في ذكراها الأربعين تجربة فشل الفترة الانتقالية بعد انتفاضة أبريل 1985 1986

في ذكراها الأربعين تجربة فشل الفترة الانتقالية بعد انتفاضة أبريل «1985- 1986»
تاج السر عثمان بابو
١
أشرنا سابقا إلى الذكرى الأربعين لانتفاضة مارس – أبريل ١٩٨٥، وضرورة الاستفادة من دروسها بإنجاز مهام الفترة الانتقالية، واستدامة الديمقراطية بالخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية، التي أخذت حوالي ٥٩ عاما من عمر الاستقلال البالغ أكثر ٦٩ عاما وبهذه المناسبة نعيد نشر هذا المقال عن دروس فشل تجربة الفترة الانتقالية بعد انتفاضة أبريل 1985.
٢
نتابع فى هذا المقال تجربة فشل الفترة الانتقالية لما بعد انتفاضة 1985 التي نعيش ذكراها هذه الأيام وكيف ساهم المجلس العسكري مع الجبهة الإسلامية في اجهاضها، وافراغها من مضمونها، ودروس تلك التجربة، لاسيما اننا نواجه الفترة الانتقالية لما بعد ثورة ديسمبر 2018 التي تواجه العوامل نفسها التي تعرقل مسيرتها، واخرها الحرب المدمرة الجارية الان، وكيف نستفيد من تلك التجربة لضمان نجاحها، رغم اختلاف ظروف كل منهما.
بعد تدخل القيادة العامة، أصدر سوار الدهب عددا من القرارات أهمها: إعلان حالة الطوارئ في كل أنحاء البلاد، إعفاء رئيس الجمهورية ونوابه والوزراء والمستشارين وحكام الأقاليم، وحل مجلس الشعب والمجالس الاقليمية، الاتحاد الاشتراكي، وكلف وكلاء الوزارات بتصريف مهام الوزارات، وقادة المناطق العسكرية لتولي سلطات حكام الأقاليم، ووجه العاملين في الدولة لإنهاء الإضراب. الخ.
لكن الجماهير تخوفت من عودة الحكم العسكري، ومن تغيير شكلي يعيد إنتاج النظام المايوي السابق، وطالبت في هتافاتها بالحكم المدني، وجيش واحد شعب واحد، لن يحكمنا البنك الدولي، لن يحكمنا أمن الدولة، لن تحكمنا بقايا مايو. الخ، وتوجهت الجماهير لسجن كوبر وحررت المعتقلين السياسيين، وبعدها توجهت للقيادة العامة وضغطت حتى تمّ حل جهاز الأمن. جاء تحرك القيادة العامة بعد ضغط صغار الضباط، مما أجبرها على الانحياز للانتفاضة، اضافة لخوف كبار الضباط من انقلاب يقوده صغار الضباط (للمزيد من التفاصيل: راجع حيدر طه، الإخوان والعسكر، القاهرة 1993، ومحمد علي جادين: صفحات من تاريخ التيار القومي وحزب البعث في السودان، دار عزة 2011)، إضافة لدعوات الأحزاب والتجمع النقابي لمواصلة الانتفاضة والاضراب العام حتى تسليم السلطة لممثلي الشعب.
٣
كان من عوامل ضعف الحركة السياسية والجماهيرية هو تشتتها، ولم تتوحد إلا في اللحظات الأخيرة، حيث تم اجتماع صباح السبت 6 أبريل تمّ فيه التوقيع على ميثاق التجمع الوطني لإنقاذ الوطن من أحزاب: الأمة، الاتحادي الديمقراطي، الشيوعي، ونقابات الأطباء، المهندسين، أساتذة جامعة الخرطوم، المحامين، موظفي المصارف، الهيئة العامة لموظفي التأمينات. وكان الهدف توحيد المعارضة السياسية والنقابية في مركز موحد، إضافة لضعف وجود حركة الطبقة العاملة والمزارعين والكادحين في تركيب قوى الانتفاضة.
