خبر ⁄سياسي

د. الشفيع خضر سعيد يكتب: ثم ماذا بعد استعادة الجيش السوداني للخرطوم

د. الشفيع خضر سعيد يكتب: ثم ماذا بعد استعادة الجيش السوداني للخرطوم

كان من الطبيعي أن تتملك السودانيين الفرحة العارمة ونشوة الانتصار بعد أن استعاد الجيش السوداني سيطرته على عاصمة البلاد واسترد معالم السيادة الوطنية من قبضة قوات الدعم السريع. وغالبية السودانيين، إلا بعضهم، لم يتوقف عند جدل مفردات انتصار وهزيمة أم انسحاب باتفاق، وإنما تفجرت مشاعره جياشة وهو يتنفس الصعداء ولا يرى في الذي حدث إلا انتصارا على قوات الدعم السريع بعد أن ظل لعامين إلا قليلا، يحلم بالتخلص من هذا الجاثوم المرعب الذي أذاق الوطن والمواطن الأمرين تنكيلا وقتلا ونهبا واغتصابا وانتهاكا للكرامة وتدميرا لبنية البلاد. وحتى ذاك البعض الذي توقف عند جدل تلك المفردات وظل يخوض فيه بحماس، فإن توقفه لم يأت تبخيسا أو تقليلا من مغزى ومعنى فك أسر العاصمة وغيرها، وإنما تخوفا وقلقا من تسوية ما تعيد إنتاج الأزمة وتحفّز دوران الحلقة الشريرة.

 

