خبر ⁄سياسي

الفاشر بعين أخرى: مشاهد عن الحياة والموت في المدينة

الفاشر بعين أخرى: مشاهد عن الحياة والموت في المدينة

منتدى الإعلام السوداني: غرفة التحرير المشتركة

إعداد وتحرير: راديو  دبنقا

الفاشر، 9 يناير 2025 –  لم أتعرف إلى صورته.. كان عائما في بنطاله الذي شده بحبل في وسطه حتى لا يسقط، لقد كان قميصه مثل جلباب شد على سلك بين “عودين” لينشف.. كان خفيفا في خطوه … قال وهو يمد يده نحوي من بعيد ملوحا بالسلام وصدى التدوين المدفعي يدوي باتجاه سوق “ام دفسو” وجنوب الفاشر. فيما تظهر في المقابل أعمدة الدخان تتصاعد لعنان السماء باتجاه معسكر أبو شوك للنازحين الذي شهد تدميراً واسعاً، ووقوع قتلى وجرحى بالعشرات نتيجة التدوين المدفعي لأشهر من الدعم السريع، وأخيراً بالقصف الجوي من قبل سلاح الطيران التابع للجيش السوداني.

 رفعت يدي اليمني ملوحا له بالسلام .. قال وهو يتجه نحوي: أظنك لم تعرفني يا أحمد أنا إبراهيم حامد.

صعقت من هول ما رأيت. لقد كانت آخر مرة رأيته فيها قبل (7) أشهر بالقرب من السوق الكبير بالفاشر في وسط المدينة، عند موقف المواصلات، حيث كان يعمل وقتها (كمساري) ينادي في الموقف للركاب لشحن الحافلات، وهو الموظف الكبير والحاصل على درجة الدكتوراه، ورئيس قسم بإحدى الوزارات الخدمية المتوقفة في المدينة كغيرها من مؤسسات الدولة بسبب الحرب، ويتقاضى في نهاية اليوم من سائق الحافلة التي يعمل بها مبلغ 500 جنيه في اليوم لـ(8) اشهر.

تعيش مدينة الفاشر تحت القصف اليومي

مشاهد مروعة

وشهد السوق الكبير بمدينة الفاشر الذي خرج من الخدمة ومعه الجزارة وسوق الخضار وسوق “أم دفسو” منذ أشهر قصفاً مدفعياً وبالمسيرات من  قوات الدعم السريع، أدى لوقوع قتلى وجرحى. لا توجد إحصاءات دقيقة بأعدادهم. تقول مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في هذا الشأن إنها وثقت مقتل 782 مدنيا وإصابة أكثر من 1143 منذ مايو حتى 20 ديسمبر 2024، مشيرة إلى أدلة تستند جزئيا إلى مقابلات مع الفارين من المنطقة.

ونجا الدكتور إبراهيم ومعه أحمد محمود وهو طبيب بيطري يعمل الآن حمالا في الأسواق المتنقلة بالمدينة من سقوط (دانه) عندما كانا في ذات موقف المواصلات قبل أشهر، أدت حينها لمقتل اثنين وجرح (5) وتدمير سيارة، وتسببت في وقوع ضرر كبير في حافلة ركاب كانت متوقفة على الجوار.

هياكل عظمية تمشي بالشوارع

“دعنا نبعد من هذا المكان يا دكتور قبل أن تأتنا دانة أخرى لن نخرج منها احياءً هذه المرة”  قالها أحمد، وأضاف “لكن قل  لي يا دكتور ما الذي حدث لك”. لا شيء قالها الدكتور إبراهيم وهو يضحك.. وزني كان 103 كيلوجرامات.. أصبح وزني الآن كما ترى 61 كيلوجراما.. صرت خفيفا ولم أشعر بالتعب وبالمرض، وأنا كذلك قالها أحمد “وزني صار مثلك بينما زوجتي صارت مثل (السلك) ونزل وزنها الى 59.. انها نعم الحرب.. وضحكنا وبكينا معا”.

وجبة واحدة ومطابخ جماعية

أدى الحصار الشديد والمضروب من قبل الدعم السريع على مدينة الفاشر، منذ مايو الماضي، لشح الإمدادات الغذائية، وخروج الأسواق الرئيسية عن العمل، وغلاء الأسعار، والشح الشديد في السيولة النقدية والمياه والأدوية، والتفشي واسع النطاق لأمراض سوء التغذية وفقر الدم بين جميع الفئات العمرية وفقاً لإفادات أطباء وعاملين في الحقل الصحي.