تضمن ميثاق التجمع الوطني النقاط التالية: فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، مهامها تنظيم العمل السياسي بموجب دستور 1956 المعدل 1964، كفالة الحقوق والحريات الأساسية، الحل السلمي الديمقراطي لقضية الجنوب في اطار الحكم الذاتي الموحد، التحرر من التبعية الاقتصادية والاصلاح الاقتصادي بخلق بنية اقتصادية تحقق العدل والكفاءة، ومواجهة المجاعة وشح المواد التموينية والغلاء، السيادة الوطنية والتحرر من التبعية للقوى الخارجية وقيام علاقات خارجية متوازنة، تصفية أثار مايو وقوانيتها القمعية، والطبقة الطفيلية المايوية، واصلاح الخدمة العامة، وتصفية المؤسسات المايوية الخربة، تأكيد مبدأ الحكم اللامركزي، وحكم البلاد بعد الفترة الانتقالية بواسطة دستور يقره برلمان منتخب ديمقراطيا.
بعد التخوف من بيان القيادة العامة، تواصلت اجتماعات التجمع الوطني للأحزاب والتجمع النقابي الذي كان مندوبه أمين مكي مدني مع القيادة العامة التي كان مندوبها اللواء عثمان عبد الله والعميد حقوقي أحمد محمود. لكن الخلافات بين الأحزاب قوى مركز القيادة العامة والسلطة، مما أدى للتعامل مع التجمع بصلف واستعلاء، حتى أنها هددت بأنها سوف تستخدم قانون الطوارئ بحزم لوقف المظاهرات!!!.
مع ضعف وخلافات التجمع وتحالف الجبهة القومية الإسلامية مع القيادة العامة (قابل سوار الدهب د. الترابي في 10/ 4 وتفاهم معه حول الوضع السياسي في البلاد)، أعلن التجمع إنهاء الاضراب العام صباح الثلاثاء 9/ 4. وزاد من ضعف قوى الانتفاضة اصدار الحركة الشعبية بيانها الذي قللت فيه من الانتفاضة ووصفت انحياز الجيش بأنه مايو 2.
كل تلك العوامل قوت موقف المجلس العسكري الذي كون مجلسا عسكريا انتقاليا من 15 عضوا من قيادات الوحدات العسكرية في الخرطوم، واستحوذ على سلطات السيادة والتشريع خلال الفترة الانتقالية، رغم احتجاج التجمع على ذلك، الا أنه لم يستطع أن يوقف ذلك لضعفه وعدم استعداده المبكر.
بعد استقبال سوار الدهب للترابي ظهرت الجبهة الإسلامية كقوة سياسية واقتصادية ومالية بعد البنوك الإسلامية والشركات التي عملتها في فترة المصالحة مع نظام مايو، وكسرت طوق عزلتها باعتبارها من سدنة مايو بعد مشاركتها في نظام مايو لمدة ثماني سنوات بعد المصالحة الوطنية 1977، وشاركت في مؤسساتها التشريعية والتنفيذية وفي الاتحاد الاشتراكي، وكان د. الترابي نائبا عاما ومستشارا للرئيس نميري. بالتالي عملت على شق الصفوف، واصبح المجلس العسكري يتعامل مع أكثر من جهة، ووجد حليفا قويا في الجبهة الإسلامية، وزاد الطين بلة دعوة المجلس العسكري لمناديب من الجبهة الإسلامية لاجتماع ممثلي القيادة مع التجمع الوطني التي استنكرها التجمع، هذا فضلا عن خط الجبهة الإسلامية الدعائي الذي يقول بأن العسكر هم الجهة الوحيدة المنظمة والقادرة على قيادة البلاد واستخفافها بالتجمع الوطني.
بعد ذلك طلب المجلس العسكري الانتقالي من التجمع ترشيحات لشخصيات مستقلة لمجلس الوزراء، وكان خطأ التجمع الموافقة على تكوين المجلس العسكري بهذه الصلاحية، واسس تكوين مجلس الوزراء، الذي جاء برئاسة د. الجزولي دفع الله المعروف بانتمائه للإخوان المسلمين منذ أن كان طالبا في الجامعة، وضم مجلس الوزراء مجموعة من التكنوقراط، وبعض النقابيين الذين لعبوا دورا في الانتفاضة، مما قطع الطريق أمام وصول الانتفاضة لتحقيق أهدافها. وهذا راجع لضعف التجمع وعدم اتفاقه على هياكل مؤسسات الفترة الانتقالية منذ فترة مبكرة.
