بحثا عن التفاحة الحمراء.. سلجوق بيرقدار مهندس المسيرات الطامح لتغيير العالم
بدأتُ لقائي الطويل مع المهندس سلجوق بيرقدار بطلب شخصيٍّ، وهو أن يتجنَّب الحديث في الأمور التقنية المعقَّدة، فأنا شاعرٌ مهتم بالشؤون السياسية والإستراتيجية، ضعيف الفهم للأمور التقنية، وحينما بدأ مدرِّسي المصري في السنة الأولى الإعدادية -الأستاذ مجدي ذكره الله بخير- يتحدث أمامي بلغة رياضية، في مدينة "النعمة" الموريتانية النائية، ويرسم رموزا رياضية على السبورة، لم أفهم شيئا مما قال، فهربتُ من المدرسة الإعدادية بعد شهرين فقط من الدراسة فيها.. ولولا أن يسر الله لي التوجه إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، بعد سنين من الانقطاع عن الدراسة الرسمية، لربما كان ذلك آخر عهدي بالعلم والتعلُّم. وقد وعدني سلجوق بمراعاة هذه الصفحة المحرجة من تاريخي الشخصي، ووفَّى بوعده على أحسن وجه.
يوصف سلجوق بأنه "أبو المسيَّرات التركية المقاتلة"، ويقارنه كثيرون بالمبتكِر الأميركي الشهير "ستيفْ جوبز"، وبرجل الأعمال الصناعي الأميركي "إيلون ماسك". فهو شاب متوقِّد الذكاء، صَلبُ العزيمة، واضح الرؤية، قويُّ الانتماء. حمَل همَّ الاستقلال التكنولوجي لبلاده في مجال الصناعات الدفاعية، وتركَّز جهده على صنف حسَّاس من التكنولوجيا العسكرية، هو المسيَّرات العسكرية، وهي إحدى السِّهام الأساسية التي تشير إلى مآلات الحروب في المستقبل. وقد انتزع سلجوق بمنجزاته في هذا المضمار مكانة خاصة في تاريخ الابتكار الصناعي العسكري، وأسهم في وضع تركيا على خريطة الدول الرائدة في هذا المضمار، وجعل منها مصدِّرا للإنتاج العسكري للعديد من دول العالم، بكل ما يترتب على ذلك من حضور دبلوماسي، ومكانة سياسية، ومكاسب اقتصادية.
إعلانوهذه رحلتي الخاصة مع هذا المهندس والمبتكر المتميز. وقد استمدَّ هذا النص مادَّته الأساسية من لقاء طويل وحديث متدفق -دام ساعات عِدَّة- مع سلجوق في مكتبه بشركته "بايكار" في ضواحي إسطنبول، ثم من عدد وافر من المصادر التي تناولت تاريخ الشركة، ومنتجاتها، والمغزى الإستراتيجي لما حققته وما تسعى إلى تحقيقه، بالنسبة لتركيا، وبالنسبة لفنِّ الحرب بشكل عام. وقد شمل الحديث مع سلجوق جوانب شخصية من حياته، مثل جذور عائلته، وبيئته الاجتماعية، ونشأته الأولى، وذكريات طفولته، وما اكتسبه من والده، ومن عائلته بشكل عام، من صفات، مرورا بدراسته في تركيا والولايات المتحدة، ومشاركته مع والده في مشاريعه التصنيعية، ثم حمْله إرثَ والده بعد رحيله، ونقْله ذلك المجهود نقلة نوعية. وقد انتهى الحوار الطويل بنقاش قضايا الإستراتيجية مثل موقع تركيا ودورها الإقليمي والدولي، ومسائل فلسفية مثل العلاقة بين العلم والإيمان والضمير.
بين بحيرتيْ "شكمجة" في مدينة إسطنبول، يفترش مبنى شركة بايكار الذي التقيتُ فيه المهندس سلجوق مساحة فسيحة، وهو مُصمَّم على نمط عصري فريد، ويشمل مكاتب البحث والتطوير، وورشات التصنيع، وقاعاتِ عرضٍ واسعة تضم أصناف المسيَّرات التي تنتجها الشركة. ومن الواضح أن المبنى صُمِّم ليكون بيئة مريحة للعمل، بما يضمه من مسابح، وصالات رياضية، ونواد اجتماعية، ومؤسسات صحية. ويعمل في الشركة آلاف الموظفين، من بينهم 1200 مهندس، ينتمون إلى ثلاثة عشر فرعا من فروع الهندسة، وغالبيتهم من الشباب، حيث معدَّل أعمار العاملين في الشركة لا يتجاوز 28 عاما.
