تسليح المدنيين في السودان : فوضى الحرب تغذي انتشار السلاح وتعمق الانقسام
![تسليح المدنيين في السودان : فوضى الحرب تغذي انتشار السلاح وتعمق الانقسام020 تسليح المدنيين في السودان : فوضى الحرب تغذي انتشار السلاح وتعمق الانقسام](/photos/imgsystem-BXS20QYVOZ.jpg)
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
شوقي عبدالعظيم
الخرطوم: 11 فبراير 2025 – كشفت الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 عن نقص حاد في تأهيل الجيشين المتحاربين، القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، مما دفعهما إلى الاستعانة بالمدنيين في صراعهما. ونتيجة لذلك، انتشر السلاح بشكل كبير، وتفاقمت تجارته، وانتُهكت حقوق المدنيين على نطاق واسع، على أيدي أفراد غير مؤهلين لحمل السلاح.
يروي (م.أ)، 29 عاماً، من بلدة “أم دم” تجربته المريرة قائلاً: “لقد خلّفت الحرب فوضى عارمة في بلدتنا. كانت مؤسسات الدولة، كالمحلية والمحكمة وقسم الشرطة، هي أبرز معالمها. لكنها تبخرت في منتصف يونيو 2023. المحكمة أوقفت جلساتها لغياب القاضي الذي آثر السلامة واختفى. المعتمد غادر البلدة متمنياً لنا الأمن. أفراد الشرطة، وهم من أبناء البلدة، قاموا بهدوء بإفراغ مركز الشرطة من الملفات المهمة والأدوات المكتبية والسلاح الخفيف الذي بحوزتهم، وهو عدة بنادق كلاشنيكوف وصناديق ذخيرة لا تتجاوز 150 طلقة، كما أفادني (ع.أ)، وهو شرطي من أهل البلدة.”
ويضيف: “وسط هذه الفوضى، كان علينا أن نتحمل مسؤولية حماية أنفسنا وأهلنا وممتلكاتنا. بمعنى آخر، كان علينا شراء السلاح وتحمل مسؤولية استخدامه.”
السياسة وراء ضعف الجيشين
ضباط في الجيش السوداني، حاليين ومتقاعدين، تحدثوا بحماس عن ضعف تأهيل الجيشين، وأجمعوا على أنه كان وراء العديد من انتهاكات الحرب، خاصة بعد استعانة الجيش بالمدنيين غير المؤهلين، وتسليحهم في مناطق سكنية، مما ساهم في انتشار السلاح.
اللواء المتقاعد كمال إسماعيل يرى أن “استعانة الجيش السوداني بالمدنيين في القتال، في حد ذاتها، علامة ضعف كبيرة.” ويشير إلى أن “تأسيس قوات الدعم السريع كجيش موازٍ هو نتيجة منطقية للإضعاف الذي تسبب فيه الإسلاميون للجيش.”
ضباط آخرون عاصروا انقلاب 1989 بقيادة عمر البشير، أشاروا إلى أن تسييس قطاع الأمن كان مدخلاً أساسياً للضعف والفساد داخل الأجهزة الأمنية، وفي مقدمتها الجيش. المقدم وليد عزالدين، الذي أُبعد عن الجيش لأسباب سياسية، يرى أنه بعد انقلاب 1989 “عملوا على أسلمة الجيش، وأرادوا أن يحولوه إلى جيش رسالي جهادي إسلامي، وأجروا تغييراً في العقيدة القتالية، وبدلاً من أن يحمي الجيش الدستور والوطن أصبح يحمي نظام الإسلاميين.” ونتيجة لذلك، أُهمل الجيش من حيث التدريب والمنهج والعقيدة القتالية.
ويشير الضباط إلى أن أول دفعة تم استيعابها في الكلية الحربية بعد انقلاب الإسلاميين، وهي الدفعة “40” المعروفة بـ”حماة الدين”، تم قبولها عن طريق التنظيم الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت، تولى التنظيم الإسلامي زمام الجيش عبر هيئة الاستخبارات، كما يقول اللواء كمال إسماعيل.
ويتفق العديد من الخبراء العسكريين على أن تسييس الجيش من قبل الإسلاميين كان له تأثيرات سلبية على مهنية الجيش واستعداده العسكري. تجلت هذه الآثار في حرب 15 أبريل، التي يقودها عدد من الضباط الإسلاميين.
