خبر ⁄سياسي

سعوديو الدولة الأولى يثيرون الرعب بنفوس العثمانيين في أنحاء آسيا

سعوديو الدولة الأولى يثيرون الرعب بنفوس العثمانيين في أنحاء آسيا

حقق الإمام محمد بن سعود بعد رحلة كفاح استمرت أربعين عاماً، وهي مدة حكمه، منجزات لافتة، تمثلت في تأسيس الدولة السعودية الأولى، التي تعد أول دولة مركزية في الجزيرة العربية، ونشر الأمن وحقق العدل والاستقرار في ربوعها، كما نظم أمور الدولة السياسية والاقتصادية والتعليمية والعمرانية، وتأمين طرق الحج والتجارة، والتصدي للحملات المعادية للدولة الوليدة، لكنه آثر بشكل مؤقت ألا يستعدي القوى الكبرى لضمان نجاح مشروعه الكبير في بناء دولة مركزية، وحمايتها من القوى الأخرى في المنطقة، والتطلع إلى طرد العثمانيين وولاتهم من المناطق العربية، وبعد وفاته عام 1765، واصل أبناؤه وأحفاده السير في الحفاظ على مكتسبات الدولة، وتوسيع نفوذها، وقطع دابر أعدائها، لتبلغ أقصى مدى لها، وتصل حدودها إلى إمارات ساحل الخليج العربي وعمان شرقاً، وإلى أجزاء من اليمن جنوباً، وأجزاء من العراق وبلاد الشام شمالاً.

ووضع الأئمة السعوديون خططاً، وقادوا توجهاً للقضاء على النفوذ الأجنبي في الأراضي العربية، الذي يهدد وجود دولتهم ومصالحها، إضافة إلى الحضور العروبي عندهم وحرصهم على التخلص من المحتل الأجنبي لأراضٍ عربية. وبرز هذا التوجه السعودي خلال مواجهات مع الفرس والعثمانيين لتحقيق هذه الأهداف.

الباحثة الدكتورة جواهر بنت عبد المحسن بن جلوي آل سعود كشفت في حوار مع «الشرق الأوسط» طبيعة هذا التوجه في الدولة السعودية الأولى، وما صاحبه من أحداث وتطورات للقضاء على الوجود الأجنبي في الأراضي العربية، تحديداً في كل من العراق وسوريا، وجاء الحوار كما يلي:

ما هو موقف الأئمة السعوديين من الوجود العثماني في الولايات العربية؟

في الوقت الذي كانت تنتشر فيه مراكز للحكم العثماني في الولايات العربية، التي تهدف إلى ربط تلك المناطق بالتبعية للدولة العثمانية والقضاء على أي تحرك ينادي باستقلال العرب، كان ظهور نشاط الأئمة السعوديين الذين لعبوا دوراً مهماً في أحداث تلك الحقبة، في محاولة تخليص العرب من الهيمنة العثمانية لتكوين دولة إسلامية عربية حرة.

كان الإمام محمد بن سعود يدرك موازين القوى، لهذا تحاشى استعداء القوى الكبرى في المنطقة مؤقتاً حتى يشتد عود دولته، حرصاً منه على نجاح مشروعه في مرحلته الأولى، التي بعدها سيعمل على الانطلاق لطرد العثمانيين من الأراضي العربية.

لم تكن وفاته عام 1179هـ/ 1765م نهاية لمشروعه التقدمي، فقد كان ابنه الإمام عبد العزيز مدركاً لأهداف والده وسعيه الحثيث، ولهذا كان عازماً على مناطحة القوى الاستعمارية في المنطقة. فبدأ تحركه نحو الحجاز غرباً، والخليج في الشرق، والعراق والشام في الشمال، وجنوباً عمان واليمن في آن واحد. وأكدت الوثائق البريطانية تقدمه عبر الساحل الشرقي للخليج وصولاً إلى إقليم بر فارس البحري، الذي انتزعه إلى غير رجعة من الحكم الفارسي، حتى نجح في تغيير موازين القوى، مما ترتب عليه تواتر التحذيرات من الولايات العربية العثمانية إلى السلطان العثماني، مؤكدةً تنامي نفوذ الإمام السعودي.

