خبر ⁄سياسي

الحاج عبد الله.. مدينة تعود للحياة  

الحاج عبد الله.. مدينة تعود للحياة  

عاين- 8 مارس 2025  

بعدما عاشت عاماً كمدينة أشباح تغطيها رائحة الموت وشتى الانتهاكات، بدأت منطقة الحاج عبد الله في ولاية الجزيرة أواسط السودان، تنهض من بين ركام الحرب، وعادت الحياة بشكل تدريجي إلى المدينة التي تتميز بطابعها الاقتصادي والعمالي.

وعلى مدى عقود كانت الحاج عبد الله الوجهة الأولى للعمال من مختلف أنحاء السودان، لكسب الرزق من الزراعة والمصانع خاصة تلك التي تعنى بالغزل والنسيج، وحتى الأعمال التجارية نظرا لوقوع المدينة على طريق الأسفلت الحيوي الرابط بين ود مدني إلى سنار وإقليم النيل الأزرق، وولاية النيل الأبيض، فهي واحدة من المدن التي تعد وجهة السودانيين.

وكانت الحاج عبد الله على موعد مع دمار شديد بعدما اجتاحتها قوات الدعم السريع في ديسمبر من العام 2023، وتكاد تكون الحرب قضت على كل شيء في المدينة بحسب تعبير أحد سكانها، قبل أن تبدأ الحياة في العودة إلى شوارعها عقب تمكن الجيش والفصائل المسلحة المتحالفة معه من استعادتها، في يناير الماضي.

الحرب قضت على الأخضر واليابس في مدينة الحاج عبد الله، ويقاوم السكان للتكيف مع الوضع الجديد

مواطن

ويقاوم سكان الحاج عبد الله التكيف مع واقع جديد في مدينتهم التي غيرت آثار الحرب ملامحها، بينما نهبت قوات الدعم السريع الممتلكات الخاصة للمواطنين من المحال التجارية والمنازل، بحسب شهادات رصدها مراسل (عاين).

تاريخ ضارب

ومن تحت أنقاض الحرب، تضرب الحاج عبد الله موعداً مع كتابة تاريخ جديد لنفسها، في طريق مليء بتحديات إعادة الإعمار، فقد تأسست هذه المدينة مع قيام دولة الفونج 1550م على يد الشيخ الشريف الحاج عبد الله، الذي يعود نسبه إلى الشيخ عبد الرحيم القناوي.

وبحسب مؤرخين، فإن الشيخ الشريف الحاج عبد الله قدم من صعيد مصر إلى السودان في القرن السادس عشر، خلال فترة سلطنة سنار (1550-1590م)، واستقر في جنوب الجزيرة حتى وفاته، حيث يوجد ضريحه في المدينة. وللحاج عبد الله تاريخ نضالي إذ شهدت معركة الشكابة الشهيرة ضد الحكم الثنائي في السودان.

تقع الحاج عبد الله وهي حاضرة محلية جنوب ولاية الجزيرة على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق، وتمثّل المدينة نقطة وصل حيوية بين مدينتي ود مدني وسنار، على الطريق القومي الذي يربطهما، ويحدها من الجنوب مدينة ود الحداد، ومن الشرق نهر النيل الأزرق، وتبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 203 كيلومترات، وهي محطة رئيسية على المسار الشرقي لخط السكك الحديدية بين مدينتي ود مدني والخرطوم.

ويقول علي المقدم وهو مواطن من الحاج عبد الله إن “ازدهار المدينة بدأ مع اختيارها كمحطة رئيسية على خط السكة حديد الرابط الخرطوم وود مدني عام 1910، ثم افتتاح بيارة ري الحاج عبد الله عام 1920، التي كانت تروي مشروع الجزيرة قبل إنشاء خزان سنار، وبعد ذلك، توالى إنشاء المرافق الحيوية مثل قسم الشرطة، المدارس، المستشفى، المركز البيطري، مكتب البريد، مساكن العمال والموظفين، ونادي مجلس المزارعين”.

