إعادة تدوير أنقاض الحرب بسوريا هل تساعد في تسريع عملية الإعمار
عاشت سوريا على مدار أكثر من 14 عاماً من دمار هائل طال البنية التحتية والمدن، مما أعادها عقوداً إلى الوراء، وخلّف كميات ضخمة من الأنقاض ومخلفات الحرب التي تراكمت على امتداد الجغرافية السورية، والتي تمثل تحدياً كبيراً أمام جهود إعادة الإعمار، وعودة النازحين والمهجرين، إلى جانب الآثار الصحيّة والبيئية الكبيرة التي تهدد الإنسان خصوصاً والنظام البيئي بشكل عام.
وتظهر تقديرات سابقة للأمم المتحدة أن سوريا بحاجة إلى 400 مليار دولار لعمليات إعادة الإعمار، مع تعرّض أكثر من 130 ألف مبنى في جميع المحافظات منذ عام 2011 للدمار، شكلت الأبنية المصنوعة من الخرسانة المسلحة 70% منها، وكان لمحافظة حلب شمالاً، والغوطة الشرقية في العاصمة دمشق جنوباً، النصيب الأكبر من هذا الدمار مع أكثر من 35 ألف مبنى دمرت كلياً أو جزئياً في كل منهما.
كما تعرّض نحو 14 ألف مبنى في محافظة حمص وسط البلاد، و13 ألف مبنى في محافظة الرقة شرقاً، للدمار الكلي أو الجزئي، إضافة إلى نحو 6 آلاف مبنى في كل من محافظات حماه والرقة، ومخيم اليرموك جنوب العاصمة دمشق.
ويقدّر تقرير بعنوان "التقييم المشترك للأضرار في سوريا لعام 2022" -الصادر عن البنك الدولي- إجمالي الأضرار من 8.7 إلى 11.4 مليار دولار، في المدن والقطاعات التي تم تقييمها، وقد شكلت قطاعات البنية التحتية المادية 68% من هذه الأضرار، والقطاعات الاجتماعية 30%.
إعلانوأمام هذا الدمار الهائل، الذي خلّف ملايين الأطنان من الأنقاض، يتضح حجم الكارثة الإنسانية والعمرانية، مما يجعل التخلص منها أو معالجتها تحدياً بيئياً واقتصادياً ضخماً وضرورة ملحة لتنظيف المدن وتسهيل إعادة الإعمار، وإزالة الأخطار الصحيّة والبيئية التي قد تنجم عن مخلفات الحرب.
إعادة التدوير لإعادة الإعمار
تُعد عملية إعادة تدوير أنقاض الحرب وسيلة مبتكرة ومستدامة للمساهمة في إعادة الإعمار، إذ تشمل استخدام بقايا الخرسانة الأسمنتية في تصنيع خرسانة جديدة أو حجارة البناء، كما تشمل جمع الحديد من الهياكل المدمرة وإعادة صهره لاستخدامه مجدداً في بناء هياكل جديدة، عدا توفير تكاليف استخراج وتصنيع مواد بناء جديدة أو استيرادها من الخارج، وتخفيض تكاليف التخلص من الأنقاض، وتوفير فرص العمل.
ويوضّح الباحث السوري الدكتور عبد القادر رشواني، وهو أستاذ مساعد في مجال أبحاث الأسمنت والخرسانة جامعة الشام (شمال غرب) -في حديث لموقع الجزيرة نت- أن الركام الأسمنتي المستخرج من المباني المدمرة يمكن استخدامه بنسبة 20-50% كبديل جزئي للركام الطبيعي في إنتاج الخرسانة الجديدة، دون التأثير بشكل كبير على خصائصها الميكانيكية، وتعتمد هذه النسبة على عدة عوامل، منها جودة الركام المعاد تدويره ونسبة الشوائب، وكذلك المتطلبات الهندسية للمشروع.
وقاد رشواني دراسة نشرتها مجلة "جورنال أوف ماتيريالز إن سيفيل إنجينيرنغ" -مع مجموعة من العلماء في سوريا والمملكة المتحدة وتركيا- وقد ثبت أن استخدام الخرسانة المعاد تدويرها لا يؤثر بشكل كبير على أداء المباني. واستخدمت الدراسة أنقاض المباني المدمرة في 10 مواقع في مدينة الباب وحولها (شمال) لتصنيع الخرسانة من الركام والرمل والأسمنت والماء.
وتختلف عوامل الأمان في الخرسانة المعاد تدويرها عن التقليدية، كما تحتاج إلى مراحل معالجة إضافية لتعزيز عوامل الأمان هذه. ويشمل ذلك -حسب ما يوضح رشواني للجزيرة نت- تنفيذ مراحل معالجة إضافية للركام المعاد تدويره، مثل إزالة الشوائب من بقايا الجبس والطوب، ومعالجة السطح باستخدام مواد محسّنة للالتصاق، كما أجريت تحسينات على المزيج الخرساني بإضافة مواد مكمّلة مثل الرماد المتطاير أو السيليكا لتحسين الأداء وتقليل النفاذية.
