خبر ⁄سياسي

لأول مرة منذ عام 2003... أوروبا مهمشة في الملف النووي الإيراني

لأول مرة منذ عام 2003... أوروبا مهمشة في الملف النووي الإيراني

إذا كانت ثمة حاجة إضافية ليُدرك الأوروبيون أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لا تأخذ بعين الاعتبار المصالح الأوروبية، ولا الدور الذي يمكن أن يضطلع به الأوروبيون في إيجاد حلول لأزمات ونزاعات عدة حول العالم، فإن انفراد واشنطن بالتفاوض مع طهران بشأن ملفها النووي يأتي بالدليل القاطع على النزوع الأحادي في السياسة الأميركية، وابتعادها عن العمل الجماعي، وتهميشها حتى لأقرب حلفائها، سواء في حلف شمال الأطلسي، أو داخل الاتحاد الأوروبي.

واشنطن لا ترى حاجة للأوروبيين

هكذا فعلت واشنطن في ملف غزة، ثم في الملف الأوكراني. وإدارة ترمب اختارت (بالتوافق مع طهران) مسقط ساحةً للتفاوض، وإعطاء دور الوسيط للدبلوماسية العمانية ممثلة بوزير الخارجية بدر البوسعيدي. والحال أن جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، والدول الثلاث الأوروبية المُوقِّعة على اتفاق عام 2015 (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) اضطلعوا بدور الوساطة بين إيران والولايات المتحدة لسنوات، خصوصاً بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض في عام 2020.

كذلك، فإن ممثلين عن الدول الأوروبية الثلاث المعنية أجروا 3 جولات من المفاوضات، في جنيف، مع الجانب الإيراني آخرها في 13 يناير (كانون الثاني) الماضي، أي قبل أسبوع واحد من تنصيب ترمب لولاية ثانية. وكان الغرض منها، وفق مصدر دبلوماسي أوروبي في باريس، «استباق ترمب والنظر في إمكانية التوصُّل إلى تفاهمات تتيح العودة إلى طاولة المفاوضات، واستبعاد الحل العسكري الذي كان يهدِّد به (ولا يزال) الرئيس الأميركي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو».

بارو يتحدَّث إلى نظيرته الألمانية أنالينا بيربوك خلال اجتماع وزراء خارجية حلف «الناتو» في بروكسل... 3 أبريل 2025 (أ.ف.ب)

بيد أن هذه المحاولات فشلت. وخلال الثمانين يوماً التي انقضت على ولايته الثانية، عاد ترمب إلى ممارسة سياسة «الضغوط القصوى» على إيران، مستهدفاً بشكل أساسي صادراتها من النفط، ومتأرجحاً بين الإعراب عن الاستعداد للتفاوض معها للتوصُّل إلى اتفاق جديد، وبين التهديد بعمل عسكري ساحق ضدها. وبالمقابل، تدرَّجت مواقف إيران بين الرفض القطعي للتفاوض ثم قبوله، ولكن في إطار محادثات «غير مباشرة» لتتحول، كما يبدو، إلى «مباشرة» بفضل «لقاء الدقائق المعدودة» بين وزير خارجيتها عباس عراقجي، والمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف.

اللافت أن واشنطن لم تستشعر الحاجة لإخبار باريس ولندن وبرلين، سلفاً، بالعودة إلى التفاوض في مسقط. وخلال مؤتمره الصحافي يوم الخميس الماضي، فضَّل كريستوف لوموان، الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية، التزام الغموض والعموميات، لدى سؤاله عمّا إذا كانت الإدارة الأميركية قد أطلعت بلاده، مسبقاً، بشأن المفاوضات مع إيران. لكن المعلوم أن جل ما حصلت عليه باريس هو الاتصال الهاتفي الذي جرى بين ماركو روبيو وزير الخارجية الأميركي، ونظيره الفرنسي جان نويل بارو، يوم الأربعاء الماضي، بمبادرة من الثاني.

واكتفت «الخارجية» ببيان جاء فيه أنه «في ضوء الإعلانات الأخيرة المتعلقة ببدء المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران حول برنامج إيران النووي، أكد الوزير التزام فرنسا ودعمها لأي جهد دبلوماسي للتوصُّل إلى اتفاق متين ودائم».