وفي مكتبه الزجاجي الفسيح، رحب بي المهندس سلجوق بيرقدار بحفاوة وود، وكان أثناء حديثنا يراقب طائراته المسيَّرة على شاشات بجانب مكتبه، وهي تحلِّق في رحلات تجريبية -فيما يبدو- وقد ظهرت على الشاشات معلومات عن ارتفاع كل منها وسرعتها. وهو يحدِّق في تلك الشاشات من وقت لآخر، ويقطع الحديث بجملة أو جملتين أحيانا، تعليقا على تلك الرحلات. وفي زاوية المكتب سبورة دوَّن عليها ما يبدو أنه مُعطيات ومعادلات رياضية، بدت لي طلاسمَ فلم أفهم منها شيئا على الإطلاق!
المقصد.. التفاحة الحمراء
لم يكن صدفةً أن اختار المهندس سلجوق بيرقدار اسم "التفاحة الحمراء" Kızıl Elma لدُرَّة الصناعة العسكرية التي تنتجها شركته "بايكار"، وأن يعلن عنها في الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. وهي أحدث جيل من الطائرات المسيَّرة التي صمَّمها هو وفريقه. وليست "التفاحة الحمراء" بالمسيَّرة العادية، بل هي طائرة مقاتلة ذات قدرة هائلة على المناورة، وبمميزات شبَحِية تجعل من العسير على الرادات اكتشافها، فضلا عن قدرتها على الإقلاع والهبوط الآلي على مدارج قصيرة. ويعتقد سلجوق أن "طائرة التفاحة الحمراء تمثل مستقبل الطيران في العالم. فنحن لم نعد أتباعا لأرباب الصناعات في هذا المضمار، بل أصبحنا شركاء في صناعة التاريخ" كما قال لي.
وللتفاحة الحمراء -كرمز ثقافي- مكانة خاصة عند الأتراك، فهي ترمز إلى الريادة بين الأمم. وقد تردَّد صدى هذا الرمز الثقافي في الأدب التركي والثقافة الجماهرية التركية المعاصرة. ففي مطالع القرن العشرين نشر الشاعر وعالم الاجتماع والسياسي التركي ضياء غوك ألب (1875-1924) ديوان شعر بعنوان "التفاحة الحمراء"، مستلهِما هذا الرمز العتيق في الثقافة الشعبية التركية. وكتب ضياء في إحدى قصائد الديوان: "إن غايتنا في هذا العالم الفاني هي الوصول إلى التفاحة الحمراء". فاقتطاف التفاحة الحمراء هو التتويج النهائي للمسار التاريخي التركي خلال أكثر من ألف عام، بمحطاتها الفارقة التي تضمَّنت ملاحمَ تاريخية، منها معركة ملاذ كرد 1071م، وفتح القسطنطينية 1453م، ثم معركة جناق قلعة 1915-1916، وحرب التحرير الوطني 1918-1923م، وأخيرا ملحمة 15 يوليو 2016 التي أفشلت الانقلاب العسكري على الديمقراطية التركية. ومن طريف المصادفات أن انطلاق طائرة التفاحة الحمراء يأتي بالتزامن مع الذكرى المائوية لوفاة الشاعر ضياء غوك ألب، صاحب ديوان "التفاحة الحمراء" الذي توفي عام 1924.
وقد أصبح ضياء غوك ألب بدواوينه الشعرية الثلاثة: "التفاحة الحمراء"، و"الحياة الجديدة"، و"الضوء الذهبي"، من أكثر الشعراء الوطنيين شعبية في تركيا. وهو شاعر الرئيس رجب طيب أردوغان المفضَّل، وصاحب الأبيات الشعرية الشهيرة التي سُجن أردوغان بسببها قبل أكثر من عَقدين من الزمان، في مهزلة سياسية وقانونية تدل على ضيق أفق النخبة العلمانية المتحكِّمة آنذاك، وهي قول ضياء: "المآذن رماحنا، والقباب خوذاتنا، والمساجد ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا". وقد أشار الرئيس أردوغان إلى رمز التفاحة الحمراء في خطاباته أكثر من مرة، ومن ذلك قوله مخاطبا الشباب الأتراك عام 2017: "سوف نبني تركيا معكم عام 2023. أما التفاحة الحمراء المستقبلية فهي تركيا عام 2053 حينما نكون قد تركنا أمانة كل شيء بأيديكم". وهو يشير بعام 2023 إلى الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية، وبعام 2053 إلى الذكرى المئوية السادسة لفتح إسطنبول.
