خبر ⁄سياسي

السودان: تعديلات دستورية تقضي على أحلام الدولة المدنية

السودان: تعديلات دستورية تقضي على أحلام الدولة المدنية

عاين- 25 فبراير 2025 

بعد انتصار ثورة ديسمبر 2019 في السودان والتي أنهت حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، توافق المدنيون والعسكريون على وثيقة دستورية كأساس للحكم المدني في البلاد، لكن سرعان ما تبدد حلم المتظاهرين بعدما أصبحت الوثيقة قاعدة لتوطيد أركان سلطة عسكرية قابضة.

تروي فترة خمس سنوات قصة تحول في الوثيقة الدستورية بفضل الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على الحكومة الانتقالية المدنية في أكتوبر 2021، وحرب 15 من العام قبل الماضي، وما صاحب ذلك من تعديلات في نصوصها نسفت آمال السلطة المدنية، وأدت إلى عسكرة الدولة.

وخضعت الوثيقة الدستورية منذ وضعها في العام 2019 إلى التعديل 3 مرات، الأول كان بعد توقيع اتفاق جوبا للسلام في السودان في العام 2020م، إذ ضُمِّنَت بنود الاتفاق لتكون جزءا من الدستور ولضمان مشاركة الحركات الموقعة عليها في الحكم الانتقالي.

أما التعديل الثاني كان بعد انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، والذي جمد خلاله البنود التي تتعلق بالشراكة مع قوى الحرية والتغيير، والخاصة بلجنة التحقيق في فض الاعتصام أمام قيادة الجيش في الخرطوم، والذي نتج عنه مقتل وجرح مئات المتظاهرين السلميين، إلى جانب بعض النصوص الخاصة بتعزيز الحريات العامة وسلطة فرض حالة الطوارئ وإعلان الحرب.

حكم رئاسي

وبعد نحو عامين من حرب مدمرة في السودان، أجرت السلطة التي يقودها الجيش من بورتسودان، ثالث تعديل على الوثيقة الدستورية يعتبر الأكبر لما تضمنه من تبديل جوهري في بنود الوثيقة، إذ تم تعزيز سيطرة العسكريين على السلطة، بمنحهم 6 أعضاء في مجلس السيادة من أصل 9 أعضاء بما في ذلك رئيس المجلس، وفق التعديلات المنشورة في الجريدة الرسمية، واطلعت عليها (عاين).

تغيير نظام الحكم إلى رئاسي، والحكم بالدين الإسلامي، وتعزيز نفوذ العسكريين، وإعادة سلطات جهاز الأمن والمخابرات، وفك حظر حزب المؤتمر الوطني، أبرز تعديلات الوثيقة الدستورية

وقضت التعديلات إلى تحويل نظام الحكم من برلماني تتركز فيه صلاحيات السلطة في يد رئيس الوزراء، إلى نظام رئاسي قابض تكون فيه السلطة لرئيس مجلس السيادة الذي وسعت الوثيقة الدستورية المعدلة صلاحياته لتشمل سلطة تعيين رئيس الوزراء وعزله، والتحكم في ملف العلاقات الخارجية.

ونصت الوثيقة الجديدة على أن ن جهاز الأمن والمخابرات يختص بالأمن الداخلي والخارجي، وذلك بما يتناسب مع تعديلات التي أدخلتها الحكومة التي يقودها عبد الفتاح البرهان في وقت سابق من اندلاع الحرب، تقضي بإعادة صلاحيات الاعتقال والاحتجاز إلى الجهاز، بخلاف الوثيقة الدستورية الأولى والتي حصرت صلاحياته في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها إلى جهات الاختصاص.

وإلى جانب ذلك أعطت التعديلات على الوثيقة الدستورية، سلطة الجيش الحالية حق الاستمرار في الحكم لمدة ثلاث سنوات قادمة من خلال فترة انتقالية مدتها 39 شهراً تبدأ من تاريخ التوقيع على التعديلات الذي تم في فبراير الجاري، وبذلك يكون عبد الفتاح البرهان قد أمضى 8 سنوات في حكم السودان دون انتخابات وتفويض من الشعب.

وأعادت التعديلات حزب المؤتمر الوطني الذراع السياسي للحركة الإسلامية، والذي كان جُمِّد نشاطه السياسي بعد إسقاط الثورة الشعبية رأسه عمر البشير، كما جعلت الدين الإسلامي مصدراً للتشريع والحكم، والعربية لغة رسمية للدولة.

كما قضت التعديلات بحذف اسم شريك الجيش السابق في السلطة وميادين القتال، قوات الدعم السريع من الوثيقة الدستورية، مثلما فعل قائد الجيش عبد الفتاح البرهان عقب انقلابه، إذ جمد كل ما يتصل بتحالف الحرية والتغيير، وبذلك تكون الوثيقة فقدت جميع شركائها، بما في ذلك شركاء اتفاق جوبا للسلام في السودان، باستثناء مالك عقار الذي قرر الاستمرار مع القوات المسلحة.