كما تحددت القوى السياسية والطبقية المصطرعة التي تكونت من المجلس العسكري المسيطر علي السلطة الفعلية والمتحالف مع الجبهة القومية الإسلامية، والمرتبطة بدوائر خارجية عالمية واقليمية لها مصلحة في اجهاض الانتفاضة وعدم تحول ديمقراطي عميق يكون له تأثيره في المنطقة، والتجمع الوطني للقوى السياسية والنقابية الذي انسحب منه الاتحادي الديمقراطي لاحقا، والحركة الشعبية بموقفها المعروف من المجلس العسكري.
٤
الدخول في مهام الفترة الانتقالية:
بعد تخوف التجمع من هيمنة الحكم العسكري، بادر بتقليص الفترة الانتقالية من ثلاث سنوات إلى سنة واحدة، بعدها يتم تسليم السلطة لممثلي الشعب، وتمّ الدخول في مهام الفترة الانتقالية التي تلخصت في:
– تصفية آثار مايو ومؤسساتها وقوانينها القمعية، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
– وقف الحرب وتحقيق السلام.
– اجراء انتخابات عامة بعد عام واحد لانتخاب جمعية تأسيسية وتسليم السلطة لممثلي الشعب.
* ثم بعد ذلك بدأ التراجع عن ميثاق الانتفاضة، فبدلا من العمل بدستور 1956 المعدل في أكتوبر 1964، جاء الدستور الانتقالي لعام 1985، رغم أنه أكد على النظام الديمقراطي والتعدد السياسي، والحقوق والحريات الأساسية.
* رفضت الجماهير وأحزاب التجمع محاولة النائب العام عمر عبد العاطي للتغول على نشاط الأحزاب عن طريق مشروع لتنظيم الأحزاب، مما أدى لتراجعه.
* استفادت الجبهة الإسلامية من هذا الوضع وسيطر الطفيليون الإسلامويون على السوق مع الطفيلية المايوية، وخلقوا أزمات اقتصادية ومعيشية مع ضعف الحكومة في اتخاذ اجراءات حاسمة لتحسين الوضع المعيشي، أدت لزعزعة وفشل الفترة الانتقالية ولتذمر العاملين الذين قاموا باضرابات كثيرة.
* تمّ التوقيع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية في نوفمبر 1985 الذي أكد على الديمقراطية باعتبارها الخيار الوحيد، والدفاع عنها بكل الوسائل بما فيها الإضراب العام اذا وقع انقلاب عسكري، وقع عليه 18 حزب واتحاد، اضافة لممثلي القوات المسلحة، وخاطب الاحتفال بعض زعماء الأحزاب، وتمّ إيداع الميثاق لمنظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية والأمم المتحدة ليشهد العالم على تمسك شعب السودان بالديمقراطية.
الجدير بالذكر أن الجبهة القومية الاسلامية بقيادة الترابي لم توقع على ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، وظهرت انيابها السامة التي غرستها في عنق الديمقراطية بانقلاب 30 يونيو 1989، مما دمر البلاد والعباد.
* عقدت قوى الانتفاضة مؤتمرها في مدينة ود مدني بهدف تأكيد وتقوية وحدتها، وأكد البيان الختامي على استمرار التجمع الوطني، وتصفية آثار مايو، حرية العمل النقابي، رفع المعاناة عن الجماهير ودعم أسعار السلع الأساسية، وقف الحرب في الجنوب، والإسراع بعقد المؤتمر الاقتصادي والمؤتمر الدستوري، والاشادة بانحياز الجيش للانتفاضة. الخ.
* واجهت الحكومة تردي الأوضاع المعيشية، طالب التجمع بدعم السلع الأساسية، وعقد مؤتمر اقتصادي عاجل بهدف معالجة الوضع الاقتصادي، لكن الحكومة فشلت في انتهاج سياسات تساعد في حل الضائقة المعيشية، وتلكأت في عقد المؤتمر الاقتصادي، رغم المقترحات التي قدمتها قوى الانتفاضة في: تصفية التمكين الاقتصادي المايوي، والنشاط الطفيلي، واسترداد الأموال المنهوبة، واصلاح النظام المصرفي، وزيادة الإيرادات العامة من موارد حقيقية. الخ.
في ديسمبر 1985 رفضت قوى التجمع والنقابات إعلان وزير المالية عوض عبد المجيد اتفاق مع صندوق النقد الدولي شمل: تخفيض سعر الجنيه، ورفع أسعار السلع الأساسية، ورفع رسوم المياه والأرض في مشروع الجزيرة. الخ، وكان الرفض كبيرا أدى لرفض مجلس الوزراء للمشروع مما أدى لاستقالة وزير المالية.