الفساد ينخر في الجيش والدعم السريع
على الرغم من أن 80% من ميزانية الدولة كانت مخصصة للأمن والدفاع خلال فترة حكم عمر البشير، فقد دخل الجيش في استثمارات عديدة، من بينها صادرات اللحوم والمنتجات الزراعية، فضلاً عن شركات تجارية تنافس في القطاعين الزراعي والصناعي. وأسس “هيئة التصنيع الحربي” في 1993م، والتي عُرفت لاحقاً بـ”منظومة الصناعات الدفاعية”. كان الهدف من هذه الاستثمارات تحسين وضع الجيش وزيادة موارده وتأهيله وإمداده بالسلاح المتطور، إلا أن ذلك لم يحدث، ولم تنعكس هذه الاستثمارات على الجيش، وتحكم في المنظومة ومواردها كبار القادة. ثم انتقلت استثمارات الجيش إلى قطاع التعدين.
ضابط في الجيش السوداني، له علاقة بملفات اقتصادية، أفاد بأن “الجيش يستثمر في كل شيء.. في بعض الأحيان استثمارات مع دول بغرض العلاقات، ومرات عديدة لأغراض ربحية.” وأشار إلى أن أكبر الاستثمارات في قطاع التعدين عن الذهب مع شركات روسية وإماراتية ومغربية. وحول توظيف هذه الموارد في تأهيل الجيش، قال إن “الاستفادة منها محدودة والسبب الرئيسي هو الفساد.” وكثيراً ما يتم تداول قضايا الفساد في الجيش، ولكن يصعب التحقق منها بسبب القبضة الأمنية، كما أن استثمارات الجيش لا تخضع للمراجعة من قبل المراجع القومي.
تسببت استثمارات الجيش وشركاته في خلاف كبير خلال الفترة الانتقالية، عندما طالب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بخضوعها للمراقبة، وقال “إن ما يدخل الخزينة 18% فقط من الإيرادات.” وتمسك الجيش باستثماراته وشركاته رافضاً تدخل المدنيين.
وقال ضابط برتبة مقدم في الجيش السوداني إن “أحوال الجنود السودانيين ليست بخير؛ رواتبهم ضعيفة ولا تصل إليهم بانتظام.” وأشار إلى أن “مهمات” الجنود من ملابس عسكرية ومُعينات تم إهمالها بعد اتفاق “سلام جوبا” في أكتوبر 2020م. فمنذ العهد السابق للثورة، دخلت إمدادات الجيش من الملابس في فساد كبير بعد أن عُهد بها إلى مصنع “سور”، وهو مصنع يملكه رجل الأعمال التركي “أوكتاي شعبان حسني”، والذي يتمتع بشراكات مع قادة نظام عمر البشير.
وبحسب مصدر في الجيش، فإن الفساد طال حتى شراء الأسلحة. وأضاف: “هناك صفقة مشهورة قام بها وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين عندما اشترى دبابات مستعملة على أنها جديدة من بيلاروسيا ولم يستطع الجيش استخدامها.” كما انتشرت في أوساط الجيش ظاهرة “القوائم الوهمية”، وهي كشوفات مرتبات بأسماء جنود غير موجودين في الخدمة، وبعضهم من الموتى.
وقال المصدر إن “ضعف المرتبات وسوء التدريب تسببا في تسرب أعداد كبيرة من الجنود، كما أديا إلى نفور الشباب السودانيين من التجنيد والانخراط في الجيش.” وواصل: “متوسط أعمار الجنود في الجيش يزيد عن 35 سنة، وهي أعمار غير قتالية.”
كما أن الحكومة استغنت عن أعداد كبيرة من الجنود بعد انفصال جنوب السودان في 2011، مما جعلها تعتمد مؤخراً على قوات الدعم السريع في مهامها القتالية.
وبحسب شهادة جندي أوكراني شارك في المعارك إلى جانب الجيش، نقلتها عنه صحيفة “وول ستريت جورنال”، “لم يحصل الكثير من أفراد الجيش السوداني على رواتبهم منذ بدء القتال قبل أشهر، مما أدى إلى تراجع معنوياتهم، فيما لم يكن المقاتلون يرتدون علامات لإظهار الجانب الذي ينتمون إليه، وكانت النيران الصديقة تشكل تهديداً منتظماً.”
