ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية

قراءة في كتاب (عبد الله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام)، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس/ ومؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، 2024 (9-13)
بقلم: سمية أمين صديق
إهداء المؤلف لكتابه:
إلى شعوب السودان والإسلام والإنسانية جمعاء، وهي تتوق إلى التحرير والتغيير، فإني أهديكم هذا الكتاب، مستدعياً مقولة المفكر التونسي الدكتور يوسف الصديق: (محمود محمد طه هو المنقذ)”. المؤلف
ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني
الجمهوريون دعاة التغيير الجذري
نلتقي اليوم مع الحلقة التاسعة من كتاب الدكتور عبدالله الفكي البشير، محمود محمد طه: من أجل فهم جديد للإسلام. ونستكمل من خلال هذه الحلقة الحديث عن الفصل الموسوم بــ: “إنطلاقاً من دعوة محمود محمد طه للتغيير ووفقاً لرؤيته كيف ومتى ستهب رياح التغيير؟”. كنت في الحلقة السابقة قد تناولت بعض محاور الفصل، وهي: متى وكيف تهب رياح التغيير؟ الوصية المشرفة: كثفوا العمل.. يا عمر [القراي] لا تتوقف عن العمل- تكثيف العمل هو السبيل لمقاومة سردية رجال الدين: سردية كسل العقول وتناسل الجهل- هل يعقل أن ينام الجمهوري والجمهورية ملء جفونه/ جفونها، والناس من حوله/ حولها تردد في سردية رجال الدين القائلة: إن محمود محمد طه كافر ومرتد عن الإسلام؟ القيام بالواجب المباشر خروج عن مأزق الموقف السلبي- ما الذي يحتاجه الواجب المباشر- العبادة في الخلوة مدرسة الإعداد النظري، فما هو ميدان التطبيق العملي؟
وتتمحور حلقة اليوم حول المحاور الآتية: عن مفهوم رفع واقع الناس للفكرة وإنزال الفكرة لواقع الناس- الجمهوريون دعاة التغيير الجذري- مفهوم التغيير الجذري عند محمود محمد طه- ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين وجماعات الهوس الديني.
واقع اليوم والحاجة المُلحة للفهم الجديد للإسلام؛ (الفكرة الجمهورية
يقول المؤلف:( عنى محمود محمد طه، برفع واقع الناس للفكرة،أن يُبين الجمهوريون للناس واقعهم..) وعن ذلك الواقع يقول، و قد أصبح واقع اليوم واقعاً معقداً في ظل معطيات البيئة الإنسانية الجديدة، حيث الثورة التكنولوجية و المعلوماتية، والحياة الرقمية. ويرى أنه لابد من التشخيص لهذا الواقع، و النزول للميدان لمعاينة الوقائع، وفقاً للأسس العلمية، و بإدخال الفكر في العمل، كما وصف حال الناس بالغفلة عن المشاكل الكثيرة التي يعيشونها، و التي من حولهم. ” وتعود الغفلة و عدم الشعور بالواقع و مشاكله إلى الجهل وعدم الوعي.” ويوضح عبد الله ؛ ما قُصد بإنزال الفكرة لواقع الناس، فالمقصود به “جعل الفكرة واضحة وجلية للناس” و بإنزالها لواقع الناس تنطلق الثورة الفكرية. ويلفت عبد الله الإنتباه إلي حضور الإجابة على السؤال المهم الذي ورد آنفاً: متى تهب رياح التغيير ؟ “والذي يمكن التعبير عنه بالآتي:متى تنطلق الثورة الفكرية؟ ” والإجابة في الحالتين هي ، كما قال محمود محمد طه، عندما تكون الفكرة الجمهورية واضحة و جلية للناس، فقط و اضحة وجلية، و ليس شرطاً اعتناقها، و ليس شرطاً الإيمان بها أو تطبيقها. وقد حدد الأستاذ محمود محمد طه الأمور التي يجب توضيحها للناس، وقد بُينت في هذا الفصل. ويواصل المؤلف قائلاً:( و لَّما كانت الثورة الثقافية هي نتيجة الثورة الفكرية، و تستهدف، كما يرى محمود محمد طه، إحداث التغيير الجذري. و لما كان الجمهوريون من دعاة التغيير الجذري، فما هو مفهوم التغير الجذري عند محمود محمد طه؟) .