لا  قيمة قانونية للوثيقة الدستورية التي انتهت مع انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان على الحكومة الانتقالية، وما تم من تعديلات يكرس السلطة في يد المؤسسة العسكرية

 مدني عباس

ومع خروج كل شركاء الوثيقة الدستورية، برزت تساؤلات في المشهد السوداني، حول إصرار الحكومة التي يقودها الجيش على الاستمرار في تأسيس سلطتها على الوثيقة، ومدى مشروعيتها.

ويرى السياسي السوداني مدني عباس مدني عدم وجود قيمة قانونية للوثيقة الدستورية، فهي كانت لفترة زمنية محددة، وانتهت بانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، فلا قيمة لها طالما أطرافها الأساسيين لم يكونوا جزءاً منها”.

ومدني عباس هو وزير سابق في السلطة الانتقالية التي أطاح بها عبد الفتاح البرهان، وشارك في المفاوضات التي أفضت إلى الشراكة بين المدنيين والعسكريين عقب نجاح ثورة ديسمبر في الإطاحة بالرئيس المخلوع عمر البشير.

ويقول عباس في مقابلة مع (عاين): إن “سلطة البرهان تصر على العمل بالوثيقة الدستورية؛ لأنها غير معترفة بالانقلاب، وتسميه إجراءات تصحيحية، ولم تقر بتخريب الدستور الذي أقسمت على حمايته، لما يترتب على مثل هذا الاعتراف من جريمة تعرضهم للإدانة، لذلك آثروا الاستمرار في المسار الدستوري الذي أوجد شرعيتهم”.

ويضيف: “ما يجري الآن ليس دستوراً، وإنما هي وثيقة جديدة، ويمكن تسميتها وثيقة الحرب، إذا اسمينا التعديلات الأولى بوثيقة الانقلاب، فليس لها أي سند قانوني”.

وبفضل هذه التعديلات لم يتبق من الوثيقة الدستورية غير اسمها تقريباً، فهي كرست السلطة في يد المؤسسة العسكرية، وهو ما يجافي مبادئي ونظام الوثيقة الدستورية الأولى، والذي كان ينص على دولة برلمانية تعطي صلاحيات الحكم إلى رئيس الوزراء، وفق مدني عباس الذي نبه كذلك إلى أنه من خلال التجربة كانت هناك العديد من الإشكاليات خاصة في ظل تبعية القوات المسلحة والأجهزة النظامية الأخرى ما عدا الشرطة، إلى المكون العسكري مما أحدث خللاً في تحكيم النظام البرلماني، لكن ما يتم من تعديلات الآن يهدف في الأساس إلى حكم أشبه بالنظام الرئاسي.

تفتيت السودان

تتحول الوثيقة الدستورية لتثبت أركان الحكم العسكري بعدما كانت أحلام ثوار ديسمبر معلقة بها لتأسيس للدولة المدنية، وربما تشكل أساسا للقمع بعد إعادة سلطات جهاز الأمن وحزب المؤتمر الوطني، وهو تغير يكشف ملامح دولة ما بعد توقف الحرب المستمرة لما يقارب العامين بين الجيش وقوات الدعم السريع.

تضمن التعديلات على الوثيقة الدستورية قضايا ذات طابع أيديولوجي لجماعة الإسلام السياسي فيما يتصل بمصادر التشريع واللغة الرسمية يعزز توجهات تقسيم السودان

 ماهر أبو الجوخ

ويشير المحلل السياسي ماهر أبو الجوخ، إلى أن رفع الحظر والمنع عن حزب المؤتمر الوطني في تعديلات الوثيقة الدستورية الحالية، يعني تدشين رسمي للدور السياسي للحزب المحلول، مما يجعل الإبقاء على النصوص التي تتحدث عن تفكيك النظام البائد ومحاسبة منسوبيه على الجرائم التي ارتكبوها في حق السودانيين، مجرد نصوص بلا قيمة هدفها تزيين الوثيقة.

ويقول أبو الجوخ في مقابلة مع (عاين): إن “الوثيقة المعدلة أقحمت قضايا ذات طابع أيديولوجي مرتبطة بالتوجه الأيديولوجي لجماعة الإسلام السياسي سبق أن تجاوزت في وثيقة 2019م في ما يتصل بمصادر التشريع واللغة الرسمية، وخطورة إثارة هذه القضايا مجدداً في ظل واقع الانقسام والتشظي الناتج عن الحرب وتعمق وتمدد خطاب الكراهية أنها فعلياً تعزز التوجهات الداعية لتقسيم وتفتيت السودان”.

متظاهرون في الخرطوم - عاين

ويضيف: “أُبْعِدَت الأطراف الأساسيين، لكن المدهش أن الحزب المحلول الذي أسقطته الثورة بات هو ضمن الأطراف التي أدخلت يدها في إعادة صياغة الوثيقة الدستورية، وبالتالي باتت فعلياً لا تعبر إلا عن الجهات التي صاغتها وعدلتها ولم يتبق منها سوى اسمها بعد تحريف نصوصها وإفراغها من مضامينها المرتبطة بشعارات ثورة ديسمبر”.

