خبر ⁄سياسي

هل تكون قوات الاحتياط سبب زوال إسرائيل

هل تكون قوات الاحتياط سبب زوال إسرائيل

ضمن تغطيتها للذكرى الأولى لهجوم المقاومة الفلسطينية على مواقع الجيش الإسرائيلي ومستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نشرت صحيفة هآرتز الإسرائيلية تقريرًا مطولًا يتناول آمال وآلام جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، ولم تجد الصحيفة عنوانًا للتقرير أفضل من اقتباس من ضابط احتياط يقول عن إسرائيل: "هذه ليست البلاد التي سأضحي بحياتي من أجلها".

تناول التقرير طرفًا من قصص أكثر من 130 جنديا وضابطًا في قوات الاحتياط الإسرائيلية، قالوا جميعًا إنهم لن يقدموا أنفسهم للخدمة من جديد إذا لم يفلح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تأمين صفقة مع حركة حماس، تضمن تحرير الأسرى الإسرائيليين الواقعين في أيدي المقاومة وتنهي الحرب. وعلى خلاف المعتاد من الجنود الذين يقضون أوقاتًا طويلة على جبهات القتال، مثل معاناتهم من الإرهاق البدني والذهني، لم تكن تلك هي الأسباب التي دفعت الجنود للتهديد بالقول "لقد اقترب اليوم الذي سنتوقف فيه عن أداء واجبنا!".

فلأول مرة، يسيطر التساؤل عن جدوى الحرب، لا من الناحية العملية فقط، بل من الناحية الأخلاقية أيضًا. وكما قال جندي احتياط يُدعى ياريف لهآرتس، فقد عبرت زوجته عن ذلك بالقول: "إذا قضيت في هذه الحرب، فسأضع "كان أحمقَ" على شاهد قبرك". وبعد أسابيع من نشر التقرير، كشفت صحيفة جيروزالم بوست عن رسالة وقعها 153 جنديا من جنود الاحتياط وقُدمت إلى نتنياهو، هددوا فيها بالامتناع عن أداء الخدمة العسكرية.

لم يكن الأمر مجرد موقف عابر من قبل بعض الجنود المتذمرين، حيث كشف الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن تراجع ملحوظ في انضمام جنود الاحتياط للخدمة العسكرية بالجيش الإسرائيلي، وقد ذكرت صحيفة ثالثة، وهي يديعوت أحرونوت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، أن الجيش الإسرائيلي أصبح "يشعر بالقلق بسبب انخفاض معدل الخدمة الاحتياطية بنسبة تتراوح بين 15 و25٪".

وظهور التذمر وارتفاع حدة الغضب إلى هذا الحد داخل قوات الاحتياط ليسا أمرين هيِّنين في إسرائيل. فمنذُ تأسيسها؛ يُنظر إلى قوات الاحتياط باعتبارها أحد أهم ركائز الوعي القومي، والتماسك الاجتماعي، حتى أصبحت توصف بأنها "إحدى البقرات السبع المقدسة" للمجتمع الصهيوني، بحسب جبرائيل بن دور، مدير برنامج دراسات الأمن الوطني بجامعة حيفا.

فمن ركائز الانتماء لإسرائيل، أن يكون الرد المتوقع لكل من يحمل هويتها هو الاستجابة الفورية إذا تلقى أمر استدعاء للجيش، مهما كان الأمر أو الظروف التي يمر بها المستدعى. حيث أدرك القادة الأوائل في إسرائيل مدى خطورة الفجوة البشرية الهائلة بين دولتهم وأعدائها من الدول العربية، وأن إسرائيل في ظل هذه المحدودية، لا يمكنها الاحتفاظ بقوات نظامية قادرة على مواجهة كافة التهديدات الأمنية المحيطة بها من كل جانب. ومن ثمّ؛ تشكلت نظرية الأمن القومي الإسرائيلي وفق ما يُسمى مبدأ "أمة تحت السلاح"، حيث تمثل القوات الرديفة القابلة للاستدعاء في أوقات الطوارئ والحرب الضمانة الأساسية لتحقيق الأمن.

بل إن القوام الأساسي لجيش الاحتلال هو من قوات الاحتياط؛ مما يعسّر التمييز بين المدنيين والعسكريين داخل إسرائيل، وفي حكم المستحيل كما يقول المسيري: "العثور على حدود فاصلة بين النخبة العسكرية والنخبة السياسية، إذ يتبادل أفراد النخبتين الأدوار ويقيمون التحالفات في الأحزاب والهستدروت والكنيست وغيرها من المنظمات".

