القوة العسكرية السعودية من التأسيس إلى الرؤية... الحرس الوطني نموذجا

تتبادر تساؤلات عدة إلى الذهن في ذكرى ميلاد الدولة السعودية، 22 فباير (شباط) 1727. واحد من أبرز تلك التساؤلات يتمثل في بدايات القوة العسكرية السعودية، والقوة الوريثة لجيش التأسيس.
تظل الإجابات حول التساؤل الأخير وغيره بحاجة إلى مزيد من الاستقصاء والبحث، خصوصاً ما يتعلق بتاريخ مؤسسات الدولة ونشأتها وتطورها؛ فالدولة السعودية تُعدّ أكبر مرحلة تحول حدثت في تاريخ الجزيرة العربية، بعد انتقال عاصمة الخلافة الراشدة منها سنة 656 (36هــ)، فقد جاء ذلك التحول الكبير بتوحيد الجزيرة العربية تحت حُكم عربي مستقل، أو بإعادة الحكم العربي المركزي للجزيرة العربية، مهد الحضارة ومنطلق الرسالة، وكان المنعطف الأبرز والعلامة الفارقة في تاريخ العرب وجزيرتهم خلال 10 قرون أو تزيد، هذا إذا استثنينا بعض السنوات والومضات التي لم يُكتَب لها الاستمرار.
المقاتلون المتطوعون
يقول المؤرخ الفرنسي فليكس مانجان (1772 - 1862) عن القوة العسكرية السعودية: «عندما امتدت فتوحات سعود (يقصد الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، 1161 - 1229هـ: 1748 - 1818م، إلى ما وراء صحراء نجد، كان لديه جيش كبير، وكان يمتلك تحت تصرفه سكان البلاد التي يحكمها، وأهل البلاد التي أخضعها، وكان قبل أن يسير في أي حملة يحدد الأقاليم التي ينبغي عليها أن تقدم المتطوعين». ومن هذا النص نستطيع أن نستخلص بعض العناصر والمقارنات والمقاربات... وهنا مفارقة، فالمملكة العربية السعودية أو الدولة السعودية في كل أطوارها توحدت على يد المتطوعين، وهذا بحث آخر ومفارقة نادرة في التاريخ، لماذا؟ لأن هؤلاء المتطوعين آمنوا بفكرة الدولة، ومشروعها. هذه الثنائية بين إنسان الأرض وقيادة البلاد التي حملت لواء مشروع إنسان الجزيرة هي التي صنعت هذه المعجزة.
الأمراء القادة
يواصل مانجان وصفه: «كان الأمراء يصدرون أوامرهم لتجنيد الناس في مناطقهم، وكان الذي يقود أولئك المتطوعين أحد الأعيان من كل مدينة ومن كل إقليم بنفسه إلى المكان الذي حُدد له. إنه قائدهم يقودهم مدة دوام الحرب، وكان جماعة كل إقليم يشكلون فرقة مستقلة تأتمر بأمر أميرها، الذي يسير في ركابه اثنان من الكتبة وإمام. الإمام تقتصر وظيفته على إقامة الصلوات في المعسكر، وهو في الوقت نفسه وسيط في المحادثات التي يمكن أن تجري، ولكنه نادراً ما كان يجد الفرصة لممارسة هذا الجانب من مهمته. يحمل كل محارب معه سلاحه ومؤونته وذخيرته، ويتلقى الفقير مساعدة الغني ليعد نفسه، ويتكفل الأغنياء بتوفير مستلزمات الحياة لأسرة ذلك الفقير، ويمكن لمن طلب منه الأمير الخروج للقتال أن يقدم بديلاً يجهزه بما يحتاج إليه، وإلا فهو مجبر على تقديم جمل أو حصان...». وهنا إشارة إلى الخيل والإبل ودورها في الجيوش.
التشكيل وتكتيك المعارك
يتابع مانجان في وثيقته: «لا يتلقى جنود المشاة أو الهجانة أي راتب. أما الفارس فله ولحصانه مخصصات شهرية، والغنائم تُقسَّم أقساماً متساوية بين أفراد الجيش كله، ويتساوى في هذه الحالة وحدها القائد مع الجندي، ويذهب خُمس الغنائم إلى بيت المال الذي ترفده أيضاً عوائد العشور والغرامات، وعندما يسير الجيش في الليل أو في النهار يُختار أولئك الذين يسيرون في الطليعة والمؤخرة من خيرة الفرسان، ينتظم الجيش في رتل واحد أو عدد من الأرتال، حسب الظروف، ويقود كل أمير أبناء المنطقة التي يحكمها (والأمير هنا إما أنه أمير بلدة ما أو أمير قبيلة وما إلى ذلك)، أما الفرسان والهجانة، فإنهم يسيرون على رأس الجيش وفي ساقته، ويسير في الوسط رجال المدفعية والمشاة الذين يمتطون الجمال، ويحمل كل جمل جنديين مع مؤنتهما». وعدا الجوانب المادية والتموين نلحظ هنا ما يمكن أن نطلق عليه اليوم «(سرايا الاستطلاع) وكذلك التشكيل القتالي للجيش».