مقتل تجار نجديين يثير أزمة سعودية فارسية

ما هي أهم العلامات الفارقة في العلاقات السعودية الفارسية في عهد التأسيس الأول؟

تعددت الحملات العثمانية بأوامر السلطان العثماني بهدف القضاء على النفوذ السعودي، وكان إحداها حملة علي باشا على الدرعية عام 1799، التي انتهت بعقد هدنة مع السعوديين تنص على عدم الاعتداء من قبل الطرفين. إلا أنه في العام التالي، تم قتل ثلاثمائة من التجار النجديين في النجف بطريقة وحشية، فجاءت تلك الحادثة لتشعل فتيل أزمة سعودية فارسية أثارت مخاوف سليمان باشا والي بغداد؛ لإدراكه أن الإمام عبد العزيز لن يفوت مثل هذه الفرصة للقضاء على النفوذ العثماني في العراق. لهذا سارع بتأديب المعتدين في محاولة لإرضاء الإمام السعودي، الذي كان هذا الهجوم سبباً كافياً لعدم التزامه بالهدنة، رغم محاولات والي بغداد للحد من تفاقم الأزمة معه. وذكرت تقارير وزارة الخارجية الفرنسية أن الإمام عبد العزيز أوفد رُسله على عجل إلى سليمان باشا والي بغداد يطالبه بالقصاص من المذنبين، الذي لم يكن لوالي بغداد مقدرة على تنفيذه خشية فتح جبهة جديدة مع الفرس، مما دفع سليمان باشا والي بغداد إلى إرسال مبعوث إلى الإمام السعودي لمفاوضته بقبول الدية. وأشار التقرير الفرنسي إلى رد فعل الإمام السعودي الذي ضحك وقال: «أما كفى والي بغداد أننا تاركوه يحكم بغداد؟ والله عن قريب ترى جميع غربي الفرات لنا وشرقيه له»، مما يؤكد النيات السعودية بطرد العثمانيين من الأراضي العربية. أما الوثائق العثمانية فقد أكدت ربط الإمام السعودي تجديد الهدنة بالحصول على منطقة الشامية الممتدة من مقاطعة عنّة (الأنبار) حتى البصرة، ويعد ذلك أمراً تعجيزياً، مما يوضح أن الدرعية لن تتجاوز هذه الأزمة بالسهولة التي توقعها والي بغداد.

هجمات سعودية للقضاء على النفوذ العثماني

ما هي الإجراءات التي اتخذها الإمام عبد العزيز بن محمد تجاه تلك التطورات؟

جرّد الإمام عبد العزيز قوة تزيد عن عشرة آلاف مقاتل تحت قيادة ابنه سعود، وفي 20 أبريل (نيسان) 1801 انطلقت سلسلة من الهجمات السعودية المتتالية بهدف تقويض النفوذ العثماني الفارسي في الأراضي العراقية، مما أثار مخاوف السلطان سليم الثالث من فقد ولاية بغداد.

حداد فارسي ولوم عثماني

من خلال قراءتك لتلك الأحداث كيف تصفين رد الفعل الفارسي عليها؟

استشاط الشاه الفارسي غضباً على جرأة السعوديين وتخاذل السلطات العثمانية، وأعلن الحداد لأربعين يوماً بعد أن تجمهر الفرس مطالبين بالانتقام من السعوديين.

تزامن ذلك مع انتشار الشائعات في فارس حول التقدم السعودي، مما دفع شاه فارس لإرسال رسالة أخرى يلوم فيها السلطات العثمانية على تباطؤها في اتخاذ إجراءات فعلية لإيقاف هجمات السعوديين.

إرباك سعودي للباب العالي

ما هي الإجراءات التي اتخذتها السلطات العثمانية لاحتواء الأزمة السعودية الفارسية؟

أكدت الوثائق العثمانية أن السلطات العثمانية كانت تبذل قصارى جهدها للحد من نفوذ الإمام عبد العزيز في ولاياتها العربية في العراق والحجاز وبلاد الشام، وتعمل على قدم وساق للحد من تفاقم الأزمة السعودية الفارسية، التي قد تلقي بظلالها على العلاقات الفارسية العثمانية رغم الإجراءات التي اتخذتها لإرضاء الشاه الفارسي، مع إدراكها أنها لن تَسْلَم من مكر ودسائس الفرس التي تستوجب التيقظ والحذر المستمر، مما سبب إرباكاً في الباب العالي. وتواردت الرسائل وعقدت الاجتماعات، وصدرت الأوامر بتحصين الولايات العثمانية خوفاً من التقدم السعودي، الذي قد ينتهي بسقوط العراق بأكمله في أيديهم، بعد أن فتحت تلك الأزمة باب العداء السعودي الفارسي.