بيد أنّ أزمة قوات الاحتياط الآخذة في التصاعد لم تكن وليدة أحداث طوفان الأقصى فقط. فقبل الحرب بعدة أشهر؛ شارك ضباط وجنود احتياط في احتجاجات ضد نتنياهو، متهمين إياه بالفساد، وذلك في خضم الاحتجاجات التي اندلعت وقتها ضد توجه حكومته لإقرار تعديلات تشريعية تقلل من صلاحية المحكمة العليا على قرارات الحكومة.

ووقع 161 طيارا وضابطا كبيرا بسلاح الجو، آنذاك، رسالة أرسلوها إلى قائد السلاح، اللواء تومير بار، تحت عنوان "الوقف الفوري للتطوع في قوات الاحتياط"، كتبوا فيها: "نحن الموقعين أدناه -وهم 161 من عناصر القلب العملياتي لمقر قيادة القوات الجوية- نعلن عن التوقف الفوري لتطوعنا في خدمة الاحتياط"، بحسب ما أوردته وقتها صحيفة يديعوت أحرونوت.

وهذا يعني أن بعض أسس التماسك والانتماء داخل المجتمع الإسرائيلي تواجه تصدعا عنيفا، ازداد تشققًا بعد هجوم السابع من أكتوبر، حيث وجدت قوات الاحتياط الإسرائيلي نفسها في خضم حرب طويلة لم تشهد لها مثيلًا من قبل ولم تكن مستعدة لها وهي التي لم تُبدأ بحرب من قِبل أعدائها على الرقعة التي تحتلها منذ النكبة. فازدادت أزماتها وتبدّت ملامح متعددة للتوتر مع القيادة السياسية في ظل ضغوط شديدة تعانيها تلك القوات، خاصة على جبهات الحرب البرية التي تتعرض فيها لاستنزاف هائل دون أفق سياسي، فضلا عن الأزمات النفسية والاقتصادية والاجتماعية بعد توقف حياتهم المدنية لمدة طويلة.

هذه التطورات تعطي أهمية خاصة لفهم بنية قوات الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، وكيف اكتسبت رمزيتها غير القابلة للمساس في المجتمع الصهيوني، وكيف يمكن أن تؤثر أزماتها في مسار الحرب؟

الكاتب: أزمة قوات الاحتياط الآخذة في التصاعد لم تكن وليدة أحداث طوفان الأقصى فقط (وكالة الأنباء الأوروبية)

 جيش الشعب: الدور المركزي لقوات الاحتياط

منذ الحرب التي أسست إسرائيل في 1948، طوّر ديفيد بن غوريون، وهو أول رئيس وزراء لإسرائيل وإليه يُنسب بناء عقيدتها الأمنية، مفهوم "جيش الشعب" بما يعني أن يكون الشعب الإسرائيلي كله مستعدا للقتال والانخراط في الحرب، وذلك لضمان أن تكون أعداد القوات الإسرائيلية المحاربة أكبر من عدد القوات المحاربة في جيوش أعدائها، مهما كانت الفجوة بين العدد الكلي للمجتمع الإسرائيلي وأعداد المجتمعات العربية.

تطبيقا لهذا المبدأ؛ فرضت إسرائيل خلال الحرب عام 1948 التجنيد الإلزامي على كل من يتراوح عمره بين 17 و54 عاما. ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها؛ قننت إسرائيل "التجنيد الإجباري" على جميع المواطنين اليهود ممن يبلغون 18عاما، ذكورا وإناثا. ولاحقا؛ بعد حرب 1967 حُددت مدة التجنيد الإجباري بثلاث سنوات، وأُعفيت منها فئات من النساء مثل المتزوجات والأمهات، كما أعفي الرجال "الحريديم" الذين يدرسون في المعاهد الدينية، وكذلك أعفي المواطنون العرب باستثناء الدروز الذين كانوا قد فرضت عليهم الخدمة الإجبارية عام 1954.