إعلانوقد اختلف المؤرخون والكتَّاب في تفسير الدلالة الرمزية للتفاحة الحمراء لدى الأتراك الأقدمين، فمنهم من جعلها تعبيرا رمزيا عن الطموح لفتح مدينة القسطنطينية، ومنهم من رآها إشارة إلى السقوف الطينية الحمراء السائدة في المدن الأوروبية العتيقة التي استهدفها العثمانيون بالفتح في أوج اتساع إمبراطورتيهم، ومنهم من يعتبر التفاحة الحمراء رمزا للكرة الأرضية، فهي -طبقا لهذا التفسير- تعبير رمزي عن الطموح إلى القيادة والريادة العالمية. والظاهر أن جاذبية هذا الرمز تكمن في غموضه ودلالاته المفتوحة، فهو يرمز إلى كل ما طمح إليه الأتراك من أهداف ظاهرة أو مُضْمَرة خلال مسارهم التاريخي الطويل. وتحت مظلة هذه الدلالات المفتوحة دخلت طائرة "التفاحة الحمراء" العسكرية المسيَّرة، فهي أبلغ تعبير عن هذا الرمز الثقافي في تركيا اليوم.
سألتُ المهندس سلجوق بيرقدار ماذا يعني له رمز التفاحة الحمراء؟ ولماذا استلهم هذا الرمز الثقافي التركي في تسمية دُرَّة منتجاته العسكرية، طائرة "التفاحة الحمراء" المسيَّرة؟ وإذا كانت التفاحة الحمراء ترمز للغاية البعيدة المنال، فهل هو يرى أن تركيا قد حققت هذه الغاية من خلال تصنيعه لطائرات "التفاحة الحمراء" المقاتلة؟ أم أن التفاحة الحمراء غاية لا تُدرك، والمهم هو السعي إليها؟
فذهب إلى أن فكرة مسيَّرة "التفاحة الحمراء" ظلت تختمر في عقله منذ أن بدأ مع والده بحوثا تجريبية لتصنيع مسيَّرة صغيرة لا يزيد حجمها على ستة كيلوغرامات. لكن هذا الحلم لم يتحقق إلا بعد نحو عشرين عاما من التطوير والجهد الدائب الذي لا يعرف الكلل أو الملل. ولأن التفاحة الحمراء غاية مفتوحة، فيجب أن يكون الطموح إليها أفُقًا مفتوحا، والسعي إليها سعيًا دائبًا، بحيث يتحول السعي غاية في ذاته. ولذلك فإن النجاح في تصنيع طائرة "التفاحة الحمراء" مجرد محطة على الطريق، ستليه محطات أخرى ذات صلة بغزو الفضاء وغيره من مشروعات. وقد ذكَّرني حديث المهندس سلجوق بطرف من أشعار جلال الدين الرومي (1207-1273)، دفينِ مدينة قونية التركية التي كانت عاصمة الإمبراطورية السلجوقية، حيث يقول الرومي: "واصِل السير. لا توجد وِجْهة نهائية، فلا تحاول رؤية الغاية من بعيد".
الجذور وذكريات الطفولة
في شمال شرق تركيا حيث تنتاب التضاريسَ نزعة للعلوّ، فتمتد اليابسة المُطلّة على البحر الأسود لمصافحة السماء، ترجع جذور أسرة المهندس سلجوق بيرقدار. وكان جده لطفي رئيس صيادًا، قويَّ الشكيمة، فضوليًّا، ذا روح مغامرة. وكان يأخذ معه أبناءه وأحفاده في رحلات بحرية لصيد السمك. وقد هاجرت الأسرة إلى حيّ "غريبجه" في إسطنبول، الذي يكاد يكون قطعة مستعارة من منطقتهم الأصلية، إذ إن هذا الحي من مدينة إسطنبول أشبه ما يكون ببلدة صغيرة من بلدات البحر الأسود. فقد جمع الحي بين الطبيعة الجبلية والساحلية، وتجمَّع فيه عدد من المهاجرين الغرباء من شتّى مناطق الأناضول. وربما يكون ذلك سبب تسمية الحي "غريبجه" التي تعني "الغريب".