وأفاد مختصون في مجال التغذية والرعاية الصحية راديو دبنقا من الفاشر عبر شبكة “استارلينك”، الشبكة الوحيدة للتواصل حالياً مع سكان المدينة وكل ولايات دارفور، أن العديد من الأسر في الفاشر تتناول وجبة واحدة فقط في اليوم، فيما يعتمد الكثيرون على التكايا والمطابخ الجماعية والصدقات المقدمة محليًا.

 وتنتشر التكايا والمطابخ الجماعية، التي أنشئت بدعم وتمويل من الخيرين وأبناء تلك الأحياء في المهجر، في عدد من أحياء المدينة، ويهاجر اليها المئات للحصول على بعض الطعام بعد انتظار طويل وصفوفا اكثر طولا.

يكافح سكان الفاشر الجوع عبر المطابخ الجماعية

المجاعة  وأزمة (الكاش)

توقع التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في تقرير الصادر في 24 ديسمبر الماضي حدوث مجاعة في الفاشر ومناطق أخرى حتى مايو المقبل . وزاد من حجم الكارثة الشح الحاد في السيولة النقدية (الكاش) ما اجبر المواطن اللجوء مكرها لحيل اخري  للحصول على الطعام من بينها (الكسر) والمقايضة والمبادلة والعمولة بنسبة مئوية عبر  تطبيق بنكك مقابل  الحصول على (الكاش).

وفاقم من معاناة السكان بالمدينة توقف سوق زمزم، أهم سوق للحبوب في الفاشر والمناطق المحيطة بها عن العمل منذ بدء قصف المعسكر، بدايات ديسمبر الماضي. كما أدى توقف تدفق الحبوب من جبل مرة ودار السلام وطويلة وغيرها من المصادر إلى زمزم وإلى الفاشر إلى تفاقم مشكلة توريد السلع إلى المدينة حسبما افاد تجار راديو دبنقا .

وتعاني مدينة الفاشر  أيضا من  زيادة في الأسر التي تعولها النساء، بسبب مقتل الرجال، أو انضمامهم إلى القوات المقاتلة لجماعة أو أخرى، أو مغادرتهم البلاد. بينما تعيش مجموعات أخرى من النساء والأطفال النازحين في المباني العامة في الفاشر مثل المدارس والمساجد في وضع إنساني صعب للغاية .

(16) شهرا بلا مرتبات

مع انهيار سوق العمل اليومي في الفاشر، أصبحت فرص كسب الدخل للفقراء والموظفين والمعلمين، الذين توقفت مرتباتهم منذ أغسطس من العام الماضي، محدودة بشدة، إن لم تكن معدومة. ويقول الدكتور ابراهيم الموظف بالخدمة المدنية لراديو دبنقا “آخر عهد لنا  بالمرتبات  كان قبل 16 شهرا، أي منذ شهر اغسطس 2023، وحتى اللحظة  لم نستلم شيئاً. ما استلمناه هو الراتب الأساسي أي ثلث المرتب  فقط لأشهر: أبريل ومايو ويونيو ويوليو وأغسطس، وهذا ينطبق على كل العاملين والموظفين بولايات دارفور الخمس”.

في طريق العودة لأولاد الريف

على الطريق المؤدي الى “أولاد الريف” أحد الأحياء العريقة بمدينة الفاشر حيث يقيم الدكتور إبراهيم، كان صدى القصف المدفعي للدعم السريع يدوي باتجاه مناطق جنوب الفاشر، وقذائف أخرى تتجه نحو معسكر أبوشوك للنازحين، وصوت طائرة حربية في المقابل تعبر فوق سماء المدينة مع سماع صوت دوي انفجار قوي ودحان يتصاعد شرق الفاشر.. كان المارة في الشوارع يمضون ويتبادلون التحايا والتعليقات ويقضون مهامهم كأن شيئا لم يحدث.. كانت آثار التدوين المدفعي تبدو واضحة على جدران وغرف   المنازل خاصة في الأحياء الشرقية والغربية  لأولاد الريف وحي مكركا أحد أحياء  المتأثرة بالقصف في المدينة”.