إن استعادة الجيش السوداني سيطرته على العاصمة ومؤسسات الحكم والسيادة كالقصر الجمهوري، تفرض واقعا جديدا وتثير عددا من النقاط التي أراها هامة، بل أرى معظمها بمثابة حقائق نابعة من هذا الواقع، وتستوجب منا الحذر والانتباه ونحن نحلل، مثلما تستوجب ضرورة استصحابها ونحن نقترح ما نعتقده من حلول. الحقيقة الأولى، غض النظر عن محاولات قيادات قوات الدعم السريع التبرير لانسحاباتهم من ميادين المعارك والمناطق التي ظلت تحت سيطرتها، بأنها انسحابات تكتيكية أو هي إعادة تموضع للقوات، وغض النظر إن كانت تلك الانسحابات تمت بفعل الضغط العسكري المتصاعد من الجيش السوداني، أو نتيجة تفاهمات وإتفاق ما بوساطة جهة ثالثة، خارجية، فإن ما حدث هو هزيمة عسكرية لقوات الدعم السريع، وتأكيد لفشلها في تحقيق أهدافها. ولا أقول هو فشل وهزيمة لمشروعها، لأنها أصلا لم تطرح أي مشروع أو برنامج يخاطب قضايا البلد السياسية والاجتماعية والتنموية والأمنية، وهي أصلا لم تسع لكسب ود المواطن ودعمه، وإنما استثارت عداءه التام بسبب ما مارسته تجاه هذا المواطن المغلوب على أمره من نهب وتنكيل وتحطيم للبنية التحتية وسرق ذاكرة الوطن من المتاحف. الحقيقة الثانية، انسحاب أو طرد قوات الدعم السريع من العاصمة والجزيرة والمناطق الأخرى، لا يعني أن الحرب انتهت ووضعت أوزارها، آخذين في الاعتبار أن هذه القوات موجودة بعدها وعتادها غربا في دارفور وفي كردفان وليس بعيدا من العاصمة، وفي تنسيق وتحالف مع قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمركزة في جنوب كردفان، وهذا يعني إمكانية استمرار ذات الموال، ولكن بشراسة أكبر، والذي ظل يتجلى في صراعات المركز والهامش ونزاعاتهما الدامية، وما يترتب على استمرار هذه النزاعات، إذا لم نعالجها من جذورها، من نتائج مأساوية تواصل اعتقال بلادنا في بؤرة الأزمات والحروب وعدم الإستقرار والتخلف. الحقيقة الثالثة، التحولات العسكرية، بما في ذلك التطورات الأخيرة، مهما كانت حاسمة ومنتصرة، لن تكون وحدها كافية لإنهاء الحرب الراهنة التي أنهكت البلاد ومزقت نسيجها الاجتماعي. فهذه الحرب أعمق من كونها مجرد صراع عسكري بين أطراف تتنازع حول السلطة، ولا يمكن أن تتوقف وتنتهي بمجرد انتصارات عسكرية لهذا الطرف أو ذاك على الأرض، بل يتطلب الأمر حلا سياسيا يخاطب مطالب كل الأطراف، ولكن في إطار التصدي للأزمة الوطنية العامة التي تسكن البلاد منذ فجر الاستقلال، وتمتد جذورها عميقا في تربة التهميش واختلالات التنمية غير المتوازنة والتوزيع غير العادل للموارد والمشاركة غير العادلة في السلطة. الحقيقة الرابعة، هنالك جهات تستثمر بقوة في هذه الحرب مثلما تستثمر في الانقسامات العرقية والجهوية التي أضرت بالبلاد كثيرا، وهي تستغل هذه الاستثمارات المغطاة بالمزايدة في دعم القوات المسلحة السودانية، لصالح مشاريعها السياسية منتهية الصلاحية. وحتى إن توقفت هذه الحرب اليوم، فستتجدد غدا، ما دام هذا الاستثمار الخبيث لا يكف عن تغذيتها. الحقيقة الخامسة، هذه الحرب، وكل حروب السودان، لن تتوقف إلا بالحل السياسي التفاوضي لأجل الاتفاق على مشروع وطني يحارب التهميش ويحقق التنمية المتوازنة ويعيد بناء مؤسسات الدولة السودانية، المدنية والعسكرية، وكل ذلك وفق أسس جديدة تتضمن المواطنة المتساوية وعدالة المشاركة في السلطة وتوزيع الموارد، وبما يحقق إعادة صياغة الهوية السودانية على أساس الاعتراف بالتنوع الثقافي والعرقي وتقنينه، وبما يحقق السلام المستدام ويعيد رتق النسيج الاجتماعي وإصلاح الشروخ والجراحات الغائرة التي خلفتها صراعات وحروب الموارد والسلطة والهوية. الحقيقة السادسة، لكن، اليوم، وفي كل المناطق التي استعادها الجيش، هنالك تدابير تتطلب التنفيذ العاجل قبل الحديث عن العملية السياسية وتشكيل حكومة جديدة، وهذا الأمر يقع على عاتق قيادة القوات المسلحة السودانية. وفي مقدمة هذه التدابير: *توفير الأمن والأمان للمواطن عبر الإسراع في نشر أفراد الشرطة والأجهزة الأمنية وحصر إنفاذ القانون في يدها، والتصدي لكافة أشكال محاكمات الشوارع وأخذ القانون باليد، والتي تنفذها بعض المجموعات، منع الاحتكاك المباشر بين مجموعات المستنفرين والمواطنين. *ضمان انسياب المساعدات الإنسانية إلى المدنيين في كل البلاد وحمايتها من النهب، وضمان أمن العاملين عليها. *العمل على إصحاح البيئة بمشاركة واسعة من شباب الأحياء ولجان غرف الطوارئ وعضوية الأحزاب السياسية ونشطاء المجتمع المدني. *قبل الشروع في أي عملية سياسية أو حوار سوداني سوداني، لا بد من تهيئة المناخ الملائم لذلك عبر كفالة الحريات العامة وحرية النشاط السياسي والنقابي، وبإلغاء مذكرات الاعتقال والتوقيف الصادرة من النيابة العامة بحق القيادات السياسية في الخارج.
وبالمقابل، أرى ألا تظل القوى السياسية السودانية في وضعية المراقب للأحداث والمنتظر للنتائج، بل يجب أن تبادر، اليوم قبل غدا، للتوافق حول رؤية لكيفية التعامل مع المرحلة الجديدة على ضوء التطورات الراهنة، وأن لا تترك الأمر كله للمبادرات الخارجية، ففي النهاية لا يمكن حل قضية شعب من خارجه وبالإنابة عنه.

Bajnews.net