الانتخابات الرئاسية.. رحلة في تاريخ لبنان السياسي منذ الاستقلال
وسط ترقب داخلي وخارجي للانتخابات الرئاسية في التاسع من يناير/كانون الثاني، يستقبل لبنان عام 2025. ولم تحسم الأطراف السياسية خياراتها بشأن هوية الرئيس المقبل بعد، رغم بروز أسماء مرشحين عدة، من بينهم قائد الجيش جوزيف عون.
وتشير مصادر مختلفة إلى أن الأسبوع الأول من العام سيشهد حراكًا رئاسيًا واسعًا، خصوصًا أن إنجاز الاستحقاق يتأثر بالتداعيات الإقليمية والعالمية، بدءًا من وقف إطلاق النار مع إسرائيل، مرورًا بسقوط نظام الأسد في سوريا -الذي لعب دورًا محوريًا في تحديد هوية الرئيس اللبناني- وصولاً إلى ترقب وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وسط تساؤلات حول دور واشنطن في هذا الاستحقاق.
التحديات التاريخية لعملية تداول السلطة بلبنان
بعد أقل من 24 ساعة على إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقف إطلاق النار مع حزب الله في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والذي تم برعاية أميركية فرنسية، أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري عن موعد جديد لانتخاب رئيس الجمهورية في 9 يناير/كانون الثاني 2025.
وجاءت دعوة بري للهيئة الناخبة في البرلمان في سياق ما يعتبره البعض تحضيرا لـ"صفقة سياسية متكاملة" قد تُحدد هوية ومستقبل لبنان داخليًا وإقليميًا لمرحلة ما بعد الحرب.
إعلانوكان بري (زعيم حركة أمل وحليف حزب الله) طوال عام مهندسًا لمباحثات وقف إطلاق النار مع الوسيط الأميركي آموس هوكستين. واللافت في الموعد المحدد، أنه أعطى مهلة زمنية لاختبار فعالية وقف النار الذي يواجه تحديات بسبب خروقات إسرائيلية متكررة.
ومع دخول الشغور الرئاسي عامه الثالث، وبمعزل عن مدى قدرة البرلمان على إنجاز الاستحقاق، يفتح لبنان صفحة جديدة من قصته مع الانتخابات الرئاسية. فمنذ أكثر من 81 عامًا على استقلاله بعد الانتداب الفرنسي في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943 لم يعرف لبنان عملية سلسة لتسلم وتسليم السلطة بين رؤساء الجمهورية.
وخلال تلك الفترة، اختبر لبنان تمديد ولايات الرؤساء، الشغور الرئاسي، انتخاب قادة جيش، ولم يُنتخب رئيس دون عوامل داخلية وخارجية استثنائية، كما أن الانتخابات الرئاسية غالبًا ما كانت نتيجة للصراعات الداخلية أو الحروب، أو تسببت في اندلاعها أو إخمادها.
وهنا، نستعرض مسارًا زمنيًا مختصرًا لظروف انتخاب جميع رؤساء الجمهورية في لبنان، باعتبارها دلالة تاريخية وامتدادا حاضرا للمرحلة الراهنة:
ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية
عام 1975، كانت سمة الإجماع البرلماني تطغى نسبيًا على الانتخابات الرئاسية، من عهد الرئيس بشارة الخوري (عام 1943) وصولًا إلى عهد الرئيس شارل الحلو (عام 1964).
- الخوري.. رئيس الاستقلال الأول (1943-1952)
منتصف الحرب العالمية الثانية، كان بشارة خليل الخوري (1890-1964) أول من يتوج عهد استقلال لبنان عن فرنسا في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1943 عبر انتخابه رئيسًا للجمهورية.
وكان الخوري يرأس "الكتلة الدستورية" وقد حظي بدعم سياسي واسع من المجتمعين الإسلامي والمسيحي.
وفي 21 سبتمبر/أيلول 1943، اجتمع البرلمان اللبناني لانتخاب أول رئيس للاستقلال، فحصل الخوري على إجماع النواب الحاضرين بغالبية 44 صوتا من أصل 55.
واشتهر بإخلاصه لاستقلال لبنان ووحدته الوطنية مع شريكه رياض الصلح الذي أصبح أول رئيس للحكومة في عهد الاستقلال.