وكان الترحيب السمة الغالبة على ردود الفعل الأوروبية. وبرز ذلك في كلام الرئيس ماكرون، بمناسبة زيارته لمصر، إذ رأى أنه «لأمر جيد أن تُستأنف هذه المفاوضات، وأن تؤدي إلى التراجع عن البرنامج (النووي) الحالي، وإلى تأمين آليات التحقق، والتأكد من عدم امتلاك إيران للأسلحة النووية». وبالتوازي، قال مجيد تخت روانجي، نائب وزير الخارجية الإيراني، عقب لقائه في فيينا، أولاف سكوغ، نائب مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي: «نحن نؤمن بأن تعزيز التعاون مع الاتحاد الأوروبي، إلى جانب الأطراف الأخرى المعنية بالحوار مثل الصين وروسيا، يمكن أن يسهم في التوصُّل إلى حل لهذه القضية (النووية)».

الهراوة الأميركية الغليظة

حقيقة الأمر أن طهران تجد نفسها، في هذه المفاوضات، وجهاً لوجه مع الجانب الأميركي الذي يلج إليها حاملاً «هراوة غليظة» عنوانها التحشيد العسكري الذي تقوم به واشنطن والذي غرضه، كما يتوافق على ذلك الخبراء، تشديد الضغط على طهران، وإفهامها أنها ستذهب إلى الحل العسكري في حال لم تتجاوب إيران مع مطالبها، وأولها التوصُّل إلى اتفاق يضمن منعها من «عسكرة» برنامجها النووي، في الوقت الذي تزداد فيه الشكوك الغربية إزاء ما تخطط له طهران التي تراكم اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المائة، وتركب أجهزة طرد مركزي متقدمة قادرة على تسريع التخصيب والانتقال به إلى مرحلة أقرب إلى نسبة 90 في المائة، الضرورية لإنتاج السلاح النووي.

روبيو خلال اجتماع وزراء خارجية حلف «الناتو» في بروكسل... 3 أبريل 2025 (إ.ب.أ)

وسعت الأخيرة إلى «إنهاض» شريكيها (روسيا والصين) وسط تهديد الأوروبيين بتفعيل آلية «سناب باك» للعودة التلقائية إلى العقوبات الدولية على طهران قبل شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، موعد انتهاء فاعلية اتفاق عام 2015. وليس من المستبعد أن يلجأ الأوروبيون إلى هذه الآلية لتسهيل عودتهم ومشاركتهم في العملية التفاوضية باعتبار أن الولايات المتحدة، التي خرجت من اتفاق عام 2015، لم تعد مؤهلةً لتفعيل «سناب باك» وستكون بحاجة للأوروبيين.

رغم استبعادهم، فإن الأوروبيين الثلاثة، ومعهم الاتحاد الأوروبي بوصفه مجموعةً، لا يستطيعون إلا أن يعبِّروا عن دعمهم للعملية التفاوضية، وذلك لسبيين: الأول، أنهم يسعون للهدف نفسه الذي تسعى إليه واشنطن. والثاني، أنهم يريدون إبعاد الخيار العسكري واشتعال حرب إضافية في منطقة الشرق الأوسط تلوّح بها واشنطن، وتدعمها في ذلك إسرائيل.

وما يشجّع هذين الطرفين على الخيار العسكري ما يعدّانه «ضعف إيران» التي خسرت أذرعها في حربَي غزة ولبنان، وسقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وتحييد الميليشيات العراقية المرتبطة بها. ولم يبقَ في الساحة سوى حوثيي اليمن الذين «تتعامل» معهم القوات الأميركية الموجودة بقوة وكثافة في المنطقة.

صورة نشرتها وزارة الخارجية الإيرانية من لقاء نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف ونظيره الإيراني مجيد تخت روانجي في موسكو الأسبوع الماضي

وإزاء هذا الوضع، لا تتوافر لإيران جهات يمكن التعويل عليها. فروسيا منشغلة بحربها في أوكرانيا وقد لا ترى أن من المفيد اليوم إغضاب واشنطن لإرضاء طهران. أما الصين، فإنها تخوض حرباً تجاريةً حامية الوطيس مع الرئيس ترمب الذي فرض عليها رسوماً جمركية تصل إلى 145 في المائة، وهو ما لم يحدث أبداً في السابق. وتبقى «القارة القديمة» التي لا تعرف اليوم ما ستكون عليه علاقاتها مع شريكها الأميركي إن كان تجارياً، أو بالنسبة لأوكرانيا، ولمستقبل الحلف الأطلسي، وحتى بالنسبة لطموحاته التوسعية بوضع اليد على أرض غرينلاند، التي تنتمي إلى دولة أوروبية (الدنمارك) عضو في الاتحاد وفي الحلف الأطلسي. ولذا، تكمن مصلحة الأوروبيين في السير بالركب الأميركي، أقله في الملف الإيراني، رغم تهميشهم فيه، حيث تتطابق الأهداف، عوض مشاكسته والتعرُّض لمزيد من المضايقات.

aawsat.com