ووفقاً لجولة صحفية قام بها أحد المشاركين في هذا التحقيق، قال عدد من الجنود إنهم لم يحصلوا على رواتبهم بانتظام منذ اندلاع الحرب، وإن هناك إجراءات مُقيدة لا تمكِّن أسرهم من الحصول عليها بسهولة. وقال أحد الجنود: “كانت المرتبات متوقفة في الشهور الأولى للحرب، وفي أغسطس بدأنا نستلم رواتبنا، ثم توقفت مرة أخرى وقبل أشهر صرفنا.” ويرتدي معظم الجنود ملابس عسكرية جديدة قالوا إنها وُزعت عليهم بعد الحرب.
الدعم السريع: مؤسسة مالية خارجة عن القانون
لا تستند قوات الدعم السريع على مؤسسات بالمعنى المتعارف عليه، فهي تُدار من قبل قائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي” وأخيه غير الشقيق عبد الرحيم دقلو وعدد من أفراد عائلتهم. وعلى الرغم من أنها تتحصل على رواتب الجنود من خزينة حكومة السودان منذ تأسيسها إلى ما قبل الحرب، فإن أمر التصرف فيها متروك لقيادة الدعم السريع.
بحة برتبة عميد انتسب إلى الدعم السريع في وقت سابق: “هناك إدارات في الدعم السريع، من بينها إدارة مالية خاضعة بالكامل للقيادة وهي تحدد الصرف والأولويات.” وأشار العميد إلى أن الإدارة المالية تستعين بعسكريين من الجيش مُعاشيين وفي الخدمة، غير أن تمدد الدعم السريع اقتصادياً جاء عقب مشاركته في حرب اليمن المعروفة بـ”عاصفة الحزم”، والتي كان يتلقى فيها ملايين الدولارات مقابل إشراك جنوده في القتال، وكان يتصرف في الأموال بعيداً عن رقابة الدولة ومُحاسبتها، إضافة إلى انفراده بتعدين الذهب في إقليم دارفور، خاصةً منطقة جبل عامر، حتى أصبح حميدتي يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، وهي أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مُساءلة، وأصبحت شركة الجنيد، التي يُديرها أقاربه، مجموعة ضخمة تُغطي الاستثمار والتعدين والإنشاءات والنقل وتأجير السيارات والحديد والصلب، وكل هذه الإمبراطورية المالية خارج دائرة تدقيق ومُراقبة الدولة.
وأشار عدد من الخبراء إلى أن قوات الدعم السريع كانت عند بداية الحرب أفضل تجهيزاً من الجيش من حيث العتاد ومُعينات الجنود والمركبات والسلاح الخفيف والمتوسط والثقيل. وقال اللواء “مُعاش” كمال إسماعيل: “قوات الدعم السريع قوات حديثة عمرها لا يتعدى عشر سنوات، لذلك كان وضع الجندي فيها أفضل.” وتم دعم قوات الدعم السريع من الإمارات والسعودية قبل الحرب بموافقة من الدولة.
جنود فقراء وتدريب مُتَدنٍ
بحسب ضابط في الجيش، تأثر التدريب في الكلية الحربية السودانية في سنوات الإنقاذ، وخاصةً بعد اتفاق السلام في 2005م. وقال اللواء “مُعاش” عوض الكريم غرباوي: “تغيير العقيدة القتالية أثَّر على تدريب الضباط وتأهيلهم. في السابق كان الضابط يتلقى دورة في بريطانيا أو روسيا، اليوم لا يذهب إلى أكثر من مصر أو الأردن.” وأشار إلى أن انخفاض الجرعة التدريبية في الكلية الحربية، إلى جانب طبيعة الطلاب الحربيين المقبولين بالولاء السياسي، انعكس على كفاءة الضباط وانضباطهم العسكري، وقال: “ضابط برتبة مُلازم من تنظيم الإسلاميين يمكن أن يأمر ضابطاً برتبة رائد ليس من التنظيم.” وقد انعكس كل ذلك على تدريب الجنود.
كشف استطلاعنا عدداً من الجنود في مدينة القضارف أن أكثر من 85% منهم لم يتعدَّ تحصيلهم الدراسي التعليم الابتدائي، وقال معظمهم إنهم تجندوا في الجيش لأن خيارات العمل أمامهم كانت معدومة، وأغلبهم من طبقات فقيرة أو شديدة الفقر.
وأفاد جندي في الواحدة والثلاثين من العمر أنه تدرب في معسكر جبيت بشرق السودان، وأن فترة التدريب كانت 3 أشهر مُتواصلة، بعدها تم إرساله إلى القضارف. انحصر التدريب في البيادة واستخدام البندقية كلاشنيكوف (Kaláshnikova) وجيم 3 (G3) وقورينوف (Goryunov). وفيما يتعلق بتلقيهم مواد تدريسية مُتعلقة بمفاهيم حقوق الإنسان، نفى ذلك.