دانات الهاوزر و”بنكك”

هذا صوت مدفع بنكك (40) دليل.. وذاك صوت مدفع هاوزر H4 قالها الدكتور إبراهيم وهو يتبادل التعليقات مع رفيقه الطبيب البيطري أحمد حول أصوات دوي المدافع التي تتساقط داناتها على المنازل والأعيان المدنية يوميا لأشهر، وهما يعبران معا الشارع المتجه الى منزله بحي اولاد الريف.

“نعم صحيح لقد صرنا خبراء في اصوات الاسلحة واتجاهاتها” قالها الطبيب أحمد وهما يقتربان من منزل الدكتور إبراهيم الذي يقيم فيه مع زوجته واطفاله الخمس وأثنين من اشقائه.

وأكد التقرير الصادر من مختبر العلوم الإنسانية، عبر تحليل بيانات الاستشعار عن بعد والمصادر المفتوحة، إنه تمكن من تحديد موقع أربع قطع مدفعية ثقيلة تتوافق مع مدفع هاوتزر AH4 عيار 155 ملم وذلك عبر صور الأقمار الاصطناعية.

وتقع كل من الفاشر وزمزم ضمن مدى 40 كم من الأسلحة المتوافقة مع سلاح “AH4s”. وتشير تقديرات المختبر أن هذه القطع المدفعية من المحتمل أن تكون مشاركة في القصف المستمر على زمزم، والتي أفادت التقارير أنها أدت إلى مقتل 73 شخصًا وإصابة 376 آخرين حتى 13 ديسمبر 2024.

جرحى أمام باب المنزل

على باب منزل الدكتور إبراهيم  الذي كانت تبدو على جدرانه كسور وحفر ونقوش، قال إبراهيم وهو يشير بيده إليها: في هذا المكان اصيب شقيقاي عمر وعصام (برائش دانه) سقطت بالقرب من المنزل قبل 11 يوما، عانينا كثيرا في علاجهما لا أدوية لا مستشفيات، الحوادث اشبه بالزنزانة القذرة المكتظة بالبشر، عليك ان تتدبر حالك بحثا عن المحاليل الوريدية والأدوية.. الحرب دمرت كل شيء. 

الموقف الدوائي

وبحسب صيادلة في الفاشر تحدثوا لراديو دبنقا، فإن إمدادات الأدوية لم تعد متوفرة بالمرافق الصحية في أبو شوك والفاشر، ولم تعد متوفرة كذلك لدى المنظمات غير الحكومية الدولية.

ويقول الأطباء إن ما يتوفر في صيدليات المدينة باهظ الثمن، وبعيد عن متناول أغلب المرضى، وأكد أحد الأطباء  أن هذا الأمر أصبح يعيق علاج المصابين وذوي الإعاقة بسبب القصف والآخذة أعدادهم في التزايد يوما بعد يوم.

ولا يوجد بمدينة الفاشر اليوم سوى مستشفى واحد يواصل العمل، وهو مستشفى النساء والتوليد “السعودي”، الذي تحول بعد توقف بقية المستشفيات إلى مستشفى عام.

وقال طبيب رفض الكشف عن اسمه لراديو دبنقا ” إن “المستشفى يعمل اليوم بنحو 50% فقط من طاقته، ويتعرض للقصف بشكل متكرر، ولا يعتبر مكاناً آمناً لطلب العلاج.” وأضاف “أقوم يوميا بمعاينة نحو 100 مريض، ونعاني في ذات الوقت من نقص شديد في العاملين في المجال الصحي”.

قصف المستشفى الوحيد بالدانات

وشهدت نهايات العام الماضي قصف قوات الدعم السريع المستشفى السعودي بثلاث دانات، حيث سقطت الدانة الأولى أمام المستشفى بعشرة أمتار. وأدت لإصابة 16شخصًا إصابات خطيرة ومقتل اثنين من الكوادر العاملة بالمستشفى السعودي. بينما سقطت الدانة الثانية داخل المستشفى السعودي للمرة الثالثة في عنابر النساء التوليد ومكاتب الكوادر الطبية العاملة والمواقع الحيوية بالمستشفى.

وتسبب تجدد قصف المستشفى السعودي الأسبوع الماضي إلى مقتل شخص وإصابة اثنين من العاملين بالمستشفى.

