خبر ⁄سياسي

السفينة الحربية الصينية التي أظهرت تراجع البحرية الأميركية

السفينة الحربية الصينية التي أظهرت تراجع البحرية الأميركية

في صباح ضبابي من عام 1856، كانت السفن الحربية البريطانية تحاصر مدينة كانتون الصينية (غوانجو حاليا)، مدججة بالمدافع وبالقوة اللازمة لسحق خصومها. وبينما كانت السفن الخشبية التابعة لأسرة "تشينغ" الحاكمة في الصين مترامية على سطح البحر كألعاب ورقية صغيرة في مهب الريح؛ إذ بها تتناثر جذاذا على صفحة الماء، من أثَر القصف المدفعي الذي أطلقته السفن البريطانية، ثم أتبع ذلك سقوط دفاعات المدينة الساحلية المحدودة، التي لم تكن أكثر من بطاريات مدفعية بدائية لا يمكنها أن تصمد أمام التفوق الغربي المدفوع بالبخار ودقة التصويب والمدى الطويل.

في تلك اللحظة، أدركت الصين، دون إعلان، أنها لم تعد قادرة على حماية شواطئها. كانت تلك واحدة من أقسى لحظات ما سُمي بـ"قرن الإذلال"، وهو مصطلح يُستخدم في الأدبيات الصينية لوصف فترة التدخل والإخضاع للبلاد من قِبَل قوى خارجية من بينها اليابان وبريطانيا بدءا من عام 1839 إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1949 واندلاع الثورة الصينية.

ثم بعد مرور أكثر من 150 عاما، تبدو الصين في مشهد مختلف تماما، ففي ديسمبر/كانون الأول 2024، أطلقت الصين سفينة جديدة سُميت "سيتشوان"، وهي أكبر سفينة هجومية برمائية وأكثرها تقدما حتى الآن في ترسانة الجيش الصيني، مما يكشف حجم التطور الهائل في الصناعات العسكرية الصينية ويُشكِّل تعزيزا كبيرا لقدراتها البحرية.

إعلان

ورغم أنها مُصمَّمة بالأساس لنقل قوات عسكرية من البحر إلى الشاطئ، فإنها تمتاز بقدرات إضافية تشبه حاملات الطائرات، حيث إنها مزودة بنظام قذف كهرومغناطيسي (مثل حاملات الطائرات الأميركية الحديثة)، يسمح بإقلاع الطائرات المسيّرة من على متنها أو المقاتلات من سطحها.

ومن ثم فالسفينة متعددة المهام بشكل يشد الأنظار، فهي قادرة على حمل مروحيات هجومية، وطائرات ومسيرات، بالإضافة إلى مركبات برمائية وجنود، ويمكن استخدامها في الإبرار البحري على الشواطئ، أو دعم المعارك البرية من البحر، أو حتى شن هجمات جوية بالطائرات دون طيار، ويبلغ طولها نحو 260 مترا، ووزن إزاحة أكثر من 40,000 طن.

وفي المجمل، فإن استقراء القدرات العملياتية للسفينة يكشف أن الصين لم تعد تكتفي بالدفاع عن حدودها فحسب، بل تسعى إلى مدّ نفوذها العسكري خارج البحار القريبة، حيث صُمِّمت السفينة للاستخدام في أماكن بعيدة مثل البحر الأحمر والمحيط الهندي.

بيد أن "سيتشوان" (أو الفئة 076) ليست وحدها ما يخيف الولايات المتحدة حاليا، بل يضاف إليها ترسانة أخرى من السفن تُظهر مدى تسارع بكين في تطوير قدراتها البحرية، حيث أطلقت 157 سفينة بين عامَيْ 2014-2023، مُقارنةً بـ67 سفينة أطلقتها الولايات المتحدة خلال الفترة نفسها.

أبعد من مجرد سفينة

ما تكشفه الأرقام والحقائق العسكرية يرجح أن الصين ليست فقط بصدد التقدم في سباق التسلح البحري فحسب، بل تتقدم في إطار إستراتيجية محددة لصناعة تحول إستراتيجي عالمي، تُعيد فيه الصين رسم خريطة النفوذ البحري، وربما إعادة تعريف "القوة البحرية" نفسها.

فالسفينة "سيتشوان" ، رغم ما تحمله من رمزية، ليست سوى واحدة من إشارات كثيرة على صعود جارف، يوشك أن يُغيّر موازين البحر كما نعرفها.

