خبر ⁄سياسي

خيارات ثلاثة أمام المؤتمر الوطني الفلسطيني

خيارات ثلاثة أمام المؤتمر الوطني الفلسطيني

أيام قلائل، وتتداعى مئات الشخصيات الوطنية الفلسطينية للاجتماع في الدوحة، تحت مظلة "المؤتمر الوطني الفلسطيني" بوصفه "حراكًا شعبيًا مستمرًا ومتواصلًا من داخل الوطن وخارجه"، يهدف في نهاية المطاف إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، كإطار وحدوي جامع في ظل قيادة وطنية موحدة، تتصدى لمهام المرحلة الاستثنائية التي يعيشها شعب فلسطين وقضيته الوطنية ومقاومته المشروعة.

ويمكن القول، إن "المؤتمر الوطني" جاء تتويجًا لمبادرات عدة انطلقت بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، من داخل الوطن الفلسطيني المحتل وخارجه، هدفت في مجملها إلى بعث وإحياء، وأحيانًا قيل "استرداد" منظمة التحرير، وبناء مرجعية وطنية عليا للشعب الفلسطيني (تتخطّى فكرة دعوة الإطار القيادي الموحد للانعقاد)، وتوفير شبكة أمان للمقاومة والمشروع الوطني، لمواجهة حرب التطويق والتطهير والإبادة ومشاريع الضمّ والأسرلة والتهويد والفصل العنصري والتهجير، في غزة أولًا وفي الضفة والقدس وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة في المقام الأخير.

في خلفية هذه المبادرات جميعها، تكمن قناعة جمعية عميقة مفادها أن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، لم تضطلعا بدورهما الطبيعي والمأمول في التصدي لواحد من أبشع فصول الحرب الصهيونية – الإمبريالية على الشعب وقضيته ومقاومته وحقوقه ومشروعه، على أن هذا الإجماع لم يمنع تباين التقديرات والتوصيفات لسلوك "المؤسسة الرسمية الفلسطينية" وأدائها، فمن قائل بـ"العجز والتقصير" إلى قائل بـ"التواطؤ"، وأحيانًا، "الضلوع" في مخطط إخماد مقاومة الشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية كما في قطاع غزة.

إعلان

وهذا أمرٌ مفهوم وطبيعي، بالنظر لتعدد مشارب المبادرات والمبادرين، واختلاف مرجعياتهم السياسية والفكرية، فضلًا عن تباين السياقات السياسية والأمنية التي يعملون بين ظهرانَيها، وما تمليه من حسابات وارتباطات، مخاوف وهواجس، رهانات وآمال.

والتباين في خلفيات هذه المبادرات ودوافعها، أفضى وسيفضي إلى تباين في "الرهانات وسقوف التوقعات"، بل وإلى خلق "تجاذبات" حول خيارات المستقبل، وأية استجابة للحظة الفلسطينية الحرجة والتاريخية بمقتضياتها ومندرجاتها.. الأمر الذي يضع المؤتمر والمؤتمرين على مفترق هام، وهم يتوافدون إلى اجتماعهم الأول، إذ تنتظرهم ثلاثة خيارات، سيقرر كل واحدٍ منها، مآلات هذه المبادرة وحدود فعلها وتأثيرها، وما إن كانت ستكتسب أهمية تكتيكية – مرحلية أم أنها ستحدث أثرًا إستراتيجيًا مستدامًا على مجمل الحالة الفلسطينية:

الخيار الأول

التحول إلى جماعة ضغط "لوبي"، تستكمل ما كانت بدأته جماعات ضغط أخرى، سبق أن نبتت وتكاثرت على جذع الانقسام الفلسطيني المديد والمرير، مع ملاحظة أن "الجماعة" هذه المرَّة، أثقل وزنًا وأكثر تنوعًا، وأوزن حضورًا، وثمة ظروف وطنية وإقليمية ودولية محيطة بعملها، تكسبها قدرةً أعلى على التأثير.