الإمام سعود بن عبد العزيز

في خضم تلك الأحداث، أكدت الوثائق العثمانية إرسال سليمان باشا والي بغداد خطاباً للسلطان العثماني يؤكد استمرار اضطراب الأمن في العراق، وظهور بوادر مخيفة بشأن شاه فارس، مما قد يؤدي إلى اتخاذ تلك الحادثة ذريعةً لنقض العهد المبرم مع الدولة، خاصةً لما عرف عنهم منذ القدم بنقض العهود عند استشعارهم القوة. وقد زاد التحرك الأخير للأمير سعود بن عبد العزيز من تأجج غضب الشاه الفارسي الذي تصرف وكأن القطر العراقي من أملاكه، مما أثار حفيظة السعوديين، الذين يعتبرون أنها أراضٍ عربية، وساهم ذلك في إشعال نار العداء بينهما. ورغم سعي والي العراق الحثيث لإطفاء شرارة هذه الفتنة بكل الطرق، فإنه لم يحقق أي تقدم بهذا الشأن، مؤكداً أنه ليس له قِبَل بمواجهة الشاه الفارسي أو الإمام السعودي، وبدأ بالاستعداد لمواجهتهما كخطر يهدد النفوذ العثماني في العراق.

مخاوف من استيلاء السعوديين على العراق

ما هي السبل التي اتخذها والي بغداد لإدارة الأزمة السعودية الفارسية؟

كان تكليف سليمان باشا والي بغداد لإدارة هذه الأزمة قد جعله في موضع لا يحسد عليه. ومما يبدو أن الشاه الفارسي قد أصر على عدم إقفال ملف تلك القضية أو تركها تمر بسلام، واستمر مبعوثوه بالوفود حتى أبلغ والي بغداد في عام 1802 بأنه ينوي الانتقام من السعوديين الذين لن يتراجعوا عن التقدم نحو أهدافهم، مما دفع سليمان باشا والي بغداد لتقديم اقتراح للسلطات العثمانية، مطالباً بتحرك دبلوماسي عن طريق إرسال مبعوث رسمي إلى الشاه الفارسي ليقطع الطريق على أي تحرك عسكري من قبله. كما نصح بـ«السعي الحثيث للقضاء على الإمام السعودي بعد الجرأة التي اتسم بها نتيجة قوة نفوذه وشهرة صيته، مما يصعب التخلص منه. وشدد على أنه إن لم يتم إيقافه والحد من نشاطه في وقت قريب، فإنه سوف يقوم بالاستيلاء على العراق».

كان وصول تقارير تشير إلى اتساع هيمنة الإمام السعودي وازدياد أتباعه بشكل غير مسبوق، قد أدى إلى تعذر مواجهته. لهذا جنحت السلطات العثمانية إلى استخدام الدبلوماسية عن طريق إرسال خطاب ودي، تنصح فيه الإمام السعودي بعدم إثارة العنصر الفارسي. وتعد هذه المرحلة منعطفاً جذرياً في مسار السياسة الخارجية العثمانية تجاه القوة السعودية التي أصبح وجودها واقعاً سياسياً زاد من إرباك السلطات العثمانية ووضعها أمام مشكلتين رئيسيتين: الأولى التعاطف العثماني مع القضية الفارسية مقابل عدم تحرك السلطات العثمانية، خصوصاً وأن ضغط الرأي العام الفارسي قد أعطى الشاه فرصة لتحرك جاد إزاء النشاط السعودي، مما طرح فكرة أن تجتاز فارس الأراضي العراقية العثمانية لمعاقبة السعوديين. وقد حذر السفير العثماني في فارس حكومته حول هذا الشأن، بعد أن توقع أن الشاه سوف يهاجم السعوديين بعد العودة من خراسان. وقد أكد هذا حشد واستنفار جميع قواته. بالإضافة إلى أنه بعث رسالة تهديد إلى الإمام عبد العزيز بأن «سنابك خيل فرسانه سوف تذرو تراب الدرعية في فصل الشتاء».