إن «لجنود الدرعية ميزةً على غيرهم، وتؤول إلى زعمائهم القيادة في المدن على الدوام. يأكل السعوديون إبان الحملات التمور، وربما غمسوها في حليب النوق الذي يشربونه يومياً، وقلما يأكلون الخبز واللحم، ويتقدمون إلى ساحة المعركة مشاة، ويتركون جمالهم وهجنهم خلفهم يحرسها الخدم؛ فإذا كانت الغَلَبة لعدوهم أصبحت هذه الحيوانات بمثابة متراس يتحصن المقاتلون خلفه، وتتألف كل كتيبة من أبناء المنطقة نفسها يقودهم أمير المنطقة وزعماء القرى، وتكون الصفوف مزدوجة، وعندما يتضح أن الصف الأول قد أنهكه التعب أو كثرت فيه الإصابات يستبدل به الصف الذي وراءه، ويحملون جثث القتلى لدفنهم، وأنه لمن العار ألا يؤدي الأحياء هذا الواجب الأخير تجاه القتلى». وكأن مانجان يتحدث عن الأنساق الهجومية أثناء القتال.
الأسلحة وسر الليل
يمضي مانجان واصفاً جيش «ابن سعود»: «تنسحب القوات بانتظام في حال الهزيمة. وفي حالة النصر لا يطارد المشاة العدو المنهزم، ولكن الفرسان والهجانة يظلون يناوشونه حتى يبتعد مسافة معينة ترتفع خلال المعركة أصوات السعوديين تنادي: (الله أكبر)، أو بعض العبارات المشابهة».
وفي وصفه للسلاح يقول: «يتسلح جندي المشاة ببندقية ذات فتيلة اعتاد أن يحشوها بسرعة، وبخنجر مغمد في الحزام، وجعبة يضع فيها الطلقات، ويحمل الفارس رمحاً وسيفاً، ويحمل بعضهم مسدساً، ويحضّر كل جندي البارود الذي يستخدمه ويصفي ملح البارود الذي يُستخرج من الجبال. وعندما يعسكر الجيش، يختار كل جندي مكانه، ويكون القائد في وسط المعسكر، ويضرب الفرسان طوقاً حول خيمته، وتوضع مواقع من المشاة والفرسان على مسافة فرسخ (5 كيلومترات) من المعسكر، ولهم كلمة سر يتعارفون بها بالليل، ويبدَّل المرابطون في هذه المواقع كل 24 ساعة». وهنا نلحظ نظاماً للمناوبات.
أما عن حراسة القائد، فيقول: «يقوم بحراسة قائد الجيش حراس متميزون. يخلد الجنود إلى النوم في النهار، ولا نرى القوات إلا في أوقات الصلاة التي يؤدونها 5 مرات في اليوم. وفي الليل يصحو الجميع ويسمرون ويرتلون القرآن ويقصون الحكايات. وعند طلوع الفجر، وبعد صلاة الصبح، يهجع الجميع».
الجزاءات العسكرية
«نادراً ما تحدث مشاحنات وخصومات. إن النظام قاسٍ؛ فالزعيم الذي يخلّ بواجباته، والذي يأتي من الأفعال ما يجعل الآخرين يشكون منه يُزاح من منصبه، وفي بعض الأحيان تُفرَض عليه غرامة. أما عقوبة الجندي فهي القرع بالعصا، وعندما يكون الفعل الذي أتاه يستحق الموت يُقطَع رأسه وينال العقوبة نفسها إذا لاذ بالفرار أمام العدو. يتميز السعوديون بالقناعة ويصبرون على الجوع والعطش، وقد يقضون يومين بلا شراب ولا طعام، ولم تصدر عن أي منهم أي شكوى».
الملابس والمأكولات
وبما أننا نتحدث عن الجيش، فلعلنا نعرج على وصف الملابس، ومانجان نفسه حينما يصف ملابس ذلك الزمن يقول: «تتألف ملابس أهل نجد عموماً من سروال قطني وثوب، يلبسون فوقه العباءة، ويرتدي الموسرون فوق الثوب قفطاناً من الجوخ، ويغطي الجميع رؤوسهم بغطاء مصنوع من القطن مخطط بالأحمر والأخضر، ويُطوى غطاء الرأس على شكل مثلث، وهو موشّى في أطرافه بأهداب، وينحدر حتى الظهر والكتفين، وينتعلون نوعاً من الأخفاف لها رباطات جلدية تربط فوق القدم».