إعلانوحين كُلّف الصلح بتشكيل الحكومة الاستقلالية الأولى، تم الإعلان عن "الميثاق الوطني" الذي وضع أسس النظام السياسي القائم على تقاسم الطوائف اللبنانية للسلطة.
وتمكن الخوري مع الصلح من إلغاء بنود الانتداب الفرنسي من الدستور، وشهد عهده تأسيس الجيش اللبناني بقيادة اللواء فؤاد شهاب.
ولكن بعد اعتقالهما مع من عُرفوا برجالات الاستقلال في قلعة راشيا، اشتعلت ثورة شعبية للمطالبة بالإفراج عنهما، مما اضطر فرنسا للاعتراف باستقلال لبنان.
وعقب انتهاء ولايته الأصلية البالغة 6 سنوات عام 1949 -وهي المدة القانونية في لبنان لولاية رئيس الجمهورية- تم تمديد ولاية الخوري حتى العام 1955.
لكن الخوري استقال في 18 سبتمبر/أيلول 1952 بعد اشتعال "الثورة البيضاء" ضد التمديد له.
- شمعون.. رئيس الثورة البيضاء (1952-1958)
عقب الاستقالة، انحصر السباق الرئاسي في لبنان بين كميل شمعون (1987- 1900) وحميد فرنجية، ثم رجحت الكفة للأول، فانسحب الثاني من السباق.
وبعد 5 أيام من استقالة الخوري، اجتمع البرلمان في 23 سبتمبر/أيلول 1952 وانتخب كميل شمعون بغالبية 74 صوتا من أصل 77 نائبا.
وتمكن شمعون من جذب اهتمام أميركي واسع إلى لبنان، ثم أعلن تقربه من "حلف بغداد" الذي كان يضم بريطانيا والعراق وباكستان وإيران، من دون أن يعلن انضمام لبنان رسميا لعضوية الحلف.
ومنتصف عام 1958، اشتدت حركة المعارضة ضد حكم شمعون بعد الانفصال السياسي بينه وبين زعيم الحزب الاشتراكي كمال جنبلاط.
وظهر انقسام سياسي حاد في لبنان بين معسكر مؤيد للرئيس المصري جمال عبد الناصر -الذي يُعارضه شمعون- وآخر مناهض لسياسة ناصر. وشهدت تلك الفترة أيضا اضطرابات سياسية حادة ذات امتدادات إقليمية.
ويُحكى عن اتهام شمعون لعبد الناصر وسوريا بتسليح المعارضة في لبنان. حينها، أرسلت الأمم المتحدة فرقًا إلى الحدود اللبنانية السورية للتحقق من مزاعم تسليح خارجي للمعارضة، وخلص تقريرها إلى عدم وجود دليل على ذلك.
إعلانوعقب الإطاحة العسكرية بحكم المالكي في العراق في 15 يوليو/تموز 1958، وصلت قوات المارينز الأميركية إلى بيروت عبر مرفئها في عملية سميت "الخفاش الأزرق" (Blue Bat) وتجاوز عدد الجنود 14 ألفًا، وكانت ذريعة واشنطن حينها هي الحد من الاقتتال في لبنان.
وكان 1958 أشبه بعام الحرب الأهلية المصغرة، واعتبر شمعون أن الاقتتال كان انقلابًا على عهده، وسط اقتتال دام حوالي 3 أشهر بين أطراف المعارضة وداعمي الحكومة.
وواجه شمعون اتهامات بسعيه إلى التمديد لنفسه ولاية ثانية، لكن مع نهاية ولايته في 23 سبتمبر/أيلول 1958 تم تسليم الحكم للرئيس فؤاد شهاب، في مشهد تذكاري لانتظام تداول السلطة.
- العهد الشهابي (1958- 1964)
كان اللواء فؤاد شهاب (1902-1973) أول قائد جيش يُنتخب رئيسًا للجمهورية بعد الاستقلال، وكان أيضًا وزيرًا للدفاع قبل أن يعود قائدًا للجيش في عهد شمعون.
وفي 31 يوليو/تموز 1958، اجتمع البرلمان اللبناني وانتخب شهاب بأكثرية 48 صوتًا من أصل 58. وأسند تشكيل الحكومة للرئيس السابق رشيد كرامي.
ويقول مؤرخون إن انتخاب شهاب جاء نتيجة تسوية شاملة داخليا وإقليميا، إذ خرج اللبنانيون على إثرها من أحداث عام 1958. واشتهرت ولايته بلقب "العهد الشهابي" وبرز فترة حكمه شعار "لا غالب ولا مغلوب".