 ولجأ المواطنون إلى حفر خنادق داخل المستشفى وتحويلها إلى مرافق طبية مؤقتة لعلاج المرضى، وقاموا بتحصينها بالحاويات وأكياس الرمل لتحويلها إلى ملاذ آمن للمرضى والجرحى.

يتعرض المستشفى السعودي بالفاشر لقصف مستمر من قوات الدعم السريع

العيش في خندق تحت الأرض

على منتصف ساحة منزل الدكتور إبراهيم بحي أولاد الريف بالفاشر يظهر مدخل مفتوح على الأرض أشبه بالباب المفتوح. جاء أطفاله وشقيقاه وزوجته وهم يهرولون نحو المدخل المفتوح على الأرض بعد صوت انفجار قوي دوى في الشارع على مسافة قريبة من المنزل.

(أبو كباس) ( ابوكباس). إنها دانه مدفع عيار 120 قالها إبراهيم.. هيا بسرعة الى الخندق (الملجأ) الذي بناه ويسع لعشرة أشخاص للحماية من (روائش) الدانات التي يسقطها الدعم السريع عشوائيا على المنازل وفي لمح البصر (انحشر ) الجميع  في الخندق المحفور  تحت الأرض.

أصبح الملاجئ الأرضية (الخنادق) الحد الفاصل بين الموت والحياة في الفاشر

قبري هو خندقي

 وبحسب الدكتور  إبراهيم يسمي المدفع عيار 120 وعيار 80 محليا بـ”ابو كباس” لأنه يهبط فجأة على ضحاياه دون أن يعطيك أي مهلة للهروب بصوت أو صفير، بخلاف المدافع الأخرى مثلا المدفع المعروف محليا ببنكك (40) دليل والهاوزر الذي يصاحب مرور قذائفه صوت صفير.

إلى متى نظل على هذه الحال؟ قالها أحمد وهو يوجه كلامه لإبراهيم وهما مختبئين داخل الخندق.. أما آن الأوان لتخرج انت وابنائك من هذه المدينة؟. 

“اتفق معك زوجتي واطفالي يمكن أن يخرجوا” قالها إبراهيم، وأضاف “لكنني لا أستطيع الخروج.. لا أملك شيئاً كما تعلم وليس لي مكان آخر آمن يمكنني الذهاب إليه.. هذه مدينتي ولدت وسأموت فيها.. خندقي هذا هو قبري.. أحيا فيه وأموت”.

فرار مستمر لكن إلى أين؟

بحسب الإحصاءات غير الرسمية يعيش بمدينة الفاشر أكثر من مليون شخص، أجبرت الهجمات التي يشنها الدعم السريع على المدينة، والمصحوبة بالتدوين المدفعي والمسيرات على الأحياء السكنية والأعيان المدنية، نصف سكانها على النزوح للقرى حول الفاشر والمحليات المجاورة والولايات الأخرى.  وكشفت مصفوفة تتبع النزوح عن نزوح نحو 256 أسرة من الفاشر في الفترة بين الأربعاء إلى الجمعة. وأوضحت المصفوفة أن النزوح جاء على خلفية تصاعد المعارك على الأحياء الشرقية والجنوبية في الفاشر، بما في ذلك معسكر أبو شوك وزمزم للنازحين.

 وتسبب قصف قوات الدعم السريع لمعسكر  زمزم بالمدفعية منذ الأسبوع الأول من شهر ديسمبر في فرار العديد من المعسكر ، إلى الفاشر أو إلى ريف المدينة، بينما فر البعض الآخر  إلى طويلة وشنقل طوباي ودار السلام. وبحسب متطوعون في العمل المدني فقد عاد بعض الذين فروا في الأصل من الفاشر  إلى زمزم  الى مدينة الفاشر مرة أخرى، فيما انتقل البعض الآخر إلى معسكر  “أبو شوك”، لكنه المعسكر هو الآخر  يتعرض حاليا للقصف. 

ينشر هذا التقرير بالتزامن في منصات المؤسسات والمنظمات الإعلامية والصحفية الأعضاء بمنتدى الإعلام السوداني

#SilenceKills #الصمت_يقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضع_في_السودان_لا_يحتمل_التأجيل #StandWithSudan #ساندوا_السودان #SudanMediaForum

sudantribune.net