وتُقاتل إلى جانب الجيش قوات الحركات المسلحة، وهي قوات تمردت على نظام البشير، وأغلبها من حركات دارفور، وأبرزها حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، جناح مالك عقار في النيل الأزرق. تعود تكوينات هذه القوات إلى أكثر من عشرين عاماً، وهي في الأساس نشأت على أساس قبلي وإثني، ولا يتم تدريبهم إلا على استخدام السلاح، ولا يوجد منهج مُحدد للرتب والترقيات والتأهيل على أخلاقيات ومبادئ القتال.
جنود مُدربون وغير مُدربين
قال جندي سابق في قوات الدعم السريع: “القوات التي تُقاتل في المعركة الدائرة الآن بعضها تلقت تدريباً عسكرياً، وأخرى لم تتلقَّ تدريباً.” وأشار إلى أن قوات الدعم السريع حصلت على تدريب مُكثف كقوات مُشاة وتدخُّل سريع في معسكرات في الخرطوم منذ 2007 في حطَّاب بشرق النيل (30 كيلومتراً شمال شرق مدينة الخرطوم بحري)، وفي الصالحة (17 كيلومتراً جنوبي أم درمان)، وفي مدينة بحري.
أوضح الجندي الذي نحتفظ باسمه لوجوده في مناطق الخطر أنهم تدربوا على يد ضباط من الجيش السوداني، وعند مُشاركتهم في حرب اليمن تلقوا تدريباً في معسكرات في دارفور، من بينها معسكر في منطقة الزُرُق (87 كيلومتراً شمال الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور)، وقال: “كان التدريب صعباً، وحتى بعد التدريب يبقى الجندي بالمعسكر ولا يُغادره إلا إلى اليمن، أو يُوزع على الحراسات.” إلا أنه عاد وقال: “اليوم بعد اندلاع الحرب هناك جنود غير مُدربين في صفوف قوات الدعم السريع يُقاتلون بالحماس القبلي.”
وفي ذات الاتجاه، كشف ضابط من الدعم السريع عن أن جنود الدعم السريع حصلوا على جرعات تدريبية مُكثفة في معسكرات في اليمن وفي الإمارات وفي الأراضي الإريترية خلال مُشاركتهم في عاصفة الحزم. وحسب مصدرين، فإن أبوظبي أنشأت معسكرات حشد وتجنيد السودانيين ضمن قوات “الدعم السريع” في الأراضي الإماراتية وفي جزيرة عصب الإريترية، ورجَّح أن يكون هذا التدريب بدعم من الإمارات، وأشار إلى أن الجنود الذين تدربوا وشاركوا في حرب اليمن بعضهم ترك الدعم السريع، لكن معظمهم عاد مع هذه الحرب للقتال.
من بين المُقاتلين في صفوف قوات الدعم السريع جنود لم يحصلوا على تدريب عسكري بالمعنى المعروف، وإنما يُجيدون استخدام الأسلحة الخفيفة فقط. وقال جندي: “من بين جنود الدعم السريع من لم يدخل معسكر تدريب أصلاً، فقط لهم معرفة باستخدام السلاح.” وأشار إلى أن معظم المجموعات التي يُطلقون عليها “أم باقة” لم يحصلوا على تدريب، وبعض الجنود الذين يحضرون ضمن “الفزع” – الفزع استنفار قبلي- إلى جانب ميليشيات قبلية تأسست لحماية القبائل والمناطق.
تدريب “18” يوماً
من بين المجموعات المُشاركة في الحرب الدائرة الكتائب الجهادية الإسلامية، مثل كتيبة “البراء بن مالك”، وكتيبة “البنيان المرصوص”، وكتيبة “الفرقان”، وهؤلاء يتم تدريبهم على يد الجماعات الإسلامية منذ وقت طويل في السودان، ودائماً ما يكون التدريب على درجة من السرية، إلى جانب قوات هيئة العمليات التي كانت تتبع لجهاز الأمن والمخابرات وتم حلها إثر تمرد القوة خلال الفترة الانتقالية، إلا أن أفرادها عادوا للعمل تحت إمرة الجيش، فيما يُعرف بـ”قوات العمل الخاص”، وهؤلاء حصلوا على تدريب قتالي عالٍ، ومعظمهم ينتمي إلى الإسلاميين ومؤيدون لحكم