خبر ⁄سياسي

باهتا وثقيلا.. هكذا يبدو العيد بغزة في ظل الحرب

باهتا وثقيلا.. هكذا يبدو العيد بغزة في ظل الحرب

غزة- إنها تكبيرات العيد ينبعث صوتها من مُصل أسفل البيت، هرعت أم حسام شبات إلى النافذة في محاولة منها لتصديق ما تسمع، "عيد؟ عيد؟"، سألت من حولها وهي تبحث في وجوههم عن نفي ما تتوجس منه، سدّت أذنيها بكفيها، فهي لا تريد سماع ما يستدعي ذكرياتها مع ابنها الشهيد.

لأول مرة يبدو العيد مرعبا لأم حسام وتصرخ من قدومه، فلم يمر على فقد ابنها سوى بضعة أيام، وتنادي الأم المكلومة من أعمق نقطة في قلبها "آه يمه، آه يا حسام يمه وينك؟! تعال إليّ، جاء العيد ووجهك العيد يمة".

وبعد بكاء وانهيار مدة من الزمن، تماسكت أم حسام قليلا وتحدثت إلى الجزيرة نت، وتقول وهي تضع كفها على صدرها "نار تأبى الانطفاء تندلع في قلبي، لقد كان حسام يحب العيد ويحب شراء الملابس الجديدة، يحب كعك العيد الذي أصنعه وقهوته، يحب عيش طقوس العيد وتفاصيله".

كانت أم حسام تتلهف لقدوم العيد هذه المرة، فقد انتهت الحرب وعادت من نزوحها إلى الشمال، والتقت بحسام الذي كان لا يزال حيا يُرَزق كما تقول، لكنها لم تكن تعلم أن الحرب ستعود لتختطف منها أقرب أبنائها إليها "لقد تُوفي والده وهو صغير، فبنيته خلية خلية حتى صار شابا مفتول العضلات طويلا، ثم راح في غمضة عين".

إعلان

عيد بطعم الفقد

بينما تكتمل فرحة الأطفال بعيدهم مع عائلتهم السعيدة، حُرمت بنان عابد (13 عاما) من ذلك، فقد نجت وحدها من استهداف أودى بحياة عائلتها كلها، تقول بنان -وهي ابنة الصحفية الشهيدة إيمان الشنطي- "يستوطن داخلي الحزن، ورغم أن أعمامي وخالاتي يحاولون تعويض الفراغ الذي حل بحياتي، فإن غصة ما زالت تخنقني".

ترى بنان أن ما يواسيها ويخفف عنها هو "علمها بأن عائلتها في مكان أفضل، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله"، وهو عزاؤها في كل مرة تفقد فيها السيطرة على مشاعرها، كما تقول.

أما بين خيام النازحين، فجولة واحدة كفيلة بقلب مفهوم العيد كما يُعرّفه أصحاب المعاناة، فهنا تجلس زوجة أسير مع أطفالها على باب الخيمة، ترى أن عيدها سيكون يوم اجتماعها بحبيبها، حتى وإن استمرت الحرب، فهي توقن أن "عودته مُبددة للخوف مُعينةً على احتمال نوائب الدهر"، كما تقول.

مقابلها يجلس عجوز هرم على كرسيه يقرأ القرآن، يتنقل ببصره بين صفحتي المصحف والسماء التي تكتظ بالطائرات، يُعلّق أبو جمال للجزيرة نت "يحتفل العالم خلال العيد بالألعاب النارية، أما نحن فالنار تنهمر فوق رؤوسنا منذ شهور"، وتجلس بجواره ابنته وردة التي تحتضن طفلها، وتكمل حديث والدها قائلة "عيدنا يوم ننجو نحن وأطفالنا من كل هذا الموت".

وتستهجن أم أحمد سؤال الجزيرة نت عن شعورها مع قدوم العيد، "عن أي عيد تتحدثين؟" ثم تفتح كفها لتحاول حصر فقدها قائلة "زوجي، وأولادي الاثنان، وأولادهم، وأزواج بناتي الثلاث اللواتي ترملن أمامي، ونُسفت جُل بيوتنا وفقدنا سياراتنا وتجارتنا، ونحن منذ شهور في هذه الخيمة، هل سمعت من قبل عن عيد في خيمة؟!".

وبعينين مليئتين بالعتب تقول "سيمر العيد كالعيدين السابقين، وكأيّ يوم في السنة، الفرحة فيه غائبة منذ تمكّن الفقد منا".

الأطفال منشغلون بتأمين احتياجاتهم اليومية بدل الفرح بالعيد (الجزيرة)

عيد باهت

وفي حين كانت تزدحم شوارع قطاع غزة عادةً في مثل هذه الأيام استعدادا لاستقبال العيد، يبدو مشهد اليوم مختلفا، ففي سوق الزاوية شرق مدينة غزة، يقف البائع أبو عمر أمام متجره الصغير لبيع الزينة والألعاب، لكنه بالكاد يجد من يشتري، يقول للجزيرة نت بحسرة "في الأعياد السابقة، كان المحل يعجّ بالزبائن، لكن الأوضاع الاقتصادية الآن صعبة للغاية والقدرة الشرائية شبه معدومة".

