بيروت تغلي في ثلاثاء الغيوم السوداء... والجيش يخشى العصبيات المذهبية
تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الحلقة الثانية من مقتطفات كتاب «البرزخ - أيامٌ لوطنٍ لم يأتِ بعد» الذي يكشف فيها رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، على لسان النائب علي حسن خليل، عن جانب من أبرز التطورات التي شهدها لبنان بين عامي 2006 و2008.... تتضمن هذه الحلقة تفاصيل الأحداث التي شهدتها بيروت عام 2007 خلال اعتصام المعارضة ضد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة:
عدتُ إلى مكتب المسؤول في «حزب الله»، الحاج حسين (الخليل) عند العاشرة والنصف، وتحدّثتُ مجدداً مع السيد حسن (نصر الله) الذي وافق على الفور على كلام الرئيس (بري)، وطلب ترتيب موعد لليوم التالي للوفد مع (الجنرال ميشال) عون، وكلّف الحاج وفيق صفا إبلاغ جبران باسيل بالاقتراح.
(...) عند الثانية والنصف عُقد اجتماع في منزل الجنرال عون في الرابية، بحضوره والوزير سليمان فرنجية وجبران باسيل والحاج حسين الخليل ووفيق صفا وأحمد بعلبكي وأنا.
بدأ الجنرال كلامه بالتعبير عن ملله وبروده من التحركات القائمة، والسؤال عمّا سيتبع.
ومن جانبي، بدأتُ بمقدّمة أنّه من الواضح أن لا أفق لتسوية سياسية للأزمة، والنقاش الداخلي لا يوحي بأنّ الفريق الآخر ينوي التراجع، وخارجياً هناك ربط للأمور ببعضها ما يعقّد الوصول إلى هذه التسوية، وها نحن هنا لنناقش بمسؤولية ما هي الخطوات، والرئيس بري حريص على أن ندرس بهدوء كل الخيارات وهو منفتح على الآخر ومستعد لما يُتّفق عليه.
بدوره، تحدث الحاج حسين الخليل عن النقاشات التي جرت في الجلسات السابقة حول حدود التصعيد وتوقيته والحدّ الأقصى للتحرّك.
قاطعه عون ليسأل عن إمكانية الاستغناء عن الثلث الضامن والمطالبة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، كاشفاً عن أنه أبلغ السفير الفرنسي بذلك. وبدوري قلت إننا أبلغنا السفير السعودي بطرح عون هذا.
تحدث الحاج حسين عن أن الموقف تطور، وأن الأمر طُرح على لاريجاني في السعودية، وقد فوجئ به، بعدما كان مهتماً ببحث الملف العراقي، لكن بندر بن سلطان أحرجه فكان جوابه أنّ الأمور يجب أن تحصل بالتوافق. وأضاف الخليل أننا أفسحنا مجالاً للمبادرات السياسية ولم يتجاوب الفريق الآخر، وهم الآن مُربكون واستدرجوا المبادرات التي للأسف لم تصل إلى شيء، وأن عمرو موسى كان طرفاً معهم، ولم يكن محايداً لنناقشه.
وأضاف أنه لا بدّ من الانتقال إلى الخطوة التالية، وبدء حركة تصعيدية جديدة، مع الانتباه إلى أننا يمكن أن نصعّد ويبقى السنيورة على موقفه. وهنا عدّ عون أننا يمكن أن نفاجأ لأنّهم ( 14 آذار) غير هادئين أيضاً ومستعدون للتصعيد.
وتابع الحاج حسين فكرته، وهي وفق التفصيل الآتي:
1- النزول إلى الشارع وشلّ البلد وقطع الطرقات.
2- يترافق قطع الطرقات وتعطيل المرافق مع الدعوة إلى إضرابٍ ليومٍ واحد.