التفكير على هذا النحو، أمرٌ مشروع تمامًا، لا غضاضة فيه ولا غبار عليه، وهو يملي على المجموعة، اختيار أدوات وطرائق عملها المنسجمة مع وظيفتها، وهي إذ تلجأ إلى تعظيم فكرة "الحوار" و"محاولات الإقناع" بجدوى الإصلاح والبعث والاستنهاض، إلا إنها لا تسقط أساليب الضغط "الناعمة" في سياق أدائها مهمتها وتفويضها الذي اختارته لنفسها، وثمة حاجة للإجابة عن سؤال: كيف يمكن للحوار والضغط الناعم، أن يفضيا إلى التغيير الذي بدا ويبدو عصيًا على كافة المبادرات والمبادرين، من داخل الجسم الفلسطيني، ومن أطراف عربية ودولية وازنة؟

إعلان

كثرة من أبناء وبنات شعب فلسطين، وبعد عقدين من المناشدات و"الضغوط" لاستعادة الوحدة، وأربعة عقود من المبادرات الرامية لـ "إصلاح منظمة التحرير"، باتت أقل ثقة بجدية وجدوى هذا المسار، فالانقسام السياسي، الذي تعمق إلى انقسام مؤسساتي، عززه انفصال جغرافيا غزة عن الضفة، جعل ويجعل من الصعب جسر الهوة وردم الفجوات، التي جاء زلزال السابع من أكتوبر/ تشرين الأول ليعمقها بدل أن يدفنها، لا سيما بعد أن ذهب الطوفان بعيدًا في رسم الفواصل والتخوم بين الأطراف: حماس بلغت ذروة غير مسبوقة في مشروعها المقاوم، والسلطة هبطت دركًا غير مسبوق، في اتساقها مع نهجها، وتساوقها مع مخرجات الحل الإسرائيلي ومقتضياته والتزاماته، الأمنية قبل السياسية.

وبفرض أن مقتضيات ما بعد وقف إطلاق النار، أو ما بعد صمت المدافع في غزة، قد تملي شكلًا من أشكال "زواج المتعة" بين الفريقين، إلا أن فشل كافة الجهود متعددة المصادر، الرامية لاستعادة المصالحة واسترداد الوحدة، تشي بأن هذا الطريق بات مغلقًا، وأن الجهود التي تبذل لفتحه، باتت ضربًا من العبث، وأن صرفها في مناحٍ أخرى، ربما يعود بفائدة أعظم على الشعب وقضيته وكفاحه.

تلكم قضية بحاجة للتفكير والتدبير، لا من قبل المؤتمر والمؤتمرين فحسب، فهم ليسوا سوى شريحة واحدة، من شرائح الشعب الفلسطيني، بل ومن قبل الفلسطينيين وأصدقائهم كافة.

الخيار الثاني

اختزال مآلات وخواتيم عمل هذه المجموعة من رجالات فلسطين ونسائها، إلى أداة لإنتاج "سلطة/ منظمة بلس"، باستدخال بعض الإصلاحات الشكلانية على بنيتها وأدائها، من نوع ضمان مشاركة رمزية لهذا الفصيل أو ذاك (من فصائل المنظمة أو ممن هم خارجها)، أو تعديل شروط عمل هذا التيار/ الفريق من التيارات المكونة للسلطة وفتح والمنظمة.

وعلى الرغم من أن رهانًا كهذا، ينطوي على نوع من "المجازفة" إن جاز التعبير، فإنه ممكن، لا سيما أن التجربة الفلسطينية، الحافلة بفصول المقايضات والمحاصصات، أبقت كثيرين في الدائرة الرسمية الفلسطينية، مع أن وجودهم في الدائرة الشعبية يكاد يكون "صفرًا مكعبًا".

إعلان

هنا يجدر التنبيه إلى أن التحديات التي تنتظر الشعب الفلسطيني، وقضيته ومشروعه، أكبر بكثير من هذه الحسابات الضيقة والمغلقة، والمؤتمر الذي يتعين أن يكون رافعة وطنية كبرى، لحالة نهضة واستنهاض، لا يتعين عليه أن يهبط إلى كونه مجرد أداة تفاوضية لتحسين موقع هذا الطرف أو ذاك، ولا ينبغي السماح بتحويله إلى وسيلة لـ"تحسين شروط بعضهم التفاوضية" مع القيادة المتنفذة في منظمة التحرير

مثل هذه المقاربة، وإلى حد كبير المقاربة الأولى، تكبل أيدي وأرجل المؤتمر والمؤتمرين، وتحول دون خوضهم غمار المزاحمة الجادة للقيادة الرسمية، على كل موقع وشبر، في الوطن والخارج، إن في معركة كسب الرأي العام، أو في التنازع على البنى والقواعد التحتية لمنظمة التحرير، من منظمات واتحادات شعبية، وستطيل في عمر الانقسام بدل أن تختصره، وستضع مستقبل الشعب الفلسطيني، بين يدي قيادة، يوقن كثيرٌ من الفلسطينيين، بأنها لم تعد مؤتمنة على تمثيلهم والنطق باسمهم، لا يمنحونها ثقتهم، بدلالة أرقام الاستطلاعات المتعاقبة، ولجوء القيادة ذاتها إلى تعطيل الانتخابات العامة لخشيتها مما يمكن أن تفيض به صناديق الاقتراع، ودائمًا بحجج وذرائع، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب.