في ذلك الحي ولد سلجوق عام 1979، لأسرة محافظة اجتماعيا، عميقة الحاسَّة الوطنية سياسيا، وفيها صلابة وشجاعة. والمعنى الاشتقاقي لاسم العائلة له دلالة خاصة، إذ تعني كلمة "بيرق" باللغة التركية العَلَم، وطبقا لكتاب "المعجم الموسوعي للمصطلحات العثمانية التاريخية" لمؤلفه الدكتور سهيل صابان، فإن لفظ بيرق "كان يُطلق في الأصل عند أتراك آسيا الوسطى على قِطع الأقمشة المختلفة الألوان والأبعاد، الممنوحة للأبطال الذي أظهروا بسالة في الحرب"، أما لفظ "بيرقدار" (ويُنطق تاء بالتركية) فمعناه "حامل العلَم".
إعلانويبدو أن الطبيعة تركت بصمتها على شخصية سلجوق وعائلته، فمن البحر استلهم في طفولته ثقافةَ الكفاح، وروح المغامرة والمخاطرة. كما أنه متعلق تعلُّقا عميقا بمنطقة طرابزون، وهي منطقة معروفة بثقافة العمل والجِدِّ، وبتقاليد أهلها العريقة، المنقوعة في القيَم الاجتماعية الإسلامية.
سألت سلجوق لماذا لم يفقد الأمل بعد أن تحطَّمت طائراته المسيَّرة عدة مرات في تجاربه الأولى، بل أصرَّ على تكرار المحاولات وتحسينها، حتى وصل إلى ما يطمح إليه من إتقان. فمن أين له بهذه العزيمة وهذا الإصرار؟ فأشار إلى صلابة والده الذي كان قدوته في هذا المضمار. ثم إلى ثقافة ساحل البحر الأسود ذي التضاريس الجبلية الوعرة. فالناس في تلك المنطقة اعتادوا صعود الجبال لزراعة الشاي وقطفه، وخوض غمار البحر لاصطياد السمك. فثقافة أهل طرابزون "ثقافة كفاحية" كما يقول سلجوق، لأنها تستلزم مصارعة الأمواج العاتية، وتسلُّق القِمم العالية، وهي الثقافة التي لقَّنها إياه أبواه منذ الطفولة. وهو مقتنع اقتناعا عميقا بأن "الإيمان يحرِّك الجبال"، وبأن "الضغط يعلِّم الصبر، والصبر يقود إلى النجاح، والتحديات تجعل الإنسان أقوى". كما يؤمن بأنك "إذا أردت نتائج استثنائية فعليك أن تعمل بطريقة استثنائية". وكأنما يؤمن سلجوق بحكمة الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799-1837) القائلة: "إن الضرب يكسِّر الزجاج، ولكنه يبلِّط الحديد".
وإذا كان لكل إنسان ذكرياتٌ خاصة يستبقيها من عهد الطفولة، وهي تشكِّل وعيه وطموحه المستقبلي، فإن سلجوق لا يزال يحتفظ بذكريات باقية من طفولته، تركتْ أثرها في قلبه وعقله. وقد سألتُه عن ذكريات الطفولة ذات الأثر الباقي في حياته، فذكر منها أن والده المهندس أوزدمير كان شَغوفا بالطيران، وكان يأخذه معه أحيانا -وهو لا يزال في الثامنة من عمره- إلى دروسه للتدريب على الطيران. وفي إحدى تلك الزيارات ركب سلجوق الطائرة مع المدرِّب، فانطبع في ذاكرته الشَّغف بالطيران منذ ذلك اليوم. ومن ذكرياته الباقية أيضا أن والده جلب له مرة مجسَّم طائرة، بعد رحلة له إلى فرنسا.
تخرجتْ والدة سلجوق "جَنان" من كلية الاقتصاد بجامعة إسطنبول، وعمِلت مبرمجة كمبيوتر في "بنك التنمية الصناعية التركي" فترة من الوقت، وكانت صارمة في أمر دراسة أبنائها الثلاثة: خَلوق وسلجوق وأحمد. فكانت تعينهم في دراستهم الابتدائية والثانوية، وتضغط عليهم ليجتهدوا ويتفوقوا في الدراسة. أما والد سلجوق، أوزدمير بيرقدار (1949-2021)، فكان مهندسا موهوبا، شَغُوفا بعلم الهندسة، و"فضوليا للغاية" كما حكى لي ابنه سلجوق. وكان ذا شخصية صلبة، عظيمة الثقة في ذاتها، لا تعرف الاستسلام للصعاب، وتأنف م