لفهم حجم الإنتاج الصيني الضخم، تأمل ما حدث بين عامَيْ 2017-2019، حيث ورد أن الصين قامت ببناء عدد من السفن أكثر مما بنته الهند واليابان وأستراليا وفرنسا والمملكة المتحدة مجتمعين، بل أشار نائب الأدميرال الألماني "كاي أكيم شونباشسيد" في عام 2021 إلى أن "البحرية الصينية تتوسع كل 4 سنوات بما يعادل حجم البحرية الفرنسية كاملة".

إعلان

وبحلول منتصف عام 2024، كانت الصين قد تجاوزت الولايات المتحدة بالفعل من حيث عدد القطع البحرية الفاعلة: 234 قطعة صينية مقابل 219 قطعة أميركية.

هذا التفوق العددي يُمكِّن الصين من تعويض أية خسائر محتملة في أية مواجهات قادمة، ويزيد حجم القوة المتاحة والجاهزة للانتشار التي يمكن الدفع بها إلى مناطق التوتر عند الحاجة.

كما أن هذا العدد الضخم لقطع البحرية الصينية لا يشمل نحو 80 سفينة دورية صغيرة مسلحة بالصواريخ تُشغّلها البحرية الصينية، بينما يشمل فقط سفن الصين أو غواصاتها التي تزيد إزاحتها على 1000 طن متري، بينما يشمل العدد المعروف لقطع البحرية الأميركية الذي يبلغ 290 قطعة سفن الدعم والخدمات اللوجستية التي تصل إلى نحو 126 سفينة.

وبحسب مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية، يُوفر هذا التفوق لصالح بكين ميزةً حربيةً مهمة: فقد خلصت الدراسة إلى أن الأساطيل الأكبر حجما انتصرت في 25 حربا من أصل 28 حربا تاريخية، والسبب هو أن العدد الأكبر يعطي مقدرة أفضل على استيعاب خسائر أكبر ومواصلة القتال.

وينقل المركز عن إحدى الدراسات أنه في واحدة من مجموعات المناورات الحربية التدريبية الحديثة، خسرت الصين 52 سفينة حربية سطحية رئيسية مقارنةً بما بين 7-20 سفينة أميركية مُكافئة، وحتى بعد هذه الخسائر الكارثية، ظلت الصين تمتلك سفنا حربية سطحية أكثر من الولايات المتحدة، وتمكَّنت من مواصلة المعركة البحرية.

بالطبع لا يعني ذلك أن الصين الآن هي القوة البحرية الأشرس في العالم، حيث إن القوة العسكرية لا تُحسب فقط بعدد القطع القتالية، وإنما بالقدرات النوعية للسفن، وبصورة أهم يرتبط بنطاق توزيعها وسيطرتها، وهذا ما تتفوق فيه الولايات المتحدة بلا منازع، فهي تمتلك مجموعة من أكبر وأقوى السفن في العالم.

ولو قررنا جمع قدر الماء الذي تزيحه مجمل السفن الصينية (وزن السفن في أدبيات القياسات البحرية)، الأمر الذي يُعَدُّ معيارا أساسيا للقوة، فسنجد أنه يبلغ في المجمل مليونَيْ طن بحلول عام 2022، بينما يصل الرقم نفسه إلى 4.5 ملايين طن في حالة الولايات المتحدة الأميركية!

إعلان

هذا فضلا عن الانتشار الواسع للأساطيل البحرية الأميركية ونقاط القيادة والتحكم والإمداد على امتداد خريطة بحار العالم طولا وعرضا.

رغم ذلك، فإن البحرية الأميركية لا شك ليست مطمئنة لمجرد هذا الفارق النوعي لصالحها، ليس فقط لأنه يتقلص يوما بعد يوم، بل لأنه يتقلص بسرعة.

لقد بدأت خطة الصين الطموحة لتطوير قوتها البحرية منذ ربع قرن فقط، تصاعد خلالها عدد القطع الصينية باطراد، في عام 2005 كان الفارق لصالح الولايات المتحدة الأميركية بنحو 75 قطعة، تقلَّص هذا الفارق حتى تقاربت أعداد القطع البحرية الصينية مع الأميركية في 2014، ثم انطلقت الصين للأعلى.

