فينشينزو.. رجل المافيا.. عدالة العصابات وتهجير السكان لاستغلال الأرض
تقوم صناعة الدراما بشكل أساسي على تجاوز الحدود، واكتشاف ما وراءها، لكن هذا "التجاوز" له حدوده المعروفة سلفا عبر تراث الإنسانية بدءا من كتاب "الشعر" لأرسطو، وانتهاء بآخر كتاب يمكن أن يصدر حول القواعد الأخلاقية والإنسانية للإبداع الدرامي. وتكمن المفارقة في إقدام بعض صناع الدراما على ذلك التجاوز والقفز على القواعد من دون وعي بما له من أثر مدمر على القيم الإنسانية، فضلا عن القيم الفنية، وبالتالي على العمل نفسه، ذلك أن كمال الجمال الذي هو غاية الفن والإبداع في أبسط تعريفاته هو الكمال الأخلاقي.
وقد أقدم صناع مسلسل "فينشينزو: رجل المافيا" (Vincenzo) الكوري الجنوبي على صناعة متاهة أخلاقية في صورة مسلسل، وذلك عبر الدفع بواحد من قيادات عصابة المافيا الإيطالية المعروفة بالقتل وغسيل الأموال وتهريب المخدرات ورعاية أوكار القمار في العالم، ليكون يد العدالة، والتضامن مع الضعفاء والفقراء، وهو استثناء يكاد يكون مستحيل الحدوث في الواقع، ويبقى وضع "مافيوزو" كبطلِ خير في مواجهة أبطال شريرين بين طيات الدراما، والانتصار عليهم بآليات المافيا لصالح الضعفاء والأخيار أمرا أقرب إلى عبث طفل صغير بجمر مشتعل قد يحرق أصابعه.
إعلانيقدم المسلسل الكوري الجنوبي، الذي يعرض على شاشة منصة نتفليكس، رحلة مليئة بالإثارة والكوميديا والدراما والشك من الانتقام والعدالة. يمزج المخرج كيم هي وون والكاتب بارك جاي بوم بين الكوميديا والحركة والإثارة والتشويق، وهو ما أدى إلى مائدة عامرة من السرد الذي تتنوع أشكاله وإيقاعاته، أيضا، فقد جاءت بعض الحلقات أشبه بخطوات السلحفاة وخاصة الحلقات الثلاث الأولى، فيما سارت باقي الحلقات العشرين بخُطا متوسطة إلى سريعة، ما يتطلب جلَدا للمتابعة.
مائدة عامرة
تدور أحداث المسلسل حول فينشينزو كاسانو (الممثل سونغ جونغ كي)، وهو محام كوري إيطالي وعضو قيادي في المافيا، يعود إلى كوريا الجنوبية بعد أن تعرض للخيانة من "عائلته" الإيطالية، سعيًا لاستعادة الذهب المخفي المدفون تحت مبنى "غيومغا". يتورط فينشينزو ومعه المحامية هونغ تشا يونغ (جيون يو بين)، المستأجران غريبا الأطوار في غيومغا بلازا، بمعركة ضد شركة بابل، وهي تكتل عصابي في شكل تجاري.
يشرع فينشينزو في رحلة انتقام، وما يبدو أنه تكفير عما ارتكبه من جرم سابق، وهو يبحث عن كمية هائلة من الذهب مخبأة أسفل المبنى موضوع الصراع. لا ترغب شركة "بابل" وحدها-إذن- في تهجير السكان لهدم المبنى واستغلال أرضه، وإنما يرغب "فينشينزو" أيضا في تهجيرهم للحصول على الذهب المدفون أسفله، لكنه يعد بمنحهم أرضا أخرى ومبنى آخر بديلا لأرضهم ومبناهم.
نجح صناع العمل في التنقل بين الحركة والكوميديا واللحظات المؤثرة من التواصل الإنساني، رغم اعتماد الكوميديا بشكل أساسي على التشوهات الشكلية، لذا بدت أقرب إلى التنمر، لكن ذلك المزج جعل المشاهد معلقا دائما بشيء ما في العمل بدءا من الضحكة الخفيفة وحتى الانفعال مع معركة أو متابعة مؤامرة للتعرف على نهايتها.
تبدو شخصية رجل العصابات الطيب مناقضة تماما للفكرة العامة المعروفة عن عضو المافيا، فهو هادئ بشكل مبالغ فيه في أغلب الأحيان، وإن بدا حاسما وغاضبا في القليل من المشاهد، التي استطاع الممثل شونغ جونغ كي تجسيدها بشكل دقيق، ومدرسي إلى حد كبير.
