أنقذوا دار الوثائق القومية السودانية قبل فوات الأوان

أنقذوا دار الوثائق القوميَّة السُّودانيَّة قبل فوات الأوان
أ. د. أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
توطئة
أعيد نشر هذا المقال وتعديل بعض فقرات لثلاثة أسباب: أوَّلها، علمت من مصادر مختلفة بأنَّ اللِّواء عادل عبد الرَّحمن درنكي، الأمين العامُّ لدار الوثائق القوميَّة، قد زار الدَّار في يومي الخميس والسَّبت الموافقين 27 و28 مارس 2025، وأفاد بأنَّ مستودعات الوثائق بالدَّار لم تتعرَّض للحريق أو التَّدمير أو النَّهب؛ لكنَّ مبانيها الخارجيَّة تأثَّرت بالأعيرة النَّاريَّة العشوائيَّة الَّتي أصابتها، وبعض الكتب والأوراق المودعة بالصَّالات الملحقة مبعثرةً، كما تعرَّض مكتب العلاقات العامَّة وبعض المكتب الإداريَّة للتَّدمير والنَّهب. وثانيها، التَّذكير بأهمِّيَّة دار الوثائق القوميَّة الَّتي قاربت فكرة إنشائها المئويَّة الأولى (1916)، والوقوف على تاريخ هذه النشأة، وكيف تطوَّرت الدار على أيدي إداريِّين أكفاء إلى أن أصبح لها وضع مميَّز في المحيطين الإقليميَّ والدَّوليِّ. وثالثها، الدَّعوة إلى حمايتها في المرحلة الرَّاهنة والحرجة، خوفًا من أن تتعرَّض مقتنياتها للسَّرقة والنَّهب، كما حدث لمتحف السُّودان القوميِّ ومتحف بيت الخليفة. ثمَّ التَّفكير بصفة جادَّة في كيفيَّة رقمنة الوثائق، الَّتي تكتنزها مستودعاتها الوثائقية قبل فوات الأوان، وتطوير أدائها الوظيفي، كما أشار إلى ذلك من قبل، الدُّكتور فيصل عبد الرَّحمن علي طه، والأستاذ محجوب بابا.
(2)
الدار من مكتب محفوظات السودان إلى دار الوثائق القومية
تعدّ دار الوثائق القوميَّة السُّودانيَّة من أقدم دور الوثائق في الوطن العربيِّ وإفريقيا، وأعرقها إرثًا وثائقيًّا، وكفاءة مهنيَّة وتأتي من حيث الأقدميَّة في المرتبة الثالثة بعد الأرشيف الوطني التونسي ودار الوثائق المصريَّة، إذ يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1916 م، عندما شرعت إدارة الحكم الثُّنائيِّ (1898-1956) في جمع الأوراق الماليَّة والقضائيَّة وأرشفتها في مكتب صغير بمباني السِّكرتير الإداريِّ (وزارة الماليَّة لاحقًا)، وبعد أن توسِّع العمل الأرشيفيَّ بالمكتب الصَّغير أطلق عليه مكتب محفوظات السُّودان عام 1948. وبعد الاستقلال تشعَّبت مهامَّ مكتب المحفوظات، ونمت لتواكب إعادة هيكلة مؤسَّسات دولة السُّودان الحديثة، وتساير تصاعد الوعي المعرفيِّ عن أهمِّيَّة الوثيقة في دراسة جذور المشكلات السِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والثَّقافيَّة. وفي إطار هذا التَّوجُّه برزت شخصيَّة الدَّار الاعتباريَّة، وذلك بصدور قانون دار الوثائق المركزيَّة لسنة 1965، الَّذي بموجبه عدل اسم مكتب محفوظات السُّودان إلى دار الوثائق المركزيَّة، وحدَّد القانون مهامَّ الدَّار واختصاصاتها، والضَّوابط التَّنظيميَّة الَّتي تحكم حركة الوثائق فيها، وتوضِّح مصادر اقتنائها، وكيفيَّة الحصول عليها من المؤسَّسات الحكوميَّة والأكاديميَّة والأفراد. وفي عام 1982 عدلت موادَّ القانون، وبموجب ذلك التَّعديل أضحت الدَّار هيئةً ذات شخصيَّة اعتباريَّة، تعرف بدار الوثائق القوميَّة، وتدار بمجلس قوميّ، يرأسه الوزير الَّذي يسمِّيه رئيس الجمهوريَّة (أو رئيس الوزراء)، وجهاز تنفيذيّ يتصدَّره الأمين العامُّ ونائبه ومساعدوه في إدارة الوثائق الحكوميَّة، وإدارة المحفوظات، وإدارة البحوث، وإدارة الشُّؤون الفنِّيَّة (الصِّيانة والتَّرميم)، وإدارة العلاقات العامَّة والتَّدريب، وإدارة الشُّؤون الماليَّة والإداريَّة. وفي ضوء هذه التَّوطئة، يحاول هذا المقال أن يلقي إضاءات كاشفةً على الإنجازات الَّتي حقَّقتها دار الوثائق، والكفاءات الإداريَّة والأكاديميَّة الَّتي عملت فيها، وتحدِّيات الحاضر وآفاق المستقبل في ظلِّ الثَّورة التِّكنولوجيَّة والإبداعات الرَّقميَّة في مجال حفظ المعلومات وأرشفتها واسترجاعها، ونقلها من حيِّز المعلومات الصَّمَّاء إلى فضاء المعرفة الحيَّة.