تدخّل فرنجية ليقول إننا فريق واحد، وعندما نكون محرجين يجب أن نقول لبعضنا، «لكن أنتم لا تتحدّثون معنا بصراحة، لذا إذا كان التحرّك غير مناسب ومضمون فقولوا لنا بصراحة». وبعد ذلك، قدم اقتراحاً بإرسال مفاوض للفريق المسيحي لأنّ هذا يخدم الموقف، مضيفاً: «إلاّ إذا كنتم تريدون تمرير وقت في انتظار شيء ما يحصل في الخارج».
ومع هذا الموقف، تدخّلتُ لأقول إننا لا نقبل إلا أن نكون معاً في كل خطوة، وأن لا شيء عندنا لنخفيه، فكلنا في مركب واحد. ووافق الحاج حسين على هذا الموقف بقوله إن التحرك من دون الجميع لا يمشي.
تحدث يوسف فنيانوس بأن سليمان بك يقول دائماً للسيد حسن إنه يتفهم إذا كان محرجاً ويبحث عن مخرج، داعياً إلى التعبير بصراحة عمّا إذا كان هناك قلق من مشكلة سنية - شيعية يؤخر الحزب عن التحرك.
وإلى كلام فنيانوس، أضاف فرنجية قلقه من إمكانية التراجع بعد يومين أمام ضغط الجيش أو غيره...
عدت بدوري إلى الحديث عن أن عملنا في السياسة له أهداف، وأن المفاوضات أمر طبيعي ويجب أن تحصل في كل وقت، وأن الرئيس بري من موقعه وبأسلوبه لا يقطعها، لكن أي التزام يجب أن نتّفق عليه بوصفنا أطرافاً أربعة.
عندها سأل باسيل عما قدمه الفريق الآخر في السياسة حول تشكيل الحكومة، ثم شرح الحاج حسين ما فهمناه من لقاء لاريجاني والسعوديين. فاستنتج باسيل أن ذلك يعني تجاوز موضوع رئاسة الجمهورية. فلم يعلّق أحد على الأمر.
انتقل النقاش إلى الحديث حول طريقة التحرك، بعدما رأى فرنجية أننا نبدو متفّقين على التحرك، ويمكننا عدّ القرار متّخذاً، وسؤاله عن طريقة الإعلان عن ذلك، وتأكيده وجوب الاتفاق على صيغة نستطيع من خلالها تحريك المواكب وتأمين الحشد في المناطق (مثل مهرجان خطابي في البترون وقطع الطريق).
وأضاف باسيل ملاحظة أننا يجب ألاّ نظهر كأننا ضد «باريس 3». فأكد له الخليل ذلك، مذكراً بالموقف الذي صدر عن الحزب بتأييد المؤتمر، مع إبقائه الملاحظات على الورقة الإصلاحية.
عدّ باسيل أن هناك إيجابية واحدة للتحرّك قبل «باريس 3»، وهي عدم قدرة الفريق الآخر على مواجهتنا.
انتقل الحاج وفيق صفا فوراً إلى الحديث عن المناطق التي سنغلقها مُعدِّداً بعضها، وأضاف أننا يجب أن نبلغ الجيش بالأمر قبل القيام بأي تحرّك.
إذّاك عدّ الجنرال عون أن هناك مخاطر من إبلاغ الأجهزة، حيث يمكن أن تبادر قوى الأمن إلى استخدام عناصر مدنية، مفضلاً ترك توقيت إبلاغ الجيش إلى آخر لحظة يوم الاعتصام. عندها لفت بعلبكي إلى أنه لا يصحّ أن نضع الجيش في مواجهتنا، بل يجب أن نُعلمه حتى لا يتحوّل إلى عنصر يُفشل كل التحرك، ولا نستطيع عندها أن نكون في مواجهة الطرفين.
لكن عون عاد وأوضح أن الخوف ليس من الجيش، بل من وصول المعلومة إلى الطرف الآخر، ومعه أكد باسيل أنه يجب السيطرة على الوزارات. فعلّق صفا بأننا يجب أن نحمي الوزارات.