إعلانصنع المخرج من شخصيتي البطل والبطلة مرآة تعكس صورة كل منهما لدى الآخر، فقد بدت هونغ تشا يونغ انعكاسا مثاليا لشخصية فينشينزو. وقد بدأت في الحلقات الأولى للمسلسل في الظهور كمستغلة أنانية، لكن تحولها إلى مدافعة عن العدالة أضاف عمقًا لشخصيتها. وفي الوقت نفسه، يضفي طاقم الممثلين المساعدين، بما في ذلك المستأجرون غريبو الأطوار في غيومغا بلازا، الدفء والمرح على المسلسل، مما يخلق ديناميكية جماعية نابضة بالحياة، لكنه لا يخلو من إدانة لأطماعهم الصغيرة، وسذاجة أغلبهم.
كاميرا جوالة
انتقلت كاميرا المخرج كيم هي وون من مزارع إيطاليا إلى شوارع "سول" عبر مشاهد تم تصميمها بدقة، بهدف إظهار حيوية وجمال الأماكن، فضلا عن زيادة التوتر والقلق، ولولا اختلاف الإيقاع في بعض أجزاء العمل لاكتسبت المشاهد ذلك البهاء الناتج عن الانسجام بين عناصر العمل، ولعل الدور الأكبر لذلك "المط والتطويل" يعود لعدد من القصص الفرعية حول الخط الدرامي الرئيسي، والتي لو تم حذفها لكان أفضل للعمل وللمشاهد.
ورغم الطرافة، نظريا، فإن مشاهد الحركة والقتال الجاد لم يكن أغلبها موفقا في تداخله مع الكوميديا، إذ يبقى الموقف الدرامي ناجحا ما دام قابلا للتصديق، وحاملا لرد فعل طبيعي، ولا يعقل أن يضحك الشخص السوي، بينما يسقط قتيل إلى جواره.
وقدم صناع العمل عرضا جيدا لمهارات إدارة المجموعات في مجموعة مشاهد صورت لحفل أقيم أمام المبنى المراد هدمه لمنع الجرافات من الهدم، واستعرض خلاله المخرج تفاصيل الحفلات الشعبية التي تشبه إلى حد كبير "الموالد" في مصر، بما فيها من باعة جائلين، وغناء عشوائي وفرحة تلقائية، بينما وقف "فينشينزو" المحامي ورجل العصابات كما لو كان "مايسترو" لفرقة أوركسترالية يدير الحدث عن قرب.
وفي المقابل فإن مشاهد محاولات الهدم بدت فقيرة للغاية، إذ بدت الكاميرا وكأنها لمصور عشوائي يقف على مسافة بعيدة، محاولا التصوير دون أن ينتبه إليه أحد.
أنماط درامية
يأتي مسلسل "رجل المافيا" بتطرفه في محاولة استخراج الخير من قلب رجل يبدو شريرا، ليضع مشرطا على جرح الدراما الكورية الجنوبية التي صعدت وأثبتت وجودها في العقد الأخير، وخاصة بعد فوز فيلم "الطفيلي" (Parasite) بجائزة أوسكار أفضل فيلم عام 2019، وتحول مسلسل "لعبة الحبار" (Squid Game) بجزئيه إلى ظاهرة تاريخية فيما يخص نسب الإقبال على مشاهدتهما، ورغم ذلك يبقى تنميط الشخصيات الدرامية في أغلب الأعمال الكورية بدائيا جدا.
ومنذ المشاهد الأولى لأي عمل درامي كوري جنوبي، يستطيع المشاهد تحديد الشخصيات الطيبة من جهة، والشريرة من جهة أخرى، وتحديد انحيازاته، وهي أزمة تجاوزها أغلب صناع الدراما في العالم، خاصة في ظل المعطى البديهي لفكرة وجود الخير حتى في سود القلوب والعكس. ويرفع "فينشينزو: رجل المافيا" شعارا جديدا ويمهد لعرض شخصيات أكثر تركيبية بدلا من تلك النماذج الأحادية التي تنتشر في دراما كوريا الجنوبية، كما يحمل العمل رسالة ضمنية تعد ملمحا دائما للمسلسلات الكورية وهي انتقاد الرأسمالية، وسعيها الوحشي للربح على حساب الفقراء والضعفاء.
إعلانaljazeera.net