مأساة الحرب والوباء .. الملاريا الخبيثة تفتك بالسودانيين

في أم درمان، المدينة التي اعتادت مقاومة المحن، حل كابوسٌ جديدٌ هذه المرة: الملاريا. المرض الذي لطالما عرفته البلاد عاد بصورة أكثر شراسة، ينهش أجساد السودانيين المنهكة أصلًا من أهوال الحرب والجوع والتشريد. المستشفيات تضيق بالمصابين، الأحياء تغرق في أسراب البعوض ولا حل يلوح في الأفق.
أم درمان ــ التغيير
منذ أن تغرب الشمس، يبدأ ليل المدينة برعبٍ لا يشبه غيره. محمد عبد الرحمن، أحد سكان أم درمان، يروي لـ”العربية.نت” مشهدًا مأساويًا: “لم يعد الليل وقتًا للراحة، بل لحربٍ مفتوحة مع البعوض. أطفالنا يحترقون بالحمى، البيوت تضجّ بالأنين، والمستشفيات تفيض بالمرضى، فيما السلطات المختصة غائبة تماما عن المشهد”.
وباء بلا كابح.. ومدينة تُسلَّم للبعوض
في غياب أي إجراءات رشّ أو مكافحة، استحالت الخرطوم ومدن السودان الأخرى مرتعا مثاليا للبعوض. لم تكن المشكلة لتبلغ هذا الحدّ لو لم تترافق مع انهيار المنظومة الصحية بسبب الحرب. 1450 إصابة بالملاريا الخبيثة خلال أيامٍ معدودة، والرقم قابلٌ للتضاعف مع استمرار الكارثة. الشوارع التي يفترض أن تكون معابر للحياة، تحوّلت إلى مستنقعاتٍ راكدة، والنفايات باتت جزءا من المشهد اليومي، فيما لا شيء يلوح في الأفق سوى المزيد من الوجع.
الأرقام الواردة مروّعة: آلاف الإصابات تتدفّق يوميًا، والملاريا تكتسح الأحياء كالنار في الهشيم، وسط انهيار كامل للمنظومة الصحية. البعوض، الذي كان يمكن السيطرة عليه بعمليات الرش الدورية، أصبح اليوم سيّد الموقف، يفتك بالسكان بلا رحمة، بينما لا تملك السلطات المختصة سوى المشاهدة في عجزٍ شبه تام.
المدن تُسلَّم للبعوض.. والموت يترصّد الجميع
في المناطق الآمنة نسبيًا، حيث يُفترض أن تكون مكافحة النواقل أكثر فاعلية، لم تتجاوز نسبة التدخل ربع المطلوب، ما يعني أن المدن باتت عمليًا في قبضة أسراب البعوض التي تهاجم ليلًا ونهارًا بلا أي مقاومة تُذكر. ومع كل يوم يمرّ، تتضاعف أعداد المصابين، ويتفاقم خطر الموت الصامت الذي يحوم في الأجواء.
وفي مواجهة تفشٍّ غير مسبوق، حطّت فرق الصحة الاتحادية رحالها في المناطق المنكوبة لإجراء مسح ميداني يكشف عن الأسباب الكارثية وراء انتشار الملاريا على هذا النطاق المرعب. لكن النتائج الأولية بدت أكثر فزعا مما توقع الجميع: البعوض يجتاح المدن بلا هوادة، والمعدلات الرسمية للمكافحة لا تتجاوز 25% في أفضل الحالات، فيما تتكدّس النفايات وتتحول الشوارع إلى مستنقعات موبوءة، بعد أن توقفت تمامًا أعمال الرش والمكافحة وإصحاح البيئة منذ اندلاع الحرب.
انتشار واسع وخطر متزايد
في السياق، تؤكد الدكتورة أديبة إبراهيم السيد، اختصاصية الباطنية وأمراض الأوبئة، وعضو فرعية “خصوصي أمدرمان” في اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان، أن الملاريا لم تعد تقتصر على أم درمان، بل اجتاحت جميع أقاليم السودان، مع ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة داخل الخرطوم.
وتوضح لـ”العربية.نت” و”الحدث.نت” أن “السبب الرئيسي لهذا التفشي هو التدهور البيئي الحاد، حيث تعاني الأحياء من الإهمال الشديد، وتكدّست النفايات في الشوارع، ما أدى إلى تكاثر الحشرات الناقلة للأمراض. كما أن وجود جثث متحللة وعدم تصريف المياه الراكدة زاد الوضع سوءا، ما جعل البيئة بيئة خصبة لتكاثر البعوض”.