وتُعتبر بيارة الحاج عبد الله على النيل الأزرق نقطة انطلاق الترعة الرئيسية لمشروع الجزيرة، إذ تمر بها العديد من القناطر التي تربط بين ضفتيها، مثل قنطرة المكاوي جنوب المدينة، وقنطرة ميرغني شمالها، وقنطرة خليفة غربها.

وتتبع إلى منطقة الحاج عبد الله إدارياً حوالي 118 قرية، مثل الدنيقيلة، الشريف صالح، أبو سُقرة، نوارة، وقرى الشكابة، روينا، سابع دليب، العقدة، ود فقدة، وود الجوي، حسب المواطن علي المقدم الذي تحدث مع (عاين).

ويضيف: “تتميز مدينتنا بتنوعها السكاني، حيث تضم قبائل وإثنيات مختلفة يتجاوز عددها 20، وتوافد هؤلاء السكان إلى المدينة بحثًا عن الرزق، الذي توفرت مصادره في السكة الحديد، المحالج، مصنع غزل الحاج عبد الله، المرافق الصحية والتعليمية، وفرص العمل التي وفرها مشروع الجزيرة”.

ويمارس السكان الزراعة، التجارة، الصناعة، وتربية الحيوانات، وتتوفر العديد من مؤسسات الخدمات الإدارية والطبية والأمنية، وتضم المدينة ثلاثة محالج للقطن، هي محلج الشكابة صاحبه مستثمر سوري، ومحلج الصيني التابع للصناعات الحربية، ومحلج الحاج عبد الله القديم التابع للحكومة وهو متوقف منذ زمن طويل، إذ تضررت هذه المحالج بشكل كبير خلال الأحداث الأخيرة.

قوات الدعم السريع روعت المواطنين الآمنين، ونهبت ممتلكاتهم في المحال التجارية والمنازل، ومارست القتل والتشريد في الحاج عبد الله

مواطن

كانت تلك المدينة تنعم بالسلام والتعايش السلمي بين أهلها حتى ليلة 24 ديسمبر 2023، حين اجتاحتها قوات الدعم السريع، وأدخلت في أهلها الرعب والخوف وعدم الأمان، وفق ما يرويه المواطن السني عباس أحد سكان الحاج عبد الله لـ(عاين).

“لا توجد أرقام دقيقة لحجم الخسائر، لكن قوات الدعم السريع قضت على الأخضر واليابس، وعاثت في الأرض فسادًا، حيث تم نهب بيوت المواطنين من أثاث ومدخرات، ونهبت المواشي، وقتلت الأرواح، وتم التشريد والنزوح، وسرقة سيارات المواطنين، هذا حدث في الحاج عبد الله وقراها، وكذلك نُهبت المستشفى والمراكز والمؤسسات المدنية والمحلات التجارية” يضيف السني.

وهذه الرواية يؤكدها كذلك الناشط الاجتماعي في المنطقة بابكر بشير الذي قال لـ(عاين): “بمجرد دخول قوات الدعم السريع مدينة الحاج عبد الله توقف سوق الحاج عبد الله الكبير، وقام بعض التجار بترحيل البضائع إلى القرى البعيدة عن الطريق الرئيسي، بينما وزع آخرون البضائع للمواطنين مجانًا، وكان أحد المواقف الشهيرة في المدينة عندما فتح أحد التجار مخازنه، وطلب من السكان أخذ البضائع، على أن يسددوا قيمتها بعد توقف الحرب، ومن لم يستطع فهو عاف عنه”.

ويضيف: “دخلت قوات الدعم السريع في البداية بعربتين دفع رباعي، ثم توالت الهجمات على المواطنين، وشهدت المدينة والقرى عددًا من الانتهاكات، وفي اليوم الرابع قُتِل شخصان من قبل قوات الدعم السريع في أم سُقرة إحدى قرى الحاج عبد الله، ونُهِبَت السيارات والمحلات التجارية التي تبقت، وسطو على المنازل وممتلكات المواطنين. كانت فترة سيئة مما أدى إلى نزوح 80% من السكان”.