وعمل شهاب على وضع أسس لبناء الدولة، لكن من أهم مهماته الرئاسية كانت إيقاف العنف ونزع فتيل الفتنة بين الأطراف اللبنانية، بالإضافة إلى انسحاب القوات الأجنبية من لبنان.
ومن الخطوات التي أقدم عليها شهاب سنّ قانون انتخابات برلمانية جديد يقوم على الدائرة الصغرى، وعُرف لاحقًا بـ"قانون الستين" لأنه أُقر عام 1960، وجرت على أساسه أول انتخابات برلمانية في عهده، كما رفع عدد النواب إلى 99 نائبًا، وبقي القانون ساري المفعول حتى عام 1992.
إعلانوفي أغسطس/آب 1964، أعلن شهاب عزوفه عن تجديد ولايته استجابة للمعارضين له.
- الحلو.. امتداد العهد الشهابي (1964-1970)
كان شهاب اختار شارل الحلو (1913-2001) خليفة له للترشح للرئاسة، وكان الحلو وزيرا للتربية الوطنية والفنون الجميلة عام 1964.
وعقب انتهاء ولاية شهاب، اجتمع البرلمان اللبناني وانتخب الحلو رئيسًا رابعًا للجمهورية، وحظي بإجماع استثنائي في البرلمان، حيث نال أصوات 92 نائبا من أصل 99.
وشكل عهده امتدادا للعهد الشهابي، رغم أن الحلو لم يكن من المدرسة العسكرية التي ينتمي إليها شهاب.
وواجه الحلو، الذي عُرف بعلاقته مع عبد الناصر، أزمات داخلية وعواصف إقليمية، وسجل عهده إفلاس "بنك إنترا" عام 1966 والذي اعتُبر أخطر أزمة مالية عرفها لبنان بعد الاستقلال. كما واجه صدامات مسلحة بين المليشيات اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ومع هزيمة حرب 1967، التي أدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء المصرية والجولان السورية، وتالياً تهاوي نظام عبد الناصر، وصلت رياح التداعيات إلى لبنان، لا سيما بعد موجة تسليح المخيمات الفلسطينية.
هنا، بدأ الإجماع السياسي حول الحلو يتراجع، مع تشكيل زعماء موارنة لـ"الحلف الثلاثي" الذي ضم كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، وكان هؤلاء يتهمون العهد الشهابي بالتبعية لعبد الناصر، وتمكنوا في انتخابات 1968 من انتزاع معظم مقاعد جبل لبنان وبيروت.
وعام 1969 وقّع لبنان "اتفاق القاهرة" مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومنح بموجبه المقاتلين الفلسطينيين حرية التحرك، وحوّل الجنوب اللبناني إلى ساحة للعمل الفدائي المسلح ضد إسرائيل.
وفي العام التالي وهو الأخير من عهده، عاش لبنان انقسامًا سياسيًا حادًا بين المؤيدين والمعارضين للعهد الشهابي، وكان يرزح تحت ضغط مصر، بالإضافة إلى تدخل سوري يدعم الفصائل الفلسطينية ويسهل إرسال السلاح لهم عبر الحدود.
- فرنجية.. اشتعال الجمهورية (1970-1976)
مع انتهاء ولاية الحلو، اجتمع البرلمان اللبناني في 17 أغسطس/آب 1970، واكتمل النصاب بـ99 نائبًا.
وفي الدورة الثانية من جلسة الانتخاب البرلمانية، فاز سليمان فرنجية (1910- 1992) بـ50 صوتًا بفارق صوت واحد فقط عن منافسه إلياس سركيس الذي اعتُبر حينها مرشح "النهج الشهابي".
وصار فرنجية رئيسا للجمهورية، ولكن ملامح الانقسام العميق في لبنان بدأت تتجلى في عهده، وهو ما أشعل حربا أهلية.
وقبل تسلم فرنجية للرئاسة في سبتمبر/أيلول، لبّى الرئيس شارل الحلو دعوة عبد الناصر لحضور قمة عربية عاجلة في القاهرة. وبعد القمة، عاد الحلو وسلم فرنجية مقاليد الرئاسة.