٥
تمّ تأخير المؤتمر الاقتصادي الذي لم ينعقد الا في مارس 1986 قبل شهر من نهاية الفترة الانتقالية!!، وكانت توصياته تتلخص في الآتي:
أ – إعادة تعمير وتأهيل المؤسسات والمشاريع الإنتاجية والخدمية في القطاعين العام والخاص، وإعادة تعمير المناطق التي تأثرت بالجفاف والمجاعة.
ب – إصلاح النظام المصرفي وتصفية النشاط الطفيلي.
ج – إشاعة الديمقراطية وإشراك العاملين في المؤسسات الإنتاجية.
د – تحسين أجور ومرتبات العاملين والمنتجين على أن يرتبط ذلك بزيادة الإنتاجية وتوفير مدخلات الإنتاج بالنسبة لمؤسسات القطاع العام والخاص الإنتاجية.
هـ – إصلاح وتحسين خدمات التعليم والصحة.
و – لجم وسائل التضخم وتخفيض أسعار السلع الرئيسية وإصلاح قنوات التوزيع.
ز – وضع خطة اقتصادية لتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي تخضع جميع السياسات الاقتصادية والمالية بهدف الاستغلال الكامل للطاقات الإنتاجية المتاحة واصلاح مسار الاقتصاد السوداني.
* انتهت الفترة الانتقالية بالفشل في تحقيق أهدافها، وجرت الانتخابات العامة في الفترة من 1 إلى 12 أبريل 1986، بقانون انتخابي هزيل حرم القوى الحديثة من التمثيل، وتكونت حكومة ائتلافية بين الأمة والاتحادي الديمقراطي والأحزاب الجنوبية ولم تستمر طويلا، وفشلت في حل قضايا الاقتصاد والجنوب وترسيخ الديمقراطية وتم تكوين حكومة ائتلافية أخرى في مايو 1988 من حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي والجبهة الإسلامية، إلا أن تلك الحكومة أيضا فشلت في حل مشاكل البلاد.
* رغم قرارات وتوصيات المؤتمر الاقتصادي، إلا أن السياسات التي سارت عليها حكومات تلك الفترة أدت إلى استمرار مظاهر الأزمة الاقتصادية التي تتلخص في الآتي: –
أ – ركود الإنتاج السلعي (زراعة – صناعة) وتضخم قطاع خدمات المال والتجارة، أي أن وزن الطبقات الطفيلية الإسلامية والمايوية كان مؤثرا في النشاط الاقتصادي، الشيء الذي عرقل محاولة أي إصلاح، وبالتالي انعكس ذلك على النشاط السياسي وإجهاض الانتفاضة وتقويض الديمقراطية.
ب – استفحال المديونية الخارجية التي بلغت 14 مليار دولار.
ج – عجز مقيم في الموازنة الداخلية وميزان المدفوعات.
د – تزايد معدلات التضخم إذ بلغ اكثر من 45%.
هـ – تدهور متواصل في سعر صرف الجنيه السوداني.
و – تزايد معدلات استهلاك الفئات الطفيلية، وارتفاع معدلات الاستيراد وانكماش الصادرات وتزايد المنصرفات.
كما استمرت حكومات ما بعد الانتفاضة في السياسة التقليدية التي تسببت في الأزمة الاقتصادية مثل: تقليص دور الدولة، إلغاء الضوابط على حركة المبلغ والسلع والتخلص غير المدروس والتدريجي من القطاع العام خاصة في مجال البنوك والتأمين والتجارة.
ز – التشجيع المفرط للقطاع الخاص المحلي والمختلط والأجنبي دون اعتبار للأولويات والسيادة الوطنية، وذلك بالإعفاءات والتغاضي عن التهرب الضريبي.
ح – إطلاق العنان لقوى السوق بافتراض أن ذلك يساوى بين الأسعار وتكلفة الإنتاج ويقربها من مستويات الأسعار العالمية مما أدخل البلاد في حلقة تعديلات سعر الصرف دون تحقيق الأهداف المطلوبة.
ط – التوجه الخارجي للاقتصاد السوداني والاعتماد شبه الكامل على العون الخارجي.
* – تفاقم حرب الجنوب التي كانت تكلف 3 ملايين من الجنيهات يوميا، إضافة للخسائر في الأرواح والمعدات والمجاعات وتوقف التنم