أما ما يتناولونه من مآكل ومشارب، فيقول مانجان: «وشُرْب القهوة متعة لا تدانيها متعة لديهم؛ يشربونها مخلوطة بالقرنفل والقرفة. والتمور والحليب غذاؤهم الأساسي: والخبز بالنسبة لديهم من الكماليات. وباستثناء لحم بعض الطيور لا يأكلون إلا لحم الغنم والماعز والغزلان».
ومن وصف مانجان لجيش الدولة السعودية وطريقته القتالية، يتبين أنه يصف جيشاً منظماً حتى وإن كان من المتطوعين. وإذا تمعَّنا في شكل أو نموذج القوة العسكرية السعودية منذ ستة قرون والملابس والمأكولات التي أوردها مانجان ووسائل النقل من خيل وإبل، يتضح أن هذه العناصر أو المكونات استمرت؛ بل وحتى المهام العسكرية لتلك القوات بقيت كما هي في أطوار الدولة السعودية الثلاثة؛ فبالإضافة للمهام القتالية، كانت تقوم بمهمات أمنية، مثل حماية القوافل والمدن والموارد.
القوة العسكرية في عهد الملك عبد العزيز
بدأت التنظيمات العسكرية تتطور في عهد الملك عبد العزيز، ويرى المؤرخ العسكري السعودي اللواء الدكتور إبراهيم بن عويض العتيبي، أنها «تحوَّلت من القوة التقليدية التي استمرت من دخول الرياض (1319هـ - 1902م) إلى نشأة الهجر لتوطين القبائل وتشكيل الإخوان (1330هـ - 1912م) كقوة شبه نظامية، وصولاً إلى بناء القوات النظامية بعد انضمام الحجاز (1344هـ - 1925م)؛ حيث تشكلت قوات الهجانة كقطاع عسكري. وسنحاول هنا تتبُّع مسار القوة الوريثة لجيش التأسيس؛ فبعد استقرار الأوضاع في الحجاز صدر أمر الملك عبد العزيز بتسريح المقاتلين المرابطين هناك وتشكيل قوة جديدة من فرقتين؛ إحداهما في مكة والأخرى في المدينة، وذلك عام 1345هـ - 1926م. كما تم تشكيل فرق أخرى في باقي مدن الحجاز عامي 1346 و1347هـ - 1927 و1928م، وتم إلحاق أعداد من المقاتلين المسرَّحين بوحدات الهجانة أو بالشرطة أو بغيرها من التشكيلات العسكرية. ووفقاً للوزير والمستشار فؤاد حمزة، فإن القوات العسكرية السعودية، عام 1350هـ - 1932م كانت تتشكل من الشرطة والعسة، وقوة الهجانة، والقوات النظامية (الجيش)، وخفر السواحل، وحرس الحدود، والقوة الجوية، والجند المرابط (المجاهدين). ويُلاحَظ أنه (في عام 1349هـ - 1930م) كان هناك (ديوان الجهاد) المرتبط بـ(ديوان جلالة الملك الخاص)، للنظر في أحوال أهل الجهاد ومراقبتهم ومراقبة سلاحهم وإبلهم وأعطياتهم، وأهل الجهاد هنا هم حَمَلة السلاح الرسمي، ويصفهم إبراهيم العتيبي بـ(المرابطين في الرياض أو في القرى القريبة منها في أماكن معلومة لا يبرحونها إلا بإذن من الملك شخصياً، وهم بمثابة القوة العسكرية الجاهزة للطوارئ). وبينما يرى بعض المؤرخين أنهم جزء من الإخوان، أرى غير ذلك، إذ إن بعض المصادر التاريخية أشارت إلى أن (حرس الملك وخدمه هم جزء من أهل الجهاد)، وسيظهر معنا أيضاً مسمى المجاهدين، وهذا قد يبرر اللبس الذي وقع فيه بعض المؤرخين في الخلط بين المسميات».
