤمنون بالعدالة الجوهرية للقضية.

وبسبب هذا الاعتقاد، فإن العديد من الجماعات والمنظمات والأفراد المهمين والحكومات تجد نفسها أكثر من راغبة في الدفاع عما يعتقدون أنه صحيح بشأن دولة إسرائيل والموافقة عليه. من خلال هذه الرواية، يمكن للمرء أن يستنتج بسهولة أن دولة إسرائيل موجودة باستمرار في بيئة معادية، وتقاتل من أجل حقها الجماعي في الحياة والدفاع. وهذه الحجج هي بلا شك عاطفية، وهي دعوى رنانة لموضع الرأي العام في المجتمع الغربي.

فالرواية الإسرائيلية الغربية متسقة ومقنعة وتصادمية في إيصالها، والرواية مدعومة بشكل أساس بالتدفق المستمر للصدمة، التي مرت بها إسرائيل، وكفاحها المستمر من أجل البقاء، وعدم رغبتها في التخلي عن الحرية.

بيد أنه، ورغم كل ذلك، يتبدّى أحد العيوب الرئيسة في الرواية التاريخية والمعاصرة الإسرائيلية الغربية السائدة، وهو أنها غير دقيقة، وغير حقيقية، ولا يقتصر الأمر على أن الحقائق غالبا ما تكون منحرفة، أو محذوفة تماما، بل إن الأحداث لا توضع في سياق تاريخي صحيح. ومن ثم، لا يمكن فهمها بشكل صحيح.

والأهم من ذلك، يتم تجاهل معاناة الفلسطينيين ومقاومتهم لها، أو تفسيرها على أنها نتيجة مباشرة للحقد الفلسطيني ومعاداة السامية والثقافة الغربية. ومن هذه الأخطاء الأخرى أن اليهود كانوا يحاولون بناء إسرائيل الحديثة، أو عاشوا فيها منذ ثلاثة آلاف عام، ولا يضاهيه سوى الاعتقاد الضمني أو الصريح بأن فلسطين كانت دولة لفترة متساوية من الزمن، معرضة للخطر من قبل يهود العصر الحديث الذين يحاولون اقتطاع دولة من الأرض اليهودية القديمة.

 

  • في السياق التاريخي للصراع، هناك عدد من الإكراهات والإغفالات، هل لنا الإشارة إلى بعضها؟

على الرغم من أن الادعاءات منذ تأسيس الدولة اليهودية، فإن سجلات الأحداث التاريخية أشارت في الغالب إلى المليشيات الصهيونية والهجمات، التي كانت تستهدف المدنيين والمجتمعات المحلية وعمليات الطرد والمجازر، والتي كان ضحيتها الفلسطينيين، وما "دير ياسين" إلا نموذج تكرر كثيرا. لذلك، فإن وصف الأحداث بأنها نزاع مسلح بين طرفين متساويين هو تحريف للحقائق التاريخية الحية.

وتغفل الرواية الغربية إلى حد كبير الحركة الجماهيرية للفلسطينيين قبل قيام الدولة، أو فهم مدتها، إبان الاستعمار البريطاني. في ذلك الوقت، أصبح ثلث السكان لاجئين في سياق من الخيانة والاحتلال مليء بمزيد من المذابح والطرد.

وفي الواقع، يتم الاعتراف بالحقائق المتنازع عليها، التي يقوم عليها ما سبق، ولكن يتم إخبار الجمهور بأن الروايات التي قد تستنتج هذه الحقائق هي تأطير مؤسسي لـ"الدعاية".

ويُشير الوعي بذلك إلى عدم كفايتها والحاجة إلى فهم إسرائيل بوصفها حركة عسكرية تقوم على التوسع، بغض النظر عن سكانها المدنيين، أي عملية التزام استعمارية بريطانية.

والإغفالات، إذن، تديم سوء الفهم في السعي إلى إدراك شامل للقضية، ومن ثم فإنها تتجاهل الحقائق وتستخف بها ولا تعترف بها؛ ما يؤدي بالأفراد حصريا أن ينتقلوا من الروايات إلى تجربة الحاضر على أنها تقيد منظور الظلم، المصمم عبر الزمن بالاقتران مع البناء التراكمي للدعاية. وفي الواقع، يتم إعاقة إعمالهم للحقوق من خلال السردية الصهيونية، ولكن ليس أقل من ذلك الحق في عيش حياة عدمية في المقام الأول.

إن إضفاء الشرعية على هذه الروايات الصهيونية مع استبعاد الآخرين -والتوسع اجتماعيا إلى سرد "غربي"- يرسل الحلفاء المحتملين إلى "المادة المظلمة" للملصقات وعلامات الاحتجاج: لا ترى ولا تسمع، ولا تندمج في جسد الكتلة المقاومة. وفي غيابها يكتسب الآخرون الوزن والواقع والأصالة.

وتحت الروايات "الغربية"، التي تحاول التعتيم على التاريخ باعتباره إشكاليا، وليس عرضيا، فإن إعادة تقديم الصراع على أنه منافسة حول من عانى أكثر، ومن يمكن للمرء أن يشعر بالأسف تجاهه، هو، الذي يصبح توترا وجوديا. إنه النفي المطلق لوكالة الضحية والممثل، الذي يؤلم حقا، مع عدم وجود إسكات للفضاء أثناء إنتاجه، لأن الإسكات إكراه يجعل المرء يغرق.

إن المساحة الممنوحة للمقاومة المقهورة هي الفرصة الوحيدة لاختراق هذا القفص الصفري، ومواجهة الصمت، ومخاطبة الجماهير العربية الأكبر بأنها هي الأخرى مقهورة. وهكذا، فقط مع وجود تاريخ أكثر اكتمالا كأساس سردي متاح، أي تاريخ فلسطين العربية، لا الغربية، يمكن لأي حدث أن يدل عليه. فقط من خلال إعادة صياغة السرد يمكن للأحداث الفردية أن تأخذ قوة رمزية إيجابية، بدلا من السلبية. فقط من خلال السرد يمكن أن يحدث التاريخ ولا يتكرر كمهزلة، فقط من خلال فلسطين.