إعلان

ويضيف أبو عمر "الناس بالكاد يستطيعون توفير الطعام والدواء، فمن أين لهم المال ليشتروا ما يعدونه من الرفاهيات"، وبينما يتحدث الرجل للجزيرة نت، وقف طفل صغير مع والدته أمام واجهة المتجر ينظر بإعجاب إلى لعبة بلاستيكية، لكن الأم تمسك بيده وتبتعد سريعا دون أن تشتري شيئا.

يبدو العيد باهتا في غزة، فلم تبقِ الحرب شيئا من شكله القديم أو لونه المعهود، لا ضحكات صاخبة ولا ملابس جديدة، حتى التهاني فيه تبدو ثقيلة على ألسنة الغزيين، فلا مساجد لأداء صلاة العيد بعد أن طالتها كلها يد الخراب الإسرائيلية، كما أن التصعيد الميداني وتخوّف الناس من التجمهر يحول دون صلاتهم في العراء.

حتى الزيارات الاجتماعية وصلة الأرحام باتت محدودة جدا، فارتفاع أسعار الوقود ضاعف من أجرة المواصلات العامة، كما أنه قلل من توفر المركبات التي يحتاجونها للتنقل بين أقربائهم.

كما أنهم لو أرادوا إحياء العيد بإعداد طبقي السماقية الغزاوية والسمك المملح (الفسيخ)، فإنهم يحتاجون مبلغا مضاعفا عن الأعياد السابقة، فالغلاء الفاحش الذي طال جميع مناحي الحياة في غزة يقابله قلة ما في اليد وشح البضائع التي لم تتدفق إلى الأسواق منذ إطباق الاحتلال حصاره، وإغلاق المعابر في وجه البضائع قبل قرابة شهر.

وجبة السمك المملح (الفسيخ) تعد إحدى عادات العيد المشهورة في قطاع غزة (الجزيرة)

أسواق بلا عيد

الشحّ بدا واضحا خلال تجول الجزيرة نت في أسواق غزة لرصد حالتها، حيث تبدو أرفف المحال فارغة إلا من بعض البضائع، كما أن عددا منها أغلق أبوابه لنفاد بضائعهم، وهو أمر ينطبق على المنتجات الغذائية أو الملابس على حد سواء.

تحدثت الجزيرة نت إلى مروان وهو تاجر يبيع الملابس في سوق الرمال وسط مدينة غزة، حيث قال "لقد قمنا بشَحن بضائع جديدة من الخارج عندما توقف إطلاق النار، ودفعنا ثمنها كاملا، لكن إغلاق الاحتلال للمعبر حال دون وصولها إلينا لاستغلال موسم العيد، وظلت عالقة على بوابته".

إعلان

يضيف مروان بحسرة "كلما حاولنا رفع رؤوسنا بعد النكبة التي حلت بنا، عادت أمورنا أسوأ مما كانت عليه"، وعزا مروان غلاء أسعار الملابس إلى سببين: الأول هو قلتها، والآخر بسبب زيادة التكاليف التشغيلية المُلقى على عاتق التجار.

يقول "تضاعفت تكلفة كيلو الكهرباء التي نستمدها من المولدات لإنارة محلاتنا من نصف دولار إلى 10 دولارات للكيلو الواحد، كما اضطررنا لرفع أجرة العمال لارتفاع تكاليف المواصلات وغلاء المعيشة".

وإضافة لسوء الوضع المعيشي وغلاء المتوفر، أرجع مروان أسباب ضعف الإقبال على الشراء إلى الفصل بين شطري القطاع، ويقول "فقدت أكثر من 50% من زبائن المحل الذين كانوا يأتون للشراء من الجنوب، أما اليوم فمع خطورة الوضع وتضاعف أسعار المواصلات فلا أحد يأتي إلينا منهم".

ومع تفاقم مشكلة السيولة المالية في غزة، فقد صار اعتماد جزء كبير من الغزيين على التحويل البنكي الإلكتروني الأمر الذي يشكّل عبئا لأصحاب المحال لضرورة توفير الإنترنت في المحال لإتمام الدفع، فضلا عن تبعات ذلك من تكدس الزبائن في انتظار الاتصال بالإنترنت والدفع، وهو أمر مرهق لسوء خدمة الإنترنت في غزة بعد تدمير الاحتلال شبكاته خلال الحرب.

ولفت إلى أن فترة فتح المحل تقتصر على 6 ساعات فقط، حيث يضطرون لإغلاقه مع غروب الشمس، "فشوارع المدينة الخالية من الكهرباء تجعلها كمدينة أشباح مع حلول الظلام، كما أن الوضع الميداني خاصة مع استئناف الحرب ما زال مخيفا وخطرا"، كما يقول مروان.

وخلال مقابلة الجزيرة نت مع التاجر، كانت ملاك -التي فقدت والدتها خلال الحرب- بصحبة خالتها، تقفان لدفع ثمن الفستان المزركش الذي تحتضنه الطفلة بيديها، وعلى وجهها الحزين تتلألأ ابتسامة ناصعة، تقول خالتها "العيد للصغار، لقد حرمتهم إسرائيل من كل شيء، فلماذا نحرمهم نحن من مجرد شعورِ سعادةٍ يمكن أن يعيشوه مقابل فستان منفوش، أما نحن فندعو الله أن يخلصنا من مأساتنا ومن انطفاءة الروح التي نعيشها".

إعلان

aljazeera.net