وشدد الناشط الاجتماعي بشير بابكر، أن ما زاد الأمر تعقيدًا على حياة المواطنين هو أن قوات الدعم السريع دخلت في فترة الموسم الشتوي، مما أدى إلى فشل العروة الشتوية 2023م، والمشروع الزراعي توقف بالكامل، والآبار تعتمد على الكهرباء مع انقطاع التيار، كما نفدت المياه من قنوات الري، وأيضا نهبت محصولات جاهزة.

أسواق جديدة

وخلال فترة سيطرة قوات الدعم السريع توقف سوق الحاج عبد الله الكبير، إذ لم يكن هناك سبيل لفتحه، فنشأت أسواق صغيرة في القرى، مثل سوق قرية أبو سُقرة، الذي أصبح من أكبر أسواق المنطقة، وأعطاه ميزة موقعه، لأن أبو سُقرة تقع في شرق الحاج عبد الله، وشكل شريان حياة للمياه بعد انسياب البضائع بين الحاج عبد الله وشرق سنار التي تتم عن طريق المراكب تمر بأبو سُقرة.

وبحسب رحاب وهي مواطنة من الحاج عبد الله التي تحدثت مع (عاين) كان سوق أبو سُقرة في فترة الدعم السريع من أكبر الأسواق، وإلى جانبه أسواق أخرى في منطقتي الدنيقيلة، وود ماهل، وكانت هذه أسواقًا صغيرة، بينما كان سوق أبو سُقرة مقصدًا للتجار، وحتى البضائع المسروقة تُباع هناك، بالإضافة إلى المواد التموينية مثل السكر والدقيق الذي يأتي من شرق البلاد.

وتضيف: “قبل أن تكون هناك مراكب لنقل المواطنين إلى شرق سنار، كانت هناك معوقات، هي انقطاعات الكهرباء التي تعمل بها مطاحن الدقيق، وتوقفها يسبب أزمة كبيرة جدًا كانت تواجه السكان، ولكن بمرور الزمن تأقلم الناس، ووُفِّرَت المولدات التي تعمل بالجازولين لتشغيل المطاحن، وهذا كان في قريتين فقط، وليست في المدينة، وكان المواطنون يتحركون إليها عن طريق الحمير والعربات البدائية الكارو، بعد أن تم نهب السيارات في تلك المناطق”.

لكن بعد يوم من يوم من استعادة الجيش السيطرة على الحاج عبد الله، شهدت تحسنًا كبيرًا في كل نواحي الحياة، وعاد الناس إلى منازلهم، وبدأت التجارة في الانسياب عن طريق شرق سنار، ووُفِّرت الأدوية وفتح المستشفى، والآن الحاج عبد الله تنتعش، وهناك مراكز صحية، وعادت الكهرباء تدريجيًا إلى معظم أحياء والقرى، وفق الناشط الاجتماعي بابكر بشير.

ويضيف: “بعد دخول الجيش، قام جهاز الأمن باعتقال عدد كبير من الأشخاص، خصوصا الشباب بتهمة التعاون مع قوات الدعم السريع، وأُطْلِق سراح أغلبهم بعد ذلك، ولكن هناك ثلاثة منهم توفوا تحت التعذيب في سنار”.

وبعد تجربة مريرة صاحبها دمار كبير في الممتلكات العامة والخاصة، تكافح مدينة الحاج عبد الله من أجل استعادة سيرتها الأولى، كمنطقة اقتصادية تعطي رزقها إلى العمال من مختلف أنحاء السودان، ورغم تحديات كبيرة ما تزال تعيشها، وهي عدم استقرار التيار الكهربائي وإمداد مياه الشرب، فضلا عن تدهور قنوات الري الزراعي، وتدمير هائل في القطاع الصناعي الحيوي.

3ayin.com