والحقيقة أن التحذير من السير على هذا الطريق/الخيار، يبدو ضروريًا جدًا، والعمل في بداياته الأولى، لضمان خطوة تأسيسية منسجمة مع الحاجة الوطنية لتخليق قيادة وطنية فلسطينية معبرة بالكامل عن تطلعات شعبها وأشواقه، ومعبرة كذلك عن الضمير الجمعي للمبادرات والمبادرين الذين سيتوافد قسم منهم، إلى الدوحة تحت خيمة "المؤتمر الوطني الفلسطيني".

حقيقة أن من يفكرون (أو قد يفكرون) بهذه العقلية، قد لا يشكلون أغلبية من بين الحاضرين، لا تلغي الحاجة الماسة للتنبيه من مخاطر الانزلاق إلى طريق معروفة نهاياتها مسبقًا.

إعلان

الخيار الثالث

وهو الأصعب من كل الخيارات الأخرى، أن يتصدى المؤتمر والمؤتمرون لمهمة شق طريق جديد أمام حركة وطنية فلسطينية متجددة، قادرة مع شعبها، على ولوج عتبات مرحلة إستراتيجية جديدة.. هنا يمكن للنقاش أن ينفتح على عنوانين:

  • الأول: الحديث عن "طريق ثالث"، وهم أمرٌ لا يُجمع عليه المؤتمر والمؤتمرون، الذين يتحدرون من مرجعيات شتى، وكثرة منهم جاؤوا إلى المؤتمر بهوية مزدوجة: أعضاء فرادى بصفاتهم الشخصية، بيد أنهم في مواقع قيادية وكادرية مرموقة في فصائلهم المنقسمة فيما بينها.

هنا يتعين التفريق بين حاجة الفلسطينيين لـ"تيار ثالث"، يمكن المجادلة بشأن أهميتها وضرورتها، بل وإلحاحيتها من جهة، وقدرة هذه الجماعة بعينها (المؤتمر والمؤتمرين) على أن تكون هي بذاتها، هذا "التيار الثالث".

من جهة ثانية، الحاجة ماسّة لهذا التيار، ولكن ليس المؤتمر بتركيبته وتفويضه، هو "القابلة القانونية" التي يمكن أن تستخرجها إلى دائرة النور والحياة.. يجب البحث في مكان آخر، مع عناصر أخرى، بعضها من بين أعضاء المؤتمر، لغرض إنجاز هذه المهمة، التي ندعو لها ونتطلع لإنجازها.

  • الثاني: تشكيل عنوان ثانٍ للشعب، بعد أن فشل عنوانه الأول في اختبار الطوفان وما بعده، ولم يعد "مؤتمنًا" على قيادة دفة سفينة التحرر الوطني إلى شواطئ الأمان.. هذا الخيار الذي انطلقت منه مبادرات فلسطينية عدّة، ليست ممثلة أتم تمثيل في "المؤتمر"، والمؤتمر بقوامه وتفويضه الراهنين، ليس مؤهلًا لأن يكون هذا العنوان.

يثير هذا الخيار أسئلة ظلّت محظورة حتى يومنا هذا، منها؛ وماذا عن "الممثل الشرعي الوحيد"، وما راكمه من مكتسبات تمثلت أساسًا في الاعترافات العربية والدولية بشرعية ووحدانية تمثيله للشعب الفلسطيني؟ هل المطلوب بناء منظمة بديلة أو موازية؟ وماذا عن التجارب والمحاولات الفاشلة التي مرّت بها الحركة الوطنية الفلسطينية طيلة عشريات أربع أو خمس من السنين؟

إعلان

تُلقَى هذه الأسئلة، جملة وتفصيلًا، في وجه أي محاولة لتحدي قيادة السلطة والمنظمة، حتى وهي تنخرط في أسوأ السياسات والممارسات التي تلحق أفدح الأضرار بشعبها وقضيته، وتُستَحضر أسوأ تجارب الفشل والخبث وما استبطنته من تدخلات خارجية مقيتة، من أجل "تكسير المجاذيف" إن جاز التعبير، متجاوزة تجربة اقتحام فصائل العمل المقاوم منظمة التحرير، في العام 1969، غداة معركة الكرامة.