وعرف عهد فرنجية حروبًا وتحولات كبرى في الداخل والإقليم، توارثتها مختلف عهود الرئاسة، مع طي صفحة العهد الشهابي.
وبعد عام من توليه الرئاسة، انتُخب حافظ الأسد رئيسًا للجمهورية السورية، وتحول لبنان إلى مقر لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات.
كما شهد عهد فرنجية آخر انتخابات برلمانية ما قبل اتفاق الطائف، إذ جرت الانتخابات عام 1972، واستمر المجلس -الذي تنتهي عادة ولايته كل 4 سنوات- حتى عام 1992، وانتُخب خلالها 5 رؤساء للجمهورية.
وعام 1972، بدأ الموساد في تنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات لبنانية وفلسطينية، وكان أول ضحايا هذه العمليات الروائي والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني الذي اغتالته إسرائيل في يوليو/تموز 1972 باستخدام عبوة ناسفة في سيارته في بيروت.
وفي أبريل/نيسان 1973، نفذ الموساد عملية اغتيال في شارع فردان في بيروت، استهدفت 3 مسؤولين فلسطينيين: كمال عدوان، كمال ناصر، وأبو يوسف النجار.
كما تأثر لبنان في عهد فرنجية بتداعيات حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 بين مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، رغم أن لبنان لم يشارك في الحرب.
إعلانوفي 13 أبريل/نيسان 1975، اشتعل فتيل الحرب الأهلية، عندما وقعت حادثة عين الرمانة أو ما يعرف بحادثة البوسطة. ويومها، تعرّض رئيس حزب الكتائب بيار الجميل وأنصاره إلى إطلاق نار عند خروجهم من كنيسة في عين الرمانة في ضواحي بيروت، أودى بحياة اثنين من مرافقيه، ووجهوا أصابع الاتهام حينها إلى الفلسطينيين بالوقوف وراء محاولة اغتيال الجميل.
وبعد ساعات، قتل نحو 30 فلسطينيا من مخيم تل الزعتر، كانوا يستقلون حافلة في عين الرمانة على يد عناصر من قوات حزب الكتائب، فانفجرت الشرارة الأولى للحرب الأهلية اللبنانية.
وآخر عام من عهده (1976) التقى فرنجية حافظ الأسد، وكان عنوان اللقاء إجراء تعديلات دستورية لوقف الحرب، لكنه فشل في ذلك.
وتوج فرنجية نهاية عهده بدخول الجيش السوري إلى لبنان في أبريل/نيسان 1976، بحجة "حماية المسيحيين" بغطاء أميركي سوري، عرف بتفاهم كيسنجر الأسد (نسبة إلى وزير الخارجية الأميركي الراحل هنري كيسنجر).
واستمر فرنجية في الحكم حتى اليوم الأخير من ولايته يوم 23 سبتمبر/أيلول 1976.
- سركيس.. عهد الاجتياح الإسرائيلي (1976-1982)
في 23 سبتمبر/أيلول 1976، انتخب البرلمان اللبناني إلياس سركيس حاصدًا 66 صوتًا من أصل 99، وتسلّم مقاليد السلطة من فرنجية.
وكان سركيس هذه المرة مرشحًا للجبهة اللبنانية، وأطلق عهده بزخم ودعم عربي ودولي كبيرين، وكان من مهامه إخراج لبنان من حالة الحرب والاقتتال الداخلي.
ولكن فترة حكمه شهدت انفجار الحروب بين الأطراف المسيحية، ومواجهات مسلحة بين المليشيات والجيش السوري، إلى جانب فوضى المليشيات وحروبها في مختلف المناطق.
كما شهد أيضًا عهده على الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان في مارس/آذار 1978، عندما غزت القوات الإسرائيلية مساحات من جنوب لبنان حتى نهر الليطاني بحجة إزالة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية.
ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، الذي أسفر عن احتلال بيروت، لتكون بذلك أول عاصمة عربية تُحتل من قبل إسرائيل.
إعلانوحينها أيضا انتهى عهد سركيس بعد أن قضى ولايته كاملة في الرئاسة (6 سنوات) وليخلفه بشير الجميل.
- بشير الجميل.. رئيس لم يتسلم الحكم (1982)
داخل ثكنة الجيش في جبل لبنان، انتُخب زعيم حزب الكتائب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية في 23 أغسطس/آب 1982.
وكان الجميل، الذي يقود مليشيا الكتائب، معر