الحجاج المشاة في الدولة السعودية تاريخ من الرعاية والتنظيم

خلال تعاقب حكام الدولة السعودية بمراحلها الثلاث، كان تحقيق الأمن للحجاج وتأمين وصولهم إلى داخل الجزيرة العربية حتى الأماكن المقدسة، هو الهاجس الأول، وسجَّل التاريخ أن أكبر عدد من الحجيج في تاريخ الحج، منذ قرون، كان في عهد الملك عبد العزيز، إذ وصل عددهم إلى ربع مليون حاج. ويتعاقب حكام الدولة السعودية الثالثة في تسهيل الخدمات المقدَّمة للحجاج حتى وصل إلى قمته اليوم في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز.
وفي العقود الأولى من توحيد السعودية، مثّل الحج تحدياً جسيماً أمام الدولة الفتية، لا سيما فيما يتعلق بالحجاج الذين يؤدّون فريضتهم مشياً على الأقدام، قادمين من أعماق نجد، أو من أطراف الجزيرة، بل من خارجها أحياناً. ولم يكن الحج حينها رحلة ميسّرة كما هو الحال اليوم، بل كان مساراً محفوفاً بالمخاطر، يعبر خلاله الحاج الصحاري والوديان، ويتعرض للعطش والتعب، وربما لقطاع الطرق أو التيه في الفلاة.
وذكرت الدكتورة نوير مبارك العميري، باحثة في التاريخ الحديث، أن عهد الملك عبد العزيز تميّز بعناية خاصة بفئة الحجاج المشاة، الذين كانوا يشقّون الصحراء قاصدين مكة المكرمة سيراً على الأقدام، لا سيما الفقراء والزهاد الذين لا يملكون وسيلة نقل. وقد اتخذت الدولة السعودية في مرحلتها التأسيسية سلسلة من الإجراءات التنظيمية والأمنية التي هدفت إلى حماية هؤلاء الحجاج وتيسير وصولهم بسلام إلى المشاعر المقدسة.
وأضافت أن الملك عبد العزيز أدرك منذ وقت مبكر أن رعاية الحجاج المشاة وحمايتهم من الأخطار مسؤولية دينية ووطنية، فشرع في إصدار الأنظمة والتعليمات التي تحفظ أرواحهم، وتسهّل وصولهم إلى المشاعر المقدسة، ومن أبرز هذه التنظيمات، ما صدر عام 1345هـ، حين وجّه الملك عبد العزيز باتخاذ خطوات عملية لتنظيم انتقال الحجاج الفقراء الراغبين في السفر من جدة أو ينبع إلى المدينة المنورة سيراً على الأقدام. وجاءت هذه المبادرة حرصاً منه على سلامة الحجاج وتجنّباً لهلاكهم في الصحراء القاحلة، حيث أمر بإبلاغ الحجاج بمخاطر الطريق، وفي المقابل أمر باتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتأمينهم. ومن هذه الاحتياطات إقامة دوريات أمنية منتظمة على امتداد الطريق بين مكة المكرمة والمدينة المنورة، سواء من قوات «الهجانة» أو باستخدام السيارات. وقد تم وضع نظام خاص لهذه الدوريات يُلزمها بقطع الطريق كاملاً يومياً، لتؤدي مهامها المتمثلة في مساعدة الحجاج المنقطعين، والتبليغ عن المرضى والمتوفين، فضلاً عن إلزام سائقي السيارات على الطريق بالتوقف لمساعدة أي حاج بحاجة إلى الماء أو الراحة.