الجمهوريون دعاة التغيير الجذري
مفهوم التغير الجذري عند محمود محمد طه
يقول عبد الله: عقب إندلاع ثورة ديسمبر المجيدة في 19 ديسمبر 2018، و بعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021 على حكومة الثورة الانتقالية،شاع مصطلح التغيير الجذري في الفضاء السياسي السوداني. ظهر المصطلح مع الإعلان عن “تحالف قوى التغيير الجذري: نحو تغيير وطني جذري بقيادة الجماهير” في 25 يوليو 2022. ضم التحالف الحزب الشيوعي السوداني، وتجمع المهنيين السودانيين، و تحالف مزارعي الجزيرة و المناقل، و الإتحاد النسائي، و هيئة محامي دارفور، و ميثاق الشهداء. و قال السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني محمد مختار الخطيب، في مؤتمر صحافي بالخرطوم، إن التحالف سيضم كل القوى السياسية و النقابيّة و لجان المقاومة و التنظيمات المدنية التي حملت السلاح دفاعاً عن قضايا مناطقها، وكلّ القوي السياسية و النقابيّة و لجان المقاومة و التنظيمات المدنية التي حملت السلاح دفاعاً عن قضايا مناطقها، و كل القوى المؤمنة بالتغيير الجذري، و رافضة لأفكار التسوية مع الانقلاب. كما تم التأكيد على أن قوى الحرية والتغيير لن تكون جزءاً من التحالف. ونشر التحالف بيانه التأسيسي، فعرف نفسه، قائلاً: إن التحالف هو إجتماع لأبناء و بنات و تنظيمات الشعب تتعهد فيه و تلتزم بمواصلة النضال المشترك لتحقيق أهداف التغيير الثوري الجذري، الذي لا يساوم في التصدي لقضايا البناء والاستقلال الوطني و السياسي و الاقتصادي”.
يوضح عبد الله بقوله أنه: لم تكن هذه هي المرة الأولى التي شهد فيها الفضاء السياسي السوداني حضور مصطلح التغيير الجذري، فالمصطلح كان حاضراً منذ أكثر من نصف قرن في الفضاء السوداني. إختار المؤلف التركيز على “حضور المصطلح في كتابات محمود محمد طه و أحاديثه، مع تناول موجز لتاريخ المصطلح و مفهومه عنده، إلى جانب سبل وآليات تحقيقه” يقول عبد الله:( لقد أوضح محمود محمد طه في 21 سبتمبر 1968 بأن أقرب الطرق لتحقيق التغيير الجذري هو طريق الفكرة الجمهورية/ الفهم الجديد للإسلام، و تحدث قائلاً:” طريق الفكرة هو أقرب لتحقيق التغيير الجذري و إحداث الهزة الاجتماعية العظيمة”. و في ديسمبر 1968 تطرق بالحديث إلى التغيير الجذري ضمن محاضرة عامة كانت بعنوان :” الاستقلال و قضايا الشعب” حيث تحدث، قائلاً : “نحن نحب في هذه الليلة أن يكون كلامنا عن الاحتفال بعيد الاستقلال و قضايا الشعب، مرفوع لقمة القضية الأساسية التي هي، أنه لابد أن يكون في تغيير أساسي. ما أفتكر أنه يمكن نحن أن نغير تغيرات جزئية، زي ما قال الشاعر: (لا يستقيم الظل و العود أعوج). إذا كنت تريد تغيير لمصلحة الشعب، لابد من أن تغير الأساس تغيير جذري.