ومع هذا الاتجاه في النقاش، سأل فنيانوس عمّا يمكن فعله إذا تحوّل الأمر إلى مواجهة بين طوائف، أو إذا أُطلق النار من قبل الجيش. فأجاب الحاج حسين بأنهم عند ذلك يكونون قد أخذوا البلد إلى الانفجار.
وبدورنا، أكدنا أنا وبعلبكي أنه يجب علينا ألاّ نفكر تحت أي ظرفٍ في استخدام السلاح. وأيد عون هذا الرأي، مضيفاً أنه إذا تم إطلاق النار علينا، فسنصبح ضحية، وسيؤدي ذلك إلى حالةٍ ثأرية وشعبية.
وفي النهاية جرى الاتفاق على توجيه دعوة من المعارضة إلى الإضراب العام وترك الحرية للأطراف لتحديد صيغة تحريك جماعاتها، وإضافة تحويل الاعتصام إلى نقاط قطع للطرقات وفق اقتراح الحاج حسين الخليل، على أن يُصدر أقطاب المعارضة نداءات تأييد للتحرّك الذي تحدّد يوم الثلاثاء في 23/ 1/ 2007.
عدنا إلى عين التينة، ولم يكن للرئيس بري تعليق يذكر على ما جرى، لكنه كان يفضل أن تكون الدعوة من الاتحاد العمالي العام، ثم تؤيدها المعارضة، لكنه مع ذلك أبدى التزامنا بما تم الحديث حوله في الاجتماع، وأوصى بالانتباه جيداً إلى تحركات الشباب على الأرض في المناطق، والتشديد على عدم استخدام السلاح الذي بقي هاجسه الكبير، خصوصاً أنّنا دخلنا في أجواء الإعداد لذكرى عاشوراء التي كانت ستبدأ بعد يومين، مع ما يرافقها عادةً من تعبئة وشحن شعبيين. (...)
ثلاثاء الغيوم السوداء
غفت أعيننا وخطّة سير التحرّك تُحضّر استعداداً وتوجّساً ممّا يمكن أن يحصل في اليوم التالي. كنّا متهيّبين الحدث ومترقّبين مفاعيله.
ثم جاء الثلاثاء في 23/ 1/ 2007، ولم يكن كغيره في أيام المعارضة من حيث مساحة التحرّك والانتشار والأسلوب في قطع الطرقات، كما كان مخطّطاً وفق الاتفاق بين الجهات التنفيذية.
يومٌ ظللته سحب الدخان الأسود التي غطت معظم المناطق، فيما الحرائق تلهب كل الطرقات الرئيسة. وها هو الجيش يتحرك بصورة محدودة، ويتنقل بحذر، ثم يضطر مع بداية إطلاق النار إلى التدخّل.
ما خُطّط له من إقفال العاصمة والمناطق وتعطيل المرافق العامة جرى تنفيذه، ومعه تجلّـت انقسامات الشارع المسيحي أكثر من غيرها. حيث استعاد الناس أصوات ثنائية حرب عون وجعجع وهم يشاهدون التجمّعات في بعض المناطق، ما يُذكّر بتلك الحقبة مع أجيال جديدة من الشبان المندفعين.
وباكراً تابع الرئيس من مكتبه التحرّكات، وكان على الخط الساخن لاستقصاء الوضع الميداني. وهو كعادته يناقش كثيراً في أصل أي قرار وظروفه والاحتمالات، لكنّه في لحظة التنفيذ يكون مشدوداً للوصول إلى النتائج وبأقل الخسائر الممكنة، وهكذا لم تغب تعبيرات الحرص على عدم سقوط ضحايا وتجنّب الاحتكاك بين الناس والجيش وانتقاء أهداف الضغط التي لا تؤدّي إلى صدام. كانت تزعجه كثيراً التفاصيل التي تُشعره بأنّه أقدم على عمل عدّه آخر العلاج، ولم يكن مشدوداً إليه لولا تعنّت الطرف الآخر.