(3)
إنجازات دار الوثائق القومية
في ظل الطفرة الإدارية والقانونية التي أشرنا إليها أعلاه، استطاعت دار الوثائق القومية أن تحقق العديد من الإنجازات الرائدة، التي يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
أولاً: استطاعت الدار أن توسَّع أوعية اقتناء الوثائق والأرشيف، لتشمل وثائق المؤسسات الحكومية، ذات الصبغة العلمية والإثباتية، وأرشيف الصحافة، والمطبوعات التي تصدر محلياً، ووثائق بعض الأُسر السُّودانية والأفراد. وبمرور الزمن تمكنت الدار أن تجمع ثروة وثائقية طائلة، يُقدر كمُّها بثلاثين مليون قطعة وثائقية وأرشيفية، تقع في نحو مائتي مجموعة وثائقية وأرشيفية، تُغطى كل الحقب التاريخية في السُّودان باختلاف مناشطها السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. ونذكر منها: مجموعة سلطنتي الفونج والفور، ومجموعة المهدية التي تقدر بثمانين ألف وثيقة، ومجموعة السكرتير الإداري، ومجموعة المؤسسات التشريعية ابتداءً بالمجلس الاستشاري لشمال السُّودان وانتهاءً بالمجلس الوطني، ومجموعة القصر الجمهوري، والغازيتة والصحافة السُّودانية، ومجموعة الماسونية، ومجموعة محمد عبد الرحيم، ومجموعة معاوية محمد نور، ومجموعة محمد إبراهيم أبوسليم، ومجموعة حاجة كاشف بدري.
ثانياً: استطاعت الدار أن تُعْلم ذوي الاهتمام بمقتنياتها الوثائقية والأرشيفية عبر العديد من المراشد والفهارس، وتجعل مادتها متاحة لكل الباحثين، وفق شروط أهلية معينة لا اعتبار فيها للون، أو العرق، أو المعتقد. وبفضل هذا التوجه غير المرهون بقيود الولاء السياسي جعلت الدار من نفسها كعبة يقصدها طلبة الدراسات السُّودانية والباحثين، الذين أثمرت جهودهم العلمية في سلسلة من الكتب والمقالات والأطروحات الأكاديمية، التي أسهمت في تطوير الدراسات السُّودانية، بعيداً عن الانطباعات الشخصية، وروايات الرحالة ومدونات قلم المخابرات الإنجليزي-المصري، التي تفتقر إلى الموضوعية والمنهجية القائمة على المعلومة الصحيحة الموثقة.
ثالثاً: بفضل هذه المواد الوثائقية والأرشيفية المودعة بمستودعاتها استطاعت الدار أن تُسهم في حل كثير من القضايا القومية، وذلك بتوفير المعلومة الصحيحة الموثقة، وبرفد اللجان والمؤتمرات بممثلين من كادرها المتخصص في القضايا المطروحة للنقاش. والدليل على ذلك الدور الذي قامت به في مؤتمر المائدة المستديرة، ولجنة دراسة الإدارة الأهلية، ولجنة إعادة تقسيم المديريات، ومفاوضات السلام المختلفة، النزاعات الحدودية.