ومن ثمّ صارت بنية الجيش الإسرائيلي تنقسم إلى قوات نظامية وقوات احتياط، وتنقسم الأولى إلى مجندين يؤدون الخدمة الإجبارية (32 شهرا للذكور و24 شهرا للنساء) ويبلغ عددهم قرابة 133 ألفا، ومجندين دائمين يعملون وفق عقود طويلة الأمد مع الجيش بعد انتهاء خدمتهم الإجبارية، ويبلغ عددهم 40 ألفا فقط.

أما قوات الاحتياط فهي الجزء الأوسع من الجيش، وتتشكل من الذين انتهت مدة تجنيدهم الإلزامية، ولكنهم يبقون على أهبة الاستعداد للاستدعاء في أوقات الطوارئ، وقد بلغ عددهم 465 ألف جندي عام 2023 حسب موقع غلوبال فاير باور، ويحدد قانون الاحتياط فترة الخدمة السنوية للجنود بمعدل 18 يومًا في السنة و54 يوما كل 3 سنوات، وفقا لتعديلات القانون في عام 2008. وذلك فيما عدا الطيارين الاحتياطيين بسلاح الجو الذين يستدعون يوما واحدا كل أسبوع للحفاظ على جاهزيتهم الفنية، ويمارسون أعمالهم المدنية بقية أيام الأسبوع.

وخلال العقود الثلاثة الأولى من عمر إسرائيل؛ مثلت قوات الاحتياط القوة الضاربة والحاسمة، كما في حروب أعوام 48 و56 و67، التي اتسمت عملياتيا بدور مركزي للقوات البرية، وأدى ذلك إلى ارتفاع القيمة المعنوية والرمزية لقوات الاحتياط في الوعي القومي الصهيوني بشكل بالغ. فمثلا في حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) في عام 1956، شارك 150 ألف جندي إسرائيلي من قوات الاحتياط في الحرب على الجبهة المصرية، وفي حرب الأيام الستة في 1967 شارك 214 ألف جندي احتياط في حين كان إجمالي القوة القتالية للجيش 264 ألفا.

بيد أن التطور الأكثر أهمية لقوات الاحتياط كان فيما بين حرب أكتوبر 1973 والحرب الأولى على لبنان في 1982 التي أطلقت عليها إسرائيل "عملية السلام للجليل". فبعد الضربة المفاجئة التي تلقتها إسرائيل على الجبهة المصرية في أكتوبر، توسع الجيش في التجنيد بغية استعادة الشعور بالتفوق والجاهزية للقتال، فازداد عدد الفرق القتالية البرية حتى وصل إلى 14 فرقة، كانت قوات الاحتياط هي النسبة العظمى منها. وفي الحرب على لبنان 1982 شاركت 7 فرق قتالية في الحرب كانت قوات الاحتياط تمثل أكثر من ثلثيها.

نمط جديد من الحروب: فلترجع قوات الاحتياط إلى الخلف!

"لكننا سنتذكرهم جميعًا..

لأن صداقة مثل هذه لن

تسمح أبدًا لقلوبنا بالنسيان.

الحب المقدس بالدم..

سيزدهر بيننا مرة أخرى".

هذه كلمات إحدى أكثر الأغاني استقرارا في الوجدان الإسرائيلي، وتحمل عنوان "هآريوت" الذي يعني الصداقة والرفقة، وقد كُتبت هذه الأغنية بعد عام من اندلاع حرب 1948، تجسيدا للمصطلح الذي كان شائعا في إسرائيل: "أخوة السلاح". ويحمل الإسرائيليون في ذاكرتهم خلال تلك السنوات عشرات القصص الرمزية للتضامن بين قوات الاحتياط (الأمة المجندة) وسرعتها في تلبية نداء "الوطن" في حالات الطوارئ.

لكنّ المؤكد أن ثمة تغيّرًا في إسرائيل وفي جيش الأمة بعد العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة. وتحديدا كان عام 1985 عاما محوريا في ذلك، حيث توقف الجيش فيه عن استدعاء قوات الاحتياط للمشاركة في العمليات القتالية في لبنان، بضغط من الحكومة، بعد مشاركة كثير من العائدين منهم من جبهات القتال في احتجاجات شعبية تطالب بإنهاء الحرب في لبنان، وكانت تلك اللحظة بمثابة بداية تراجع الإجماع الشعبي حول حروب إسرائيل، ومن ثم تراجع الدافعية للانخراط في القتال.