وتضيف: “في ظل هذه الظروف، يصبح انتشار المرض أمرا حتميا، خاصة مع غياب حملات الرش وانعدام جهود مكافحة البعوض، إلى جانب توقف عمليات النظافة العامة تماما”.
أنواع البعوض والملاريا المنتشرة
تشير الدكتورة أديبة إلى أن الملاريا لم تعد تقتصر على نوع واحد، بل باتت جميع أنواعها منتشرة، ما فاقم من خطورة الوضع. وتوضح أن من بين الأنواع الأكثر خطورة، الملاريا الخبيثة التي تسببها “البعوضة النهارية”، إذ تؤدي إلى حمى شديدة، وتؤثر مباشرة على النخاع الشوكي والدماغ، وقد تكون قاتلة في بعض الحالات.
وتكشف الدكتورة أديبة عن أن الإحصائيات الصادرة أمس تؤكد تسجيل 1450 إصابة جديدة بالملاريا الخبيثة خلال الأيام الأخيرة فقط، وسط توقعات بارتفاع الأعداد في ظل استمرار تفشي المرض.
وتتابع: “مع تردي الخدمات الصحية لم يعد السكان يجدون سوى تخزين المياه في أوعية مكشوفة بسبب الانقطاع المستمر للمياه والكهرباء، ما وفر بيئة مثالية لتكاثر البعوض وزيادة أعداد الإصابات”.
إجراءات ضرورية للحد من الكارثة
للحد من انتشار المرض، توصي الدكتورة أديبة بعدد من الإجراءات الضرورية، أهمها: تنظيف الأحياء والشوارع من النفايات لمنع تكاثر البعوض. التخلص من المياه الراكدة، سواء بردم البرك الصغيرة أو سكب الزيت المستخدم (مثل زيت القلي) على سطح المياه لمنع يرقات البعوض من التنفس والتكاثر. تغطية أوعية تخزين المياه مثل البراميل والأزيار للحيلولة دون تحوّلها إلى بؤر لتكاثر البعوض. منع تسرب المياه تحت المنازل، حيث تُعدّ بيئة مناسبة لتوالد البعوض وانتشاره.
تتفاوت أعراض الملاريا وفقًا لنوعها، إلا أن أبرزها: ارتفاع مستمر في درجة الحرارة وحمى شديدة متكررة، الصداع والإرهاق العام وآلام المفاصل، وفقدان الشهية. في حالات الملاريا الخبيثة، قد تحدث هلوسة أو غيبوبة.
أما حمى الضنك، التي تنتشر أيضا في السودان، فقد تؤدي إلى نزيف داخلي وانخفاض حاد في الصفائح الدموية، ما يستوجب التدخل الطبي العاجل لتجنب المضاعفات القاتلة.
تحذر الدكتورة أديبة من أن بعض الفئات أكثر عرضة للإصابة بالمضاعفات الخطيرة، وعلى رأسهم: الأطفال بين 5 و13 عامًا، نظرا لضعف مناعتهم وسوء التغذية. كبار السن، بسبب تراجع كفاءة جهازهم المناعي. المتضررون من الحرب كالقاطنين في مراكز الإيواء الذين يعانون من نقص الخدمات الصحية وتدهور الظروف المعيشية، ما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة والوفاة.
السودان بلا مناعة.. وأرواحٌ معلّقة في انتظار المجهول
ما الحل إذًا؟ الأطباء وخبراء مكافحة الأوبئة يسردون وصفة نجاةٍ قد تبدو بديهية، لكنها صعبة التنفيذ في ظل الوضع الراهن: “تنظيف الأحياء، ردْم البرك، تغطية المياه المخزّنة، والعودة إلى عمليات الرش.. هذا ما يجب فعله فورًا، وإلا فإن القادم سيكون أشدّ فتكًا”.
في النهاية، يبقى السؤال الأكبر معلقًا في الفراغ: هل تُترك هذه البلاد فريسةً للوباء كما تُركت فريسةً للحرب؟ أم أن معجزةً ما ستأتي قبل أن يُطفئ المرض ما تبقّى من أضواء الحياة؟
نقلا عن العربية نت / خالد فتحي
altaghyeer.info