رابعاً: قامت الدار بدور بارز في ترقية العمل الوثائقي والأرشيفي على الصعيدين الدولي والإقليمي، وذلك من خلال عضويتها الدائمة في المجلس الدولي للوثائق والأرشيف منذ عام 1966م، وبوصفها عضواً مؤسساً في الفرع الإقليمي العربي والفرع الإقليمي لدول شرق ووسط إفريقيا التابعين للمجلس الدولي للوثائق والأرشيف. وتثميناً لهذا الدور انتخب أمينها العام الأسبق (أبوسليم) رئيساً للفرع الإقليمي العربي لعدة دورات متعاقبة، كما سبق أن انتخب نائباً لرئيس المجلس الدولي للوثائق في إحدى دوراته، وشغل نائبه الأسبق الأستاذ محمد محجوب مالك منصب رئيس الفرع الإقليمي لدول شرق ووسط إفريقيا. وبهذه الكيفية أسست الدار لنفسها سمعة إقليمية وعالمية طيبة.
(4)
الكفاءات الإداريَّة: الماضي والحاضر
بدأ مكتب محفوظات السُّودان يأخذ شكله المؤسَّسيُّ عام 1954، عندما عيَّن الأستاذ ب. م. هولت (1918-2006) أوَّل أمين له، وفي مكتبه الصَّغير الَّذي كان يقبع في مباني السِّكرتير الإداريِّ (وزارة الماليَّة حاليًّا) وضع هولت اللَّبنات الأوَّليَّة لتحديد مسار الأرشيف السُّودانيِّ، وقام بمجهودات رائدة في ترتيب وتبويب وفهرسة الوثائق التَّاريخيَّة عامَّةً، ووثائق المهديَّة والمخابرات العسكريَّة بصفة خاصَّة. وبعد سودنة وظيفة أمين مكتب المحفوظات عام 1955 م عاد هولت إلى بريطانيا، حيث عمل عضوًا بهيئة تدريس مدرسة الدِّراسات الشَّرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن، وفيها نال درجة الدُّكتوراه في تاريخ الشَّرق الأوسط الحديث. وخلال مسيرته الأكاديميَّة الحافلة بالعطاء أعدَّ البروفسير هولت جملة من الأبحاث المفصليَّة في تاريخ السُّودان والشَّرق الأوسط، وأذيعها صيتًا كتابه الموسوم ب ” الدَّولة المهديَّة في السُّودان “، الَّذي يعد واسطة عقد في الدِّراسات السُّودانيَّة، وأدبيَّات المهديَّة تحديدًا. وأخيرًا، توَّج هولت حياته المعاشيَّة بترجمة موثَّقة حواشيها لمخطوطات تاريخ الفونج (مخطوطة كاتب الشَّونة) وطرفا من التُّركيَّة السَّابقة. وإلى جانب اهتماماته البحثيَّة ظلَّ هولت متابعًا لسيرة دار الوثائق القوميَّة إلى أنَّ وافته المنيَّة في الثَّاني من نوفمبر 2006، بعد عمر قارب التِّسعين عامًا.
وعاون هولت في إدارة مكتب محفوظات السُّودان تلميذه النَّجيب محمَّد إبراهيم أبو سليم (1927- 2004)، الَّذي تخرَّج آنذاك من كلِّيَّة الخرطوم الجامعيَّة (جامعة الخرطوم لاحقًا). وبعد تقاعد هولت وسفره إلى بريطانيا عام 1955 م تولَّى الأستاذ أبو سليم إدارة مكتب المحفوظات، وفي ضوء تعديل قانون مكتب المحفوظات عام 1965 م رقِّي إلى منصب مدير دار الوثائق المركزيَّة، وفي السَّنة الَّتي احتفلت فيها دار الوثائق باليوبيل الذَّهبيِّ للمهديَّة (1881-1981) رفع أبو سليم إلى منصب أمين عامّ دار الوثائق القوميَّة، وظلَّ في ذات المنصب بمسمَّياته المختلفة لمدَّة أربعة عقود متتالية (1955- 1995)، قدَّم خلالها خدمة جليلة للوثائق وتاريخ السُّودان بشقَّيه القديم والحديث. وبفضل جهوده في جمع الوثائق السُّودانيَّة من مظانِّها المختلفة كوَّن أبو سليم لنفسه اسمًا لامعًا في أدبيَّات التُّراث السُّودانيِّ، استندت قاعدته إلى وثائق الفونج والفور في الأرض، وامتدَّ عطاؤه إلى بعض مفردات التُّركيَّة، وتجلَّت إسهاماته في دراسات المهديَّة الَّتي أضحى أبو سليم حجَّةً في تراثها ووثائقها دون منازع. وعبَّر حركة الزَّمان وتفتَّق قريحة أبو سليم الأكاديميَّة، تبلور هذا الجهد الخلَّاق في أكثر من ستِّين مؤلَّفًا، جميعها، كما يرى البروفيسور قاسم عثمان نور، ” تعتمد على دار الوثائق ومخزونها في الوثائق السُّودانيَّة، . . . والمصادر الأوَّليَّة الَّتي تمثِّل الوثائق نسبةً عاليةً منها “. وعندما تقاعد أبو سليم عن العمل الدِّيوانيِّ عام 1995 م، كانت دار الوثائق القوميَّة تقتني نحو ثلاثين مليون قطعة وثائقيَّة وأرشيفيَّة، تشمل كافَّة المجموعات الَّتي أشرنا إليها أعلاه. ولكن إلى أنَّ تقاعد أبو سليم لم يكن لدار الوثائق القوميَّة مبنى خاصّ بها، فكان مشروع المبنى المقترح في مرحلة البناء والتَّشييد.