حينها، كان للفلسطينيين عنوانان: الشقيري والمنظمة المتشكلة من رحم الحاضنة الرسمية العربية، وقيادة فتح والفصائل الأخرى: الأولى، "شرعية رسمية بلا قواعد شعبية متينة"، والثانية "شرعية ثورية بقاعدة شعبية عريضة"، إلى أن اندمجت الشرعيتان وتماهتا في جسم واحد.

اليوم، ومع اختلاف السياقات الوطنية والإقليمية والدولية، ثمة عنصر تشابه لا يريد أنصار "إبقاء القديم على قدمه" الاعتراف به والرجوع إليه: ثمة "شرعية رسمية بلا شعبية"، وفي ظني أن شعبية الشقيري وصحبه في حينه، ربما تكون تفوقت على شعبية السلطة اليوم، وهناك "مقاومة شعبية لا صفة رسمية تمثيلية لها".. حل هذه الثنائية يبدو اليوم، معضلة يتعين حلّها إن نحن أردنا للحركة الوطنية الفلسطينية أن تتجدد وأن تنطلق نحو فضاءات جديدة.

لم تجد حركة فتح وياسر عرفات، كبير عناء في تحقيق المزاوجة بين الشرعيتين، سنوات قلائل كانت المسألة منتهية، بدفع من النظام الرسمي العربي من جهة، ومناخات الحرب الباردة من جهة ثانية، والطبيعة الوطنية/العلمانية للحركة الوطنية في حينها، وقبل أن يصبح الإسلام السياسي بمدارسه المختلفة، "شرًا مطلقًا" من منظور الرسميات العربية، وعواصم غربية نافذة.. تلكم عوائق، حالت حتى الآن، دون نجاح حماس في استحداث المزاوجة التي سبق لفتح أن أنجزتها بتكاليف أقل، وتجعل مهمتها أكثر صعوبة.

واحدة من أسباب إخفاق حماس في استحداث المزاوجة المطلوبة، برغم فواتير الدم الباهظة التي دفعتها، وتحديدًا في الطوفان، إخفاقها في اعتماد إستراتيجية تقوم على "الشراكة والمشاركة" مع بقية مكونات الشعب وحركته الوطنية، وميلها كما باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي، للهيمنة والاستئثار، معطوفًا عليه، تأثرها بمدرسة "التمكين" إخوانية الطراز والنشأة.

إعلان

اليوم، بعد الطوفان، نفترض أن تكون المقاربة قد تغيرت، وأن تتغير جذريًا، وهذا ما سمعناه من قيادة حماس، وما رأينا بعضًا من شواهد عليه في تجربة الحرب على غزة، شواهد تكفي للبدء في مشوار الشراكة، وإن كانت مفخخة بالشكوك والاحتمالات.

المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى، الذهاب من دون تردد أو إبطاء لتكوين عنوان فلسطيني ثانٍ، وعدم ترك "المقاطعة" في رام الله لتكون هي العنوان الوحيد للشعب الفلسطيني.

المطلوب اليوم، من حماس قبل غيرها، وأكثر من غيرها، أن تتخذ زمام المبادرة على هذا الطريق، وأن تظهر بالفعل لا بالقول، أن منطق الشراكة هو المنطق الحاكم، لمشروع "جبهة وطنية فلسطينية متحدة"، تضم كافة فصائل المقاومة وتياراتها، بمن فيها تلك المنضوية في دواخل فتح والمنظمة، وكافة المبادرات والشخصيات والتجمعات الفلسطينية في الوطن المحتل والمحاصر والشتات، كافة المنظمات والاتحادات الشعبية المُعاد تفعيلها أو تشكيلها، الحركات النسائية والشبابية، الأكاديميين والأكاديميات، مع تركيز خاص على الأجيال الطالعة من أبناء وبنات هذا الشعب.

يتعين أن تجد أي جهة تضطر لزيارة رام الله للتعامل مع المسألة الفلسطينية، أن تجد نفسها مرغمة – من الناحية العملية على أقل تقدير- على مخاطبة العنوان الثاني، فلا شيء يمكن أن يحدث أو يمر، من دون موافقته عليه.. تلكم كانت الحال عشية 1969، وهكذا يجب