وأبرزت الباحثة العميري أهم تلك الإجراءات التي جرى فرضها في ذلك الوقت من خلال تصاريح نظامية، في خطوة تعكس وعي الدولة بطبيعة المرحلة ومتطلباتها الأمنية والتنظيمية. ففي عام 1350هـ، صدر قرار مهم عن مجلس الشورى (رقم 566 بتاريخ 12/9/1350هـ) تضمّن تعليمات خاصة بالحجاج المشاة، منها ضرورة حصول الحاج الراغب في السفر مشياً إلى المدينة المنورة على رخصة رسمية من مطوّفه في مكة، تصدر عن وكلاء المالية، ليُبرزها عند مروره بالمراكز الأمنية. كما خوّلت إمارة المدينة المنورة بالتحقّق من الحجاج الذين لا يحملون هذا التصريح، ومعرفة أسباب ذلك. ونصّت التعليمات كذلك على أن المطوّفين ملزمون بتبليغ مديرية الشرطة عن الحجاج المفقودين خلال مدة لا تتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، كما تقرر عدم السماح لأي حاج بالسفر مشياً ما لم يكن يحمل تذكرة رسمية، ويحقّ للمراكز الأمنية إعادة من لا يملك هذا التصريح إلى مكة. وقد شكّلت هذه الخطوة نواة لنظام تنظيمي متكامل يهدف إلى حماية الحجاج وتيسير أداء النسك في بيئة آمنة ومنظمة، وهو ما يمثّل تمهيداً للتقدم الكبير الذي نشهده اليوم في ظل رعاية الدولة السعودية للحج.
وقدمت الباحثة العميري بعضاً من الشهادات التاريخية التي توثق تجربة الحجاج المشاة في عهد الملك عبد العزيز من خلال ما رواه الشيخ محمد العبودي عن الشيخ محمد الصمعاني وصاحبٍ له، حيث انطلقا من بريدة سيراً على الأقدام متجهَين إلى مكة المكرمة، وواصلا السير حتى وصلا إلى منطقة رُكبة، الواقعة إلى الشرق من الطائف والسيل الكبير، وهناك أعياهما التعب ولم يعودا قادرين على إكمال الطريق. وفي لحظة حرجة من رحلتهما، صادف مرور سيارات تابعة للملك عبد العزيز كانت متجهة إلى مكة، فحملتهما معها حتى وصلا إلى الحرم، في مشهد يجسّد امتزاج الجهد الشعبي بالتكافل الرسمي، ويعكس عناية الدولة بالحجاج حتى في أقسى ظروف الرحلة.
في السياق نفسه كشفت الباحثة نويّر العميري عمّا رصدته صحيفة «صوت الحجاز» في عددها الصادر بتاريخ 23 من شهر ذي القعدة عام 1351هـ من خلال خبر مدهش عن حاج قدم من الهند يُدعى محمد عبد القادر الحيدر آبادي، الذي انطلق من مدينة حيدر آباد سيراً على قدميه في شهر رجب سنة 1350هـ قاصداً الأراضي المقدسة، وقد سلك طريقاً طويلاً مرّ عبر إيران، والعراق، والشام، والقدس، ومصر، ونجد، والمدينة المنورة، حتى بلغ مكة المكرمة بعد رحلة استغرقت ستة عشر شهراً، قطع خلالها مسافة تُقدّر بـ8527 كيلومتراً. وقد زار مقر صحيفة «صوت الحجاز» وطلب نشر خبر وصوله ليطّلع عليه معارفه في بلاده.
وشددت الباحثة على عناية الملك عبد العزيز بالحجاج المشاة التي شكّلت علامة فارقة في تاريخ التنظيم الإداري والأمني للحجاج والحج، إذ لم تألُ الدولة جهداً في تأمين الطرق، وإقامة الدوريات، وتنظيم حركة الحجاج سيراً على الأقدام، وابتكار وسائل تضمن سلامتهم؛ بدءاً من التصاريح النظامية وصولاً إلى إغاثة المنقطعين. وقد مثّل ذلك الأساس الأول لمنظومة الحج الآمنة التي نراها اليوم، فجزى الله الملك عبد العزيز خير الجزاء، وبارك في قيادتنا الرشيدة التي تواصل هذا النهج المبارك بخدمة ضيوف الرحمن بكل طاقة واقتدار.
aawsat.com