وبعد اتصالٍ ثانٍ من قائد الجيش العماد ميشال سليمان بدأ الرئيس (بري) يحذّر من تدهور الوضع. توقّف بانتباه أمام ما نقله سليمان بأنّ قيادات الأكثرية بدأت تتحدّث عن انحياز الجيش وتغطيته للتحرّك. وكان حذراً وخائفاً من همس بدأ يتسلّل عن نيّات لتحريك عصبيات مذهبية داخل الجيش قد تجد صدى لها في هذه اللحظة المفصلية، بعد سقوط أول الشهداء والمشاهد الدامية على التلفزيون، وعندما ازداد عدد الشهداء وأصبح الجرحى بالعشرات انتقل الرئيس (بري) إلى كلام آخر معنا، محذراً من تدحرج الأوضاع إلى حدود خطرة تمسّ الاجتماع اللبناني وتتجاوز التنافس السياسي والمطالب بغضّ النظر عن أحقيّتها.
ومع اضطراب الأحداث وتوزّعها على مختلف المناطق خصوصاً ذات الأغلبية المسيحية استعاد اللبنانيون مشاهد اعتقدوا أنهم تجاوزوها، ما طرح على الجميع التفكير في طريقة أخرى نتيجة هذه الوقائع، لذا تداعينا إلى اجتماع تقويمي سريع بناءً على توجيه من الرئيس.
باسيل: نتراجع وأكملوا وحدكم
وفي مكتب الحاج حسين الخليل المؤقّت، بدأنا عند الرابعة من بعد الظهر بحث الخيارات بعد تطوّر الوضع الميداني. كان واضحاً أنّ التيار الوطني الحر لم يعد يستطيع أن يستمر على الأرض. لقد قام بأقصى ما يمكن ولم يكن بالمستوى المطلوب حشداً وتنظيماً، في مقابل حضور أقل عدداً وأكثر تنظيماً للقوات اللبنانية.
ومع سقوط الشهداء والجرحى كان جبران باسيل واضحاً في أنّهم يريدون الانسحاب من الشارع، وقال إنّ الإضراب قد تحقّق ولا يمكن الاستمرار فيما نحن فيه حالياً، فهناك مشكلات لوجيستية على الأرض. في مقابل ذلك، كانت هناك محاولة استدراك من الحزب بأنّ الأمور ما زالت تحت السيطرة وفي استطاعتنا استيعاب النتائج.
وتحدّث أحمد بعلبكي عن بعض الإجراءات التي اتّخذها الجيش ويمكن لها أن تساعد بشكل غير مباشر في حماية المتظاهرين ومنع الاحتكاك المباشر وهذا لصالح التيار لأنّ جمهوره أكبر. لكن بدا واضحاً أنّ هناك عند باسيل نية للانسحاب من الشارع، في وقت كان يوسف فنيانوس يؤكد استعداد «المردة» للاستمرار في قطع الطريق الرئيس في البترون، بعد أن يجمع نقاطه المنتشرة هناك، لأن لا قدرة له على تفرّغ شباب بشكل دائم في أكثر من نقطة.
كان النقاش يتّخذ هذا الاتجاه، ما جعلنا ننحاز إلى فكرة باسيل في تعليق التحرك. ولكنه عندما انتقلنا إلى البدء بصياغة الموقف، قال: «لماذا توقفون أنتم التحرّك في مناطقكم؟ ولماذا لا نُبقي على إقفال المطار ونقطع طرقات المرفأ؟».
عندها انتفض بعلبكي ومعه صفا بما معناه أننا «احترنا معك».
كان التناقض واضحاً في موقف باسيل، الذي تبدت منه رغبة باستمرارنا بالتحرك في مناطق التماسّ مع «المستقبل»، مع ما يحمل هذا من مخاطر وقوع فتنة سنّية - شيعية، علماً أنّنا غطّينا التحرّك حتّى في بعض المناطق ذات الطابع المسيحي، مثل مستديرة الصياد التي كانت مقطوعة من مجموعات من المفترض أن تكون من التيار الوطني الحر، وهذا ما ظهر على شاشات التلفزة حينها مع تقدم الجيش لفتح الطريق بأسلو