ويضيف الباحث أن الخرسانة المعاد تدويرها عند معالجتها وتحضيرها بشكل صحيح لا تسبب تأثيراً سلبياً كبيراً على حديد التسليح. ومع ذلك، ونظراً لأن الخرسانة المعاد تدويرها قد تكون أكثر عرضة لنفاذية الماء إذا لم تُعالج جيداً، فإن الدراسة توصي دائماً باستخدام معالجات مضادة للتآكل لحديد التسليح أو إضافات كيميائية تقلل من نفاذية الخرسانة، لضمان عمر أطول للمباني الجديدة.
إعلانواتبعت الدراسة بروتوكولات صارمة للتأكد من فاعليّة وأمان الخرسانة المعاد تدويرها، وتشمل اختبارات الخصائص الفيزيائية والكيميائية للركام المعاد تدويره، مثل قياس الكثافة والامتصاص ومحتوى الشوائب.
كذلك تتطلب وجود اختبارات مقاومة الضغط والانحناء، والتي أجريت على العينات الخرسانية المصنعة باستخدام الركام المعاد تدويره، واختبارات نفاذيّة الماء والكلوريد، لتقييم مقاومة الخرسانة للتدهور بسبب العوامل البيئية، واختبارات التفاعل بين الركام والحديد، حيث تم تحليل إمكانية حدوث تآكل في حديد التسليح عند استخدام الخرسانة المعاد تدويرها، واختبارات عمر الخدمة الافتراضي، للتأكد من أن الخرسانة المعاد تدويرها تلبّي المعايير المطلوبة لعمر افتراضي مشابه للخرسانة التقليدية.
آثار بيئية
تُخلف أنقاض المباني التي دمرتها الحرب آثاراً سلبية كبيرة على البيئة وصحة الإنسان، نظراً لما تحتويه الخرسانة الأسمنتية من عناصر كيميائية ضارة، وكذلك تأثير العناصر -الموجودة في مواد البناء والإكساء والديكور والطلاء- على التربة والهواء والمياه.
ويوضح المهندس الاستشاري البيئي عمر عاصي -في حديث للجزيرة نت- هذه الآثار، حيث غالباً ما تكون نفايات الهدم الناتجة عن الحروب ملوثة بالعناصر الثقيلة الموجودة في المتفجرات، والتي تلوث المياه بشكل واسع وخطير جداً. وعلى الرغم من إمكانية معالجة بعضها بطرق بيولوجية، فإن هناك عناصر تكون معالجتها أصعب بكثير وتحتاج إلى إجراءات فحص أدق.
وبحسب الباحث فقد أظهرت إحدى الدراسات -التي أجريت على المباني المقصوفة في قطاع غزة خلال العدوان الأخير المستمر منذ أكثر من عام- وجود التنغستين وهو من العناصر الثقيلة، وعثر عليه بكميات كبيرة جداً بنسبة أكثر من 40 ضعفا للمتوسط المتوقع وجوده بالتربة في مناطق القصف، كما يشكّل الزئبق تحدياً آخر حيث عثر عليه بكميات كبيرة تزيد على 16 ضعفا لمعدله الطبيعي.
إعلانكما يشكل الغبار الناتج عن أنقاض المباني تلّوث الهواء، وقد يكون الغبار كثيفاً بالقدر الكافي لإغلاق المناطق المعرضة لمنع انتشار التلوث، ويهدد هذا النوع من التلوث بشكل خاص الفئات الهشة مثل كبار السن ومرضى الأمراض التنفسية.
وتعليقاً على الدراسة السابقة حول تقييم الأثر البيئي لعملية إعادة تدوير أنقاض المباني، يشير عاصي إلى تجارب ناجحة أجريت في قطاع غزة لإعادة استخدام مثل هذا الركام في صنع أحجار البناء "الطابوق" وهي مشاريع تحقق عائدات ربحيّة جيدة كما تخلص البيئة من كميات كبيرة من الركام الملّوث لموارد الطبيعة، وكذلك إمكانية الاستفادة من حديد التسليح بإعادة استخدامه وصهره لإنتاج منتجات جديدة.
وأشار أيضاً إلى إمكانية إعادة استصلاح الأراضي التي تعرضت للدمار بعد رفع الركام منها، ووجود فرص كبيرة لتحسين جودة التربة، وإعادة زراعتها بعد التأكد من خلوها من الملوثات السامة. إلا أن وجود كميات هائلة من الركام الملوث -والذي يحتاج إلى جهود كبيرة لفرزه ونقله وإعادة تدويره- يبقى التحدي الأكبر أمام هذه الجهود.
aljazeera.net