وبالسرعة نفسها من المتوقع أن تنمو القوة القتالية الإجمالية للبحرية الصينية إلى 460 قطعة بحلول عام 2030. وبحلول التاريخ نفسه، من المتوقع أن تمتلك البحرية الأميركية نحو 345 قطعة بحرية فقط بحسب التوقعات المتفائلة.

هذا التسارع الكمي مع التطور التقني الصيني في مجالات أخرى يفتح الباب لتسارع مماثل في تطوير أحجام وقدرات القطع البحرية الصينية مستقبلا.

في أحد بياناتها تؤكد وزارة الدفاع الأميركية أنه "اعتبارا من عام 2020، تتكون القوات البحرية الصينية إلى حدٍّ كبير من منصات حديثة متعددة الأدوار تتميز بأسلحة وأجهزة استشعار متقدمة مضادة للسفن، ومضادة للطائرات، ومضادة للغواصات".

ويضيف تقرير للكونغرس الأميركي في السياق نفسه أنه "في كثير من الحالات يمكن مقارنة هذه القطع بتلك الخاصة بالبحرية الأميركية"، ليُضيف بعد قليل قائلا: "الصين تسد الفجوة بسرعة في أي مجالات للنقص بينها وبين الولايات المتحدة".

ظهر ذلك في التطور السريع لحاملات الطائرات الصينية، منذ سبعينيات القرن الماضي، كان لدى البحرية الصينية طموحات لتطوير وتشغيل حاملات الطائرات، لكن خططها الفعلية بدأت عام 1985 حينما استحوذت على أربع حاملات طائرات متقاعدة للدراسة، إحداها بالفعل تحولت إلى النوع "001"، وخلال عشر سنوات فقط من إطلاقها (في 2012) وصلنا إلى حاملة طائرات أكثر تقدما تحاول الاقتراب من القدرات الأميركية.

إعلان

في السياق ذاته، أفادت مؤسسة "راند" أنه بناء على المعايير المعاصرة لإنتاج السفن، فإن أكثر من 70% من أسطول البحرية الصينية في عام 2017 يُعَدُّ محدثا مقارنة بـ50% في 2010، أضف إلى ذلك أن الصين تنتج سفنا أكبر قادرة على استيعاب أسلحة أكثر تطورا.

على سبيل المثال، دخلت أول طرّادات (سفن مدمرة كبيرة) البحرية الصينية من النوع "055" (التي تسمى أيضا الفئة رينهاي) الخدمة في عام 2019، وزادت قدرات السفن القتالية من هذا النوع بمقدار 4000 إلى 5000 طن دفعة واحدة، إذا ما قورنت بالمدمرة من النوع "052D"، التي دخلت الخدمة في البحرية الصينية عام 2014.

في الولايات المتحدة.. تحديات تتعاظم

على الجانب الآخر، ثمة تحديات عديدة تواجه صناعة بناء السفن البحرية الأميركية، تشمل هذه التحديات بطء تطبيق التعديلات اللازمة على السفن، ونقص العمالة الماهرة، وتقادم البنية التحتية الصناعية، وارتفاع تكاليف المواد.

على سبيل المثال، واجه بناء سفينة "يو إس إس كونستليشن" الأميركية تأخيرات كبيرة وتجاوزات في الميزانية. كانت "يو إس إس كونستليشن" أول سفينة في فئة جديدة من الفرقاطات المتطورة (Frigate Class) تُبنى للبحرية الأميركية، وكان من المفترض أن تكون نموذجا للسرعة والكفاءة، حيث هدفت السفينة إلى حماية السفن الأكبر (مثل حاملات الطائرات)، ومكافحة الغواصات، والتصدي للهجمات الجوية أو الصاروخية، ومرافقة القوافل في البحار الخطرة.

تبدأ قصة السفينة المتعثرة عام 2020، حيث فاز حوض بناء السفن الأميركي التابع لشركة "فينكانتيري" بعقدٍ لبنائها، كان التصميم الأساسي مأخوذا من فرقاطة إيطالية ناجحة هي الفئة "فريم"، وكان الهدف من تدشينها تقليل الوقت والتكلفة باستخدام تصميم جاهز ومجرّب.

ما حدث بعد ذلك كان يشبه الكارثة، حيث خضعت السفينة إلى تعديلات مفرطة من البحرية الأميركية، وجرت إطالة الهيكل بمسافة 24 قدما، ثم جرى تغيير المروحة لتحسين الأداء الصوتي، ثم أُعيد تصميم النظام الكهربائي والتبريد، والنتيجة كانت تغيرا واسعا في التصميم عن التصميم الإيطالي الأصلي بنسبة 85%، أدى إلى إطالة زمن التعديلات مع ازدياد التكلفة.