ويواصل عبد الله :( واتبع محمود محمد طه حديثه، وهو يقف عند التغيير الجذري قضايا الحكم و الإصلاح.فتناول خطاب السيد إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السيادة، الذي ألقاه عقب صلاة عيد الفطر في 21 ديسمبر 1968، باعتباره نموذجاً للقمة الجاهلة التي توجه مصير البلد، فقال :
” أنا أفتكر خطاب السيد إسماعيل الأزهري، هو نقطة الجدل و النقاش و الأزمة، في التعليقات المختلفة في الصحف، في المنابر المختلفة، منذ عيد رمضان، تصلح لتمثل القمة الجاهلة التي توجه مصير بلدنا، و لا يمكنك أنت أن تنتظر من الجهل أن يصلح. الإصلاح موش مجرد حسن نية، مع أنه حسن النية أصبحنا لا نراه. لكن حتي الحاكم الجاهل الحسن النية لا يمكن أن يصلح. الحاكم الذي يصلح هو الحاكم الحسن النية العارف، لأن الإصلاح يقتضي عمل إيجابي في الفهم”. يقول المؤلف: كان الأزهري قد أعلن في خطابه المذكور آنفاً، و الذي جاء بعد شهر من صدور حكم المحكمة الشرعية على محمود محمد طه بالردة عن الإسلام في 18 نوفمبر 1967”ستكون الكلمة العليا للقضاة الشرعيين في هذا البلد”فأصدر محمود محمد طه أوانئذ بياناً قال فيه “إن هذا الخطاب تحتوشه الأخطاء من جميع أقطاره. و تجري في جميع عباراته و هو خير دليل على مبلغ الجهل الذي يتمتع به من يجهلون مصير هذا البلد المنكوب” ثم تحدث عن روح ثورة أكتوبر على الصعيد الفكري، و ضرورة أن توجه بالفكر الحر و الإدراك الدقيق “إرادة التغيير ليتخلص الشعب السوداني من هذا الجهل الذي ظل يوجّه مصيره منذ فجر الحكم الوطني”. و أوضح بأن خطاب أزهري سيكون خير عون للمثقفين الذين سيتولون ضرب ناقوس الخطر لتنبيه الشعب السوداني ليجمع صفوفه ليعمل لاستنقاذ مستقبله” و أضاف قائلاً:” إن الجهل الذي يعلنه خطاب الرئيس الأزهري ليس جديداً و إنما الجديد أن هذا الجهل يسرع الخطى اليوم ليدخل حظيرة الدين ليحمي نفسه بقداسة كاذبة يضلل بها الناس عن حقيقة أمره”. و قضايا الحكم و إصلاح المجتمعات و الأفراد تحتاج لتغيير جذري.
وأضاف المؤلف في رصده لمصطلح التغيير الجذري، قائلاً: ( أيضاً تحدث محمود محمد طه في العام 1972، عن التغيير الجذري ضمن كتابه : الثورة الثقافية. و أوضح بأن إحداث التغيير الجذري هو هدف الثورة الثقافية، التي هي نتيجة للثورة الفكرية، كما وردت الإشارة آنفاً. ويقول عبدالله يرى الأستاذ محمود بأن إحداث التغيير الجذري، في حياة الأفراد والجماعات، يكون عن طريق إعادة التعليم، إعادة تعليم المتعلمين، و غير المتعلمين. و أضاف قائلاً: و التغيير الذي نعنيه هو تغيير لم يسبق له مثيل منذ بدء النشأة البشرية .. هو تغيير تدخل به البشرية المعاصرة مرتبة الإنسانية.. و تلك مرتبة يتطلب دخولها قفزة أكبر من تلك التي حدثت لدى دخول الحيوان مرتبة البشرية.. هو تغيير تدخل فيه البشرية المعاصرة مرتبة الإنسانية.. و تلك مرتبة يتطلب دخولها قفزة أكبر من تلك التي حدثت لدى دخول الحيوان مرتبة البشرية. ويضيف المؤلف: ( والتغيير الجذري عند محمود محمد طه، و الإخوان الجمهوريين يحدث عبر الثورة الثقافية التي هي أساس ترفيع قواعد الأخلاق، وهم دعاتها. وقد وصف الإخوان الجمهوريون، أنفسهم بأنهم: “دعاة تغيير جذري و أساسي للأفراد و المجتمعات.) و أورد عبد الله ما كتبوه في أغسطس 1977 في بيان لهم قائلين:”إن أزمتنا الحقيقية إنما هي أزمة أخلاق و لا يؤمن أخلاق هذا الشعب إلا الثورة الفكرية التي تعيد البناء الداخلي و تحدث التغيير الجذري..هذا التغيير ستكون خلاصته الإنسان السوداني ” المُنمى” و هذه هي التنمية الحقيقية، و ما التنمية الإقتصادية إلا وسيلة اليها”.
وعن الثورة الفكرية، يقول المؤلف :( و الثورة الفكرية عند محمود محمد طه تتحقق ببعث : “لا إله إلا الله” من جديد، دافئة، قوية، خلاقة، تغير العقول و القلوب. و الطريق إلى بعث ” لا إله إلا الله” من جديد، كما يرى، هو تجويد تقليد “قدوة التقليد”، النبي الكريم عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم،” حتى يفضي بنا تجويد التقليد إلى الاستقلال عن التقليد-إلى الأصالة” و الثورة الفكرية، عند محمود محمد طه، هي قوة و استقامة، و مضاء، و سرعة انطلاق الفكر القوي.
ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني
“نحن لن نصدر الإسلام كعقيدة، و إنما نخرج من الإسلام القيمة الإنسانية المشتركة، و هي كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، هذه هي القيمة الي سنصدرها:الحرية و الاشتراكية و المساواة الاجتماعية فدعوتنا إنسانية عالمية بهذا المعنى”. محمود محمد طه 1972
يقول عبد الله بعدم جدوى اتباع الطرق السابقة في نقد الإخوان المسلمين ، ذلك النقد الذي وصفه بالنقد الشكلي؛ فقد كتب عبدالله، قائلاً: ( لم يعد تدبيج المقالات في النقد الشكلي للإخوان المسلمين، و جماعات الهوس الديني، خاصة في السودان، بأنهم أسوأ الجماعات مع استدعاء الأدلة و البراهين على تأكيد سوئهم، عملاً كافياً، بل هو مضيعة للوقت. كون النقد الشكلي، و صف شكلي وتعاطي مع المظاهر، ليس فيه إعمال للفكر، و لا يخاطب جذور المشكل عندهم، و لا يعالج منابع خطرهم كما أنه من نوع الخدمات التنويرية التي تجاوزها وعي الشعب، فأصبحت خدمات منتهية الصلاحية. ويرى عبد الله أن تجربة حكم الأخوان المسلمين للسودان والتي دامت على مدي ثلاثين عاماً، كانت كافية لكشف مدى زيف شعاراتهم، و سوء أخلاقهم، و مفارقتهم للدين، و فساد فكرهم، فأصبح الشعب الذي أذاقوه الأمرين، أكثر قدرة على وصف سوئهم من أي كاتب أو كاتبة. كما أن من كان ميداناً للتجارب، لا يحتاج لوصف المجِرب و المجرَب. و لَّما كان النقد الشكلي للإخوان المسلمين، غير كافي،و ليس مطلوباً، فما هو المطلوب إذن؟ ويجيب بقوله: يمكن تلخيص المطلوب، و هو ما بعد النقد الشكلي للإخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني، في الآتي:
أولاً: المطلوب إعمال الفكر من أجل الكشف عن خطرها في قدرتها على حرمان الشعوب المسلمة و الإنسانية جمعاء، من المبادرات الخلاقة و الإسهامات التجديدية في الفكر الإسلامي، بحجبها عنهم، و تآمرها في قتل أصحابها، و نسجها لسرديات تكفيرية، أرهبت المثقفين، و أخافت الشعوب، و سجنت الأفكار. و المطلوب العمل على تحرير الفضاء الإسلامي وتحرير العقول من هذا العمل الشنيع و التركة البشعة للإخوان المسلمين، و من السرديات الراكدة الباطلة التي نسجوها، فضلاً عن تحرير تلك الأفكار من سجنها. و لما كانت أكبر المبادرات الخلاقة في الفكر الإسلامي، التي شهدت تآمر الإخوان المسلمين المستمر في تقديري ، هي الفهم الجديد للإسلام و السيرة الفكرية لصاحبه و معتنقيه، فإن ميدان العمل، سواء عبر الكتابة أو الحديث، من أجل كشف خطر جماعة الإخوان المسلمين، يكون في الفهم الجديد للإسلام و السيرة الفكريّة لصاحبه، عبر التعريف و التوضيح للأمور التي حددها محمود محمد طه، كما ورد في فصول هذا الكتاب.
ثانياً : لما كان فكر الأخوان المسلمين و جماعات الهوس الديني، يسوق إلى العُنف و الهوس الديني، و قد مارسوا العنف بشتى أنواعه في مختلف الدول و المجتمعات. لقد مارسوه و هم خارج السلطة، و هم حكام، و من النماذج، على سبيل المثال، لا الحصر، أن الإخوان المسلمين عندما حكموا السودان(1986-2019)، اتخذوا من جنوب السودان ميداناً للجهاد الإسلامي، بسبب أن شعوب جنوب السودان لا تدين بالإسلام. ولهذا فإن المطلوب، في ظل هذه التركة و إرث العنف، هو إعمال الفكر لمعرفة مرد العُنف في فكر الإخوان المسلمين. و لَّما كان محمود محمد طه قد أخبرنا بأن مرد العنف ، سواء عند الأخوان المسلمين، أو لدى مختلف الجماعات التي تدعو للإسلام، بما في ذلك الحركات التي نشأت مؤخراً، مثل طالبان، و داعش، و بوكو حرام، و غيرها، يعود إلى أمرين ،الأول: هو ضعف التوحيد و عدم المعرفة به، و الأمر الثاني: هو الدعوة إلى تطبيق اd