أما المشكلة الثانية، فتكمن في معاناة سليمان باشا، والي بغداد، من عدم قدرته على توقع تحركات الإمام عبد العزيز المستقبلية وازدياد نفوذه، الذي كان يرحب بفكرة قضاء الفرس عليه، ولكنه يعارض عبور الفرس من خلال الأراضي العراقية. ورغم ذلك، اجتهد سليمان باشا والي بغداد في إرضاء الشاه الفارسي عن طريق تجريد حملة على الدرعية في عام 1802، غير أنها فشلت كسابقاتها. في تلك الأثناء تلقى سليمان باشا والي بغداد رسالة من الشاه الفارسي مليئة بالتوبيخ، عبر له فيها عن سخطه من فشل الحملة في القضاء على نفوذ الدرعية، وهدده بأنه سيتولى بنفسه إرسال جيش عرمرم لإبادة السعوديين. ورغم محاولة والي بغداد الاعتذار للشاه الفارسي، ووعده بمتابعة النشاط السعودي بحزم، فإن تلك التطمينات لم تلق أي أثر لدى الشاه الفارسي. في وقت كان فيه الإمام عبد العزيز يواظب على مواصلة مخططه الطموح في طرد العثمانيين من الأراضي العربية والقضاء على النفوذ الفارسي في العراق. وقد انعكست تلك الهزيمة على مكانة سليمان باشا، والي بغداد، مما أدى إلى اعتلال صحته ووفاته في 1802.

الإمام عبد الله بن سعود

في هذا الإطار، ذكر القنصل البريطاني في بغداد في تقريره عام 1803 أنه «من غير المتوقع أن يستطيعوا مجابهة القوات السعودية التي يقدر عددها بمائة ألف مقاتل يحملون السيوف، ويرون أن الموت في سبيل قضيتهم هو الشهادة التي يتطلعون لها، لهذا فإن فكرة إخضاعهم أمر مستبعد ولم يشهد التاريخ بإمكانية حدوثه». وقد أيده في الرأي السفير الفرنسي في بغداد في تقريره عام 1804، حين ذكر أنه «في حال استمرار الشاه الفارسي ووالي بغداد بعدم التحرك لعقد الصلح مع السعوديين واتخاذ الإجراءات اللازمة لكبح طموحهم وجرأتهم، فمن المؤكد أنهم لن يبقوا طويلاً دون جلب المتاعب والخراب للعثمانيين والفرس في مناطق نفوذهم»، وأنه «من الصعب التعامل مع هذه الطائفة التي تزدري الموت بما يكفي للذهاب لمواجهته».

أما علي باشا، والي بغداد الجديد، فقد بعث بتقارير للسلطان سليم الثالث تؤكد أن استمرار امتداد نفوذ الإمام السعودي قد أثار غضب الفرس، وأدى إلى اضطراب مزاجهم. لهذا كان من الضروري تهدئة روعهم قبل اتخاذهم أي إجراء يمس مصالح الدولة العثمانية. ونتيجة لعدم جدوى تلك الإجراءات الدفاعية ضد المد السعودي، نصح علي باشا والي بغداد بأهمية وضرورة معرفة مخططات الإمام السعودي وفتح باب الحوار مع الدرعية. وبعد لقاء المبعوث العثماني بالأمير سعود وسؤاله عن سبب هجومه، رد الأمير «أنهم ضاقوا ذرعاً بتعديات والي بغداد وحملاته التي لا تتوقف ضد الدرعية، وحصار الأحساء، وأخيراً مقتل التجار النجديين»، مؤكداً أن «الاستيلاء على بغداد أمرٌ يسير، ولكن لعدم إيصال الكدر لقلب السلطان، صرفنا النظر عن ذلك، واكتفينا بما قمنا به».

وأردف قائلاً: «لو كان السلطان يعلم أحوال العجم وتصرفهم هذا لاستحسن فعلنا هذا معهم، وإذا خطر على بال السلطان أن العجم من الممكن أن يتعرضوا على الممالك السلطانية، فأنا أتكفل بمساعدة الدولة العلية في دفع ضرر العجم دون طلب مني».

وقد حمل ذلك التصريح شيئاً من التهكم بمدى سهولة الاستيلاء على بغداد، والقوة التي تؤهل الإمام السعودي لمساعدة السلطان العثماني في الدفاع عن أراضيه ضد الفرس. كما كشف عن ازدواجية السياسة السعودية، التي طردت العثمانيين من مكة المكرمة ومستمرة في مهاجمة القوات العثمانية في أرجاء الجزيرة العربية والشام، وتعرض في الوقت نفسه تقديم المساعدة لهم ضد الفرس، مما يوضح موقفها من النفوذ الفارسي في الأراضي العربية.

استمرت الهجمات السعودية على الحدود العراقية مثل البصرة