ومنذ ذلك الحين، لم تشارك قوات الاحتياط بصورة جوهرية في أي من حروب إسرائيل اللاحقة حتى طوفان الأقصى، وفقا لدراسة مطولة نشرها موقع الكلية الجوية الإسرائيلية في 2014. لكن ثمة عوامل أكثر موضوعية كانت وراء هذا التحول، أبعد كثيرا من العوامل الشخصية المرتبطة بدافعية القوات للقتال.

أول هذه العوامل هو تغير نمط التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل، فقد شهدت الثمانينيات والتسعينيات تراجع خطر نشوب الحروب النظامية بين إسرائيل والجيوش العربية، ونشوء تهديدات أخرى غير نظامية، حيث تأسست حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين عام 1981، وحزب الله في لبنان عام 1982، ثم حركة حماس 1987. على إثر ذلك تغيرت العقيدة العملياتية للجيش الإسرائيلي باتجاه تخفيض دور العمليات البرية الموسعة والتركيز على تطوير سلاح الجو والاستخبارات لتنفيذ نمط قتالي جديد يعتمد على الضربات المركزة والحاسمة.

وهناك عامل آخر، هو الأزمة الاقتصادية الحادة التي مرت بها إسرائيل في الثمانينيات، بسبب ارتفاع الإنفاق العسكري بنحو غير مسبوق في السنوات التي تلت حرب 73. ومن تداعيات تلك الأزمة أن جرى الاتفاق بين وزارة المالية ووزارة الدفاع على أن تتحمل وزارة الدفاع التكلفة الكاملة لقوات الاحتياط، ولأن الوزارة ليست ملزمة بميزانية محددة لقوات الاحتياط فقد عمدت إلى توفير ميزانياتها لصالح قطاعات أخرى من الجيش أصبحت ترى أنها أكثر أولوية مثل سلاح الجو والمسيّرات الحديثة.

تغيرت إذن نظرة الجيش إلى مكانة قوات الاحتياط، وتراجع دورها في عقيدته العملياتية تبعا لتراجع دور العمليات البرية بشكل عام، ضمن توجه لبناء جيش صغير محترف يعتمد على العمليات البرية أداةً رئيسة لتحقيق أهدافه الإستراتيجية في حروب سريعة وحاسمة.

وخلال هذه العقود الأربعة لم تُستدع بشكل واسع إلا في أحداث انتفاضة الأقصى في العملية العسكرية التي أطلقت عليها إسرائيل عملية "الجدار الواقي" بهدف إعادة احتلال مناطق في الضفة الغربية أبرزها مخيم جنين. ولم تشارك قوات الاحتياط في أيّ عمليات عسكرية مهمة في حروب 2006 في جنوب لبنان، وحروب غزة 2008 و2012 و2014، واقتصر دورها على المهام الدفاعية خارج مناطق الاشتباك المهمة.

جانب من قوات الجيش الإسرائيلي (أسوشيتد برس)

ذبح البقرة المقدسة: ملامح إهمال قوات الاحتياط

نتيجة للتحولات السابق ذكرها في نمط الحروب وطبيعة العدو؛ ساد اعتقاد في المستوى السياسي والأمني في إسرائيل بأن أخطار الجبهة الشمالية مع حزب الله والجنوبية مع فصائل غزة قابلة للاحتواء عبر الضربات الجوية، وأن الخطر الأساس الذي يهدد إسرائيل أصبح متمثلا في إيران بصورة رئيسة؛ مما يستدعي اهتماما أكبر بتطوير القدرات النووية والاستخبارية وتطوير سلاح الجو وتحديثه بشكل دائم، وأن هذا النوع من الحروب الحديثة لن يحتاج إلى فرق برية ضخمة.

ومع تراجع شعور المجتمع الإسرائيلي بالتهديد الوجودي، تحول تدريجيا من "أمة تحت السلاح" إلى مجتمع نيوليبرالي أصبح يفضل الانخراط في سوق العمل على الخدمة العسكرية التي لم يعد الدافع إليها ملهما كما كان.

ومن ثم تراجعت المكانة الرمزية التي كانت تتمتع بها قوات الاحتياط في نفوس الشعب الإسرائيلي، ولم تعد الخدمة العسكرية هي النموذج الأرقى في المخيال العام للمجتمع، وحلت بدلا منها نماذج أخرى مثل تحصيل النجاح الفردي في سوق مفتوحة واقتصاد واعد وشعور بالاطمئنان لقدرات الجيش النظامي المحتر&#