وبعد أن تقاعد الدكتور محمد إبراهيم أبوسليم عن العمل الإداري خلفه على أمانة دار الوثائق القومية الدكتور علي صالح كرار، الذي تخرج من كلية الآداب بجامعة الخرطوم عام 1973م، ونال درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة بيرغن النرويجية عام 1985م، وحضر العديد من الدورات التدريبية في مجال الوثائق والأرشيف. وبموجب هذا الإجراء الإداري عُين أبوسليم مستشاراً لمباني دار الوثائق الجديدة آنذاك، والتي وُضع حجر أساسها في التاسع عشر من ديسمبر 2002م. ولكن في السابع من فبراير 2004م، أي بعد أقل من عام ونصف من تاريخ وضع حجر الأساس، انتقل الدكتور أبوسليم إلى الدار الآخرة قبل أن يحضر افتتاح مباني دار الوثائق الجديدة، الحُلم الذي ظل يراوده لسنوات طوال.
وفي يوليو 2007م صدر قرار جمهوري بنقل الدكتور علي صالح كرار إلى جامعة النيلين، وتعيين الدكتور كبشور كوكو قمبيل أميناً عاماً لدار الوثائق القومية. أكمل كبشور تعليمه الجامعي بمعهد المعلمين العالي (كلية التربية جامعة الخرطوم لاحقاً) عام 1976م، ثم ابتُعِثَ إلى فرنسا، حيث حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في علم النفس التربوي. وفور عودته من فرنسا، انضم إلى عضوية هيئة التدريس بكلية التربية جامعة الخرطوم. وبعد انتفاضة أبريل 1985م، أسهم مع آخرين في تأسيس اتحاد عام جبال النوبة، كما شغل عدداً من المناصب الوزارية في عهد حكومة الإنقاذ (1989-2019م)، ونذكر منها، وزير دولة بوزارة التخطيط الاجتماعي (1993-1994م)، ووزير الاتصالات والسياحة (1994- 1995م)، ووزير التربية والتعليم (1995-1999م). وبعد تعيينه أميناً عاماً لدار الوثائق القومية عام 2007م، تمَّ اختياره رئيساً لمجلس الشورى القومي للمؤتمر الوطني (2014-2019م). وواضح من هذه السيرة الذاتية أنَّ دار الوثائق القومية كانت تقع خارج دائرة اهتمام الدكتور كبشور كوكو ومجال خبراته المتراكمة؛ لكن يبدو أن تعيينه قد ارتكز إلى بعض الموازنات السياسية داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك. وتجدد هذا المسلك عندما صدر قرار جمهوري آخر بتعيين المهندس ضياء الدين محمد عبد القادر، خلفاً للدكتور كبشور في 5 يناير 2019م، علماً بأن خبرة المهندس ضياء المهنية لا تتجاوز العمل في إدارة مشروع سد مروي، وشركة سيدكو للاستثمار التابعة آنذاك للاتحاد الإسلامي، وشركة “طارف للخدمات”، وشركة دايموند التابعة للخدمة الوطنية.
وبعد ثورة ديسمبر 2018، عينت الحكومة الانتقالية الدكتورة فاطمة إبراهيم أميناً عاماً بالإنابة، وتعد فاطمة من الكوادر المهنية والأكاديمية التي عملت في دار الوثائق فترة طويلة. وبعد انتهاء تكليف الدكتورة فاطمة، عينت الدكتورة عفاف محمد الحسن، أميناً عاماً لدار الوثائق، بحكم أنها عضو هيئة تدريس بقسم علوم المعلومات والمكتبات بجامعة الخرطوم. والآن الأمين العام لدار الوثائق هو اللواء عادل الأمين درنكي.
وتؤكد التعيينات خارج الإطار المهني، أنَّ الجهات المسؤولة &#x