إعلان

حاليا، وبعد مرور عامين ونصف على البداية الفعلية لبناء السفينة، لم يُنجَز إلا 10% منها، مع توقع أن ينتهي بناؤها بعد 9-10 سنوات من لحظة بداية البناء، وهي ضِعْف المدة التي تَطلَّبها بناء السفينة الإيطالية، مع تكلفة تصل إلى مليارَيْ دولار.

ويشير تقرير تحليلي لـ"وول ستريت جورنال" إلى أن الأمور باتت أعقد من ذلك، حيث تواجه صناعة بناء السفن الأميركية نقصا كبيرا في العمالة الماهرة.

على سبيل المثال، شهدت شركة "نيوبورت نيوز" لبناء السفن معدل استنزاف سنوي بنسبة 20% بين عمالها العاملين بالساعة، وهو ضِعْف معدل ما قبل الجائحة. يعوق هذا النقص إنجاز مشاريع مثل سفينة "يو إس إس كونستليشن" في الوقت المحدد، ويُسهم في تجاوز الميزانية.

إلى جانب ذلك، تعمل العديد من أحواض بناء السفن الأميركية بمعدات قديمة، مما يعوق كفاءة الإنتاج. إضافةً إلى ذلك، أدّى ارتفاع تكاليف الصلب إلى زيادة الضغط على الميزانيات، مما يُصعّب ضبط النفقات في مشروعات بناء السفن.

حاملات الطائرات.. المجال الرئيسي للتفوق الأميركي

لطالما تَسيَّدت الولايات المتحدة الأميركية محيطات العالم بحاملات الطائرات التابعة لها، ويبدو أن الصين قد وعت هذا الدرس منذ عقود.

ففي السابع عشر من يوليو/تموز 2022، أعلنت القوات البحرية الصينية عن إطلاق ثالث حاملة طائرات من إنتاجها، خلال حفل أُقيم في حوض بناء السفن في شنغهاي العاصمة، كانت حاملة الطائرات تُعرف سابقا باسم "النوع 003″، ولكنها باتت تُسمى رسميا "فوجيان"، على اسم إحدى مقاطعات الصين الساحلية.

جنود صينيون يقفون على سطح سفينتهم الحربية في تدريب عسكري قبالة الساحل الصيني مقابل جزر ماتسو التي تسيطر عليها تايوان في أبريل/نيسان من عام 2023 (رويترز)

تُعَدُّ "فوجيان" أقوى حاملة طائرات في العالم بعد حاملات الطائرات الأميركية. كانت أول حاملتَيْ طائرات في الصين (النوع "001" والنوع "002") تعديلا تحديثيا لنموذج سوفيتي قديم، لكن النوع "003" يختلف تماما عنهما، مع تحديثات واسعة تتضمن بنية سطحية أكثر إحكاما وإتقانا، مع تبديل في طريقة إقلاع الطائرات، من "التزحلق والقفز" (Ski-jump) إلى طريقة "المنجنيق" (Aircraft catapult)، حيث يُستخدم منجنيق مطور للسماح للطائرات بالإقلاع من مساحات محدودة للغاية، مثل سطح سفينة.

إعلان

لكن ثمة ملاحظة مهمة في هذا السياق، وهي أن البحرية الصينية لا تلجأ إلى طريقة المنجنيق التقليدية التي تعمل بالبخار، وتستخدم بدلا من ذلك نظام إطلاق الطائرات الكهرومغناطيسي سالف الذكر، الذي يرفع من معدلات الطلعات الجوية، ويشغل حيزا أصغر من حاملة الطائرات، يضعها ذلك في مقارنة مباشرة مع حاملات الطائرات الأميركية الكبرى، خاصة أنها بالفعل تُقارَن في الحجم مع فئتَيْ "نيميتز" (Nimitz) و"فورد" (Ford) التابعتين للبحرية الأميركية.

حظر الوصول

رغم كل هذه القدرات المتنوعة للبحرية الصينية، لا شيء آخر يمكن أن يُظهر وتيرة التطور البحري الصيني المتسارعة مثل الصواريخ المضادة للسفن.

حيث نشرت بكين نوعين من الصواريخ الباليستية الأرc