وشدد أن التركيبة التي أقرتها الوثيقة المعدلة، والتي يغيب عنها أي تمثيل مدني في مجلس السيادة وحجم السلطات الواسع لمجلس السيادة وتجريد رئيس الوزراء من أي سلطات فعلية وتحويله لمجرد “موظف برتبة رفيعة عند مجلس السيادة” لا يتوافق مع التوجهات الثورية، ويقود فعلياً لتأسيس حكم شمولي بصبغة دستورية.

مخطط سابق

وكشف ماهر عن مطالبة سابقة للبرهان عند تعديل الوثيقة لتضمين اتفاق جوبا في العام 2020، بحذف كلمة نظام برلماني، وجعل الأمر دون تحديد، وهو الآن نفذ مخططه بالتحول إلى نظام رئاسي، حتى يتسنى له أن يصير رئيس جمهورية، وأتوقع أن يتم ذلك خلال الفترة القادمة.

التعديلات تأتي ضمن مخطط الحركة الإسلامية لإعادة حكمها، ونفذها البرهان لتحقيق الشرعية التي يبحث عنها

 محلل سياسي

وليس ببعيد من ذلك، يرى المحلل السياسي صلاح حسن جمعة أن التعديلات الحالية على الوثيقة الدستورية هي ضمن مخطط الحركة الإسلامية لإعادة حكمها في السودان، من خلال تمديد الفترة الانتقالية، لتعقبها انتخابات صورية تشرعن لسيطرتها مجدداً على مقاليد السلطة.

ويقول جمعة في مقابلة مع (عاين): “انتهت صلاحية الوثيقة الدستورية التي انقلب عليها عبد الفتاح البرهان أكثر من مرة، فهو يريد عسكرة السلطة منذ صعوده إليها، لكن هذه التعديلات بلا قيمة، ولن تمنحه الشرعية التي يبحث عنها”.

الوثيقة الدستورية ليست تعاقداً خاصاً، وإنما دستور للفترة الانتقالية وواجب على جميع سلطات الدولة إنفاذها

الخبير القانوني نبيل أديب

لكن الخبير القانوني نبيل أديب لديه رأي مختلف، إذ يقول لـ(عاين): إن “الوثيقة الدستورية هي دستور الفترة الانتقالية، وهي ليست تعاقداً خاصاً بين طرفين؛ وبالتالي فهي ملزمة لجميع السلطات في الدولة، ولا يجوز لأي من تلك السلطات الخروج عليها سواء وقعت عليها أم لم توقع؛ لأن إلزاميتها بالنسبة لتلك السلطات لم تأت من توقيعها عليها بل من صدورها من السلطة التأسيسية”.

وشارك أديب في كتابة الوثيقة الدستورية الأولى مع قانونيين سودانيين آخرين بعد نجاح ثورة ديسمبر في الإطاحة بنظام عمر البشير، كما أسندت له رئاسة لجنة التحقيق في فض الاعتصام السلمي أمام قيادة الجيش بالخرطوم، والذي قتلت خلاله القوات العسكرية مئات المدنيين العزل، وجمد البرهان عمل هذه اللجنة عقب انقلابه العسكري، وحُلَّت نهائياً في التعديلات الأخيرة.

اكتساب السلطات

وبشأن استمرار العمل بالوثيقة الدستورية، قال نبيل أديب إن “الحاكم لا يقرر المبادئ الدستورية، بل يكتسب سلطاته منها؛ ولذلك فإن مسألة خضوع البرهان للوثيقة الدستورية ليست مسألة خيار إذا شاء خضع لها، ولو لم يشأ له أن يتركها”.

وشدد أنه “في واقع الأمر لم يدخل البرهان أي تعديلات على الوثيقة الدستورية، بل الذين فعلوا ذلك هم أسلافه في تعديل (الحرية والتغيير) الذي أصدره المجلس المشترك لإدخال اتفاق جوبا في الوثيقة، وهو تعديل في نظري باطل، وطعنت فيه في المحكمة الدستورية، وما زال قيد النظر أمامها”.

ويضيف: “قرارات البرهان في 25 أكتوبر 2025 فهي لم تعدل الوثيقة الدستورية، لكنها جمدت بعض بنودها، وهذا التجميد في نظري يكتسب أثره من الوقائع السياسية، إذ إن المواد المجمدة كانت تتعلق بسلطات الحرية والتغيير، والتي في الواقع فقدت تكوينها الذي منحت بموجبه تلك السلطات من حيث إنها لم تعد تضم القوى المدنية التي قادت الثورة بعد الانقسامات العديدة التي وقعت بين مكوناتها؛ مما يستوجب تعديل تلك المواد لتكوين هياكل السلطة”.

3ayin.com