كانت التشكيلات العسكرية تتطور وفقاً لمراحل تطور الدولة وظروفها، لذا صدر قرار من مجلس الوكلاء في عام 1354هـ - 1935م بإلغاء قوة الهجانة كقطاع عسكري، ووُزّعت بعض وحداتها على القطاعات العسكرية الأخرى، مثل الشرطة والجيش، وأعيد تشكيل البقية تحت اسم «ألوية المجاهدين»، وتحول اسم «ديوان الجهاد» إلى ديوان أو مكتب الجهاد والمجاهدين، وظل تابعاً لديوان الملك الخاص،
حتى ألحق في عام 1383هـ - 1963 بوزارة الداخلية وأصبح اسمه الإدارة العامة للمجاهدين، ووفقاً للعتيبي: «تولى هذا المكتب الإشراف على جميع شؤون ألوية المجاهدين وتوزيعهم وصرف مرتباتهم وتنظيم وحداتهم وترتيب وظائفهم وسجلات أسلحتهم، وتحوَّلت هذه الألوية إلى قوات احتياطية تتولى بعض المهمات، مثل حراسة بعض المنشآت والمشاركة في الحج ومع دوريات حرس الحدود. وهناك الكثير من التفاصيل حول هذه التطورات لا يتسع المجال لذكرها، لكن المؤرخ العسكري السعودي اللواء الركن خالد بن ناصر بن مرعيد يشير إلى أن ألوية المجاهدين (تحول اسمها إلى «الأفواج») تولَّت حماية خط التابلاين، إضافة إلى المشاركة في تأمين الحدود. ويؤكد الدكتور عبد العزيز بن نايف بن عبود أمير الفوج الأول في الحرس الوطني أن الفوجين الأول والثاني تأسسا بأمر من الملك عبد العزيز (رحمه الله)، في شهر محرم 1372هـ - سبتمبر (أيلول) 1952م، وكان مقرهما في الشميسي بين مكة وجدة، ثم انتقل الفوج الأول إلى بحرة (جنوب شرقي جدة) والفوج الثاني إلى الشرائع (شرق مكة).
الحرس الوطني نموذج لبناء الدولة
كانت نقطة التحول الكبرى بتحويل ألوية المجاهدين إلى مؤسسة عسكرية وتسميتها «الحرس الوطني» في عهد الملك سعود، ويحتاج التأريخ لنشأة لحرس الوطني وتطوره كمؤسسة عسكرية بهذا الاسم، خصوصاً في مراحله الأولى، إلى تتبُّع دقيق؛ فما زالت هناك صفحات غائبة في تاريخه. كما أن هناك زوايا مهمة تتعلق بالحرس الوطني كأنموذج لم تحظَ بما تستحقه من الدراسة والتوثيق: أولها أن الحرس الوطني مع الإدارة العامة للمجاهدين بوزارة الداخلية هما اليوم امتداد القوة العسكرية السعودية الأولى، إذا نظرنا إلى خصائصها ومواصفاتها وتوصيفاتها، بل وحتى مهامها المختلفة. وهذه نستطيع أن نجدها في بدايات وتكوين الحرس الوطني؛ فهي نفسها التي بدأت قبل ثلاثة قرون.
النقطة الثانية التي لم يُتطرق لها: أن الحرس الوطني يُعد نموذجاً من نماذج بناء الدولة التي بُنيت وفق نموذج سعودي مستقل. فالمملكة العربية السعودية لم يكن فيها مستعمر، ولم تنشأ وفق نماذج مستوردة، فكان هناك سعي لإيجاد النموذج المحلي (السعودي)، يؤكد ذلك ما ورد في المذكرة الإيضاحية التي أعدتها وزارة الخارجية في المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها عن الوضع العسكري والقوى المحاربة، وقدمها الوزير المفوّض في لندن، حافظ وهبة، إلى السكرتير العام لعصبة الأمم، السير إيرك روموند، في مؤتمر نزع السلاح بجنيف (1350هـ - 1932م)، وكان ذلك قبل إعلان توحيد البلاد وتسميتها «المملكة العربية السعودية». من بعض ما ورد في تلك المذكرة يمكن أن نستخلص الكثير عما أقصده بـ«النموذج السعودي»:
«...كما أن الأحوال الطبيعة والاجتماعية في هذه البلاد أحوال خاصة تكاد تكون هذه البلاد مستقلة بها، فكذلك التشكيلات العسكرية؛ فإنها تشكيلات خاصة لا تشابه ما هو معروف في الدول المعاصرة، ولكنها على كلّ تشكيلات أساسها طبيعة البلاد وأحوال سكانها، وعمادها الشكل الأكثر انطباقاً على خواص البادية وعلى موارد البلاد الضئيلة، وهي أيضاً مرتبطة بالوقت القصير الذي انقضى على قيام هذه الحكومة بشكلها الحاضر، ومتصلة بما ورثته عن الحكومات السابقة من عتاد وتشكيلات محدودة. وليس من شك في أن إحداث تشكيلات عسكرية لحفظ النظام الداخلي فقط في هذه البلاد الشاسعة على أساس التشكيلات المتبعة في الدول المعاصرة أمر يستغرق ميز