العالم المشوه.. الإنسان يزداد انعزالا والتقنية تزداد سيطرة
نحن الآن في المستقبل، إنه العام 2057، توصلت شركات التقنية إلى تصغير الهواتف الذكية جدا، وأصبح بإمكاننا زرعها مباشرة في أدمغتنا كشريحة. وعندما يفكر الشخص في حقيقة أو معلومة ما، فسوف تخبره الشريحة بالجواب المناسب في أقل من ثانية.
تخيل الآن، بعد أن عاشت أجيال وأجيال بتلك الشريحة المزروعة، وكبرت وهي تعتمد عليها اعتمادا كاملا لتحصيل ما يعرفونه عن الحياة، لدرجة أنهم نسوا كيف كان يتعلم الناس في الماضي: عن طريق الملاحظة، والبحث الدقيق، والاعتماد على المنطق والتفكير النقدي. ثم تخيل هذا: في لمح البصر تحدث كارثة بيئية تدمر شبكة اتصالات الكوكب الإلكترونية، وتُدمّر معها كل الشرائح المزروعة داخل أدمغة البشر، وكأن العالم كله أصبح أعمى في طرفة عين. لن يكون هناك طريقة لإثبات الحقائق، ولن يعرف أحد أي شيء بعد الآن، لأنه ببساطة، لا أحد يعرف كيف يعرف.
في كتابه "شبكة الإنترنت الخاصة بنا: معرفة أكثر وفهم أقل في عصر البيانات الكبيرة"، يتخيل أستاذ الفلسفة "مايكل لينش" تلك التجربة الفكرية، ويعتقد أننا قريبون جدا من الوصول إلى هذه النقطة، إذ لا يمكننا رؤية الحقائق في الواقع، وهو يرى أننا لم نعد قادرين فعلا على الاتفاق حول كيف نعرف.
إعلانربما جزء مهم من هذا التصور هو انغماسنا في العوالم الافتراضية لدرجة أن الحدود بين العالم الواقعي والافتراضي بدأت في الذوبان، وقد لا نملك القدرة في المستقبل القريب على التفرقة بينهما، بل وربما نعيش داخل عالم افتراضي بالكامل، معتمدين فيه على تقنيات حديثة لا نعرف مدى تأثيرها على حياتنا أو تفاعلاتنا الإنسانية.
تلك التقنيات والأجهزة الحديثة هي ما تحاول آبل وميتا، وغيرها من شركات التقنية الكبرى، إقناعنا بأنها تقنيات مفيدة لحياتنا، وستطور من إنتاجيتنا في العمل، و"يجب" استخدامها في مهام وأنشطة يومنا بصورة مستمرة. نحن نتحدث هنا بالطبع عن نظارات الواقع المعزز، أو -للدقة- الواقع المختلط، كنظارة "آبل فيجن برو" الجديدة، التي بدأ بيعها للمستخدمين في بداية شهر فبراير/شباط من العام المنصرم.
بدأ بعض المستخدمين فعلا في تصوير مقاطع فيديو يرتدون فيها نظارة "فيجن برو" في أثناء تأدية مهام يومهم، وربما المهام الأخطر كانت قيادة السيارات، التي غالبا ما تكون من "تسلا" بالاعتماد على القيادة الذاتية. في السادس من فبراير/شباط، وبعد مرور 4 أيام فقط على إصدار النظارة الجديدة، نشرت الإدارة الوطنية لسلامة المرور على الطرق السريعة في الولايات المتحدة بيانا يدعو المواطنين إلى تجنب القيادة وهم يرتدون نظارة "فيجن برو"، وذلك استجابة لمقاطع الفيديو المنتشرة على وسائل التواصل الاجتماعي لمن يقومون بهذا الفعل، حتى إن كانت مقاطع فيديو غرضها المزاح وتلقي الإعجابات والتفاعل.
كما أشار وزير النقل الأميركي السابق في إدارة بايدن عبر حسابه على منصة "إكس"، إلى أن كافة السيارات المتوفرة للمستهلكين، والمزودة بأنظمة متطورة للمساعدة في القيادة، تتطلب انتباه وتفاعل السائق باستمرار.
إعلانReminder—ALL advanced driver assistance systems available today require the human driver to be in control and fully engaged in the driving task at all times. https://t.co/OpPy36mOgC
— Secretary Pete Buttigieg (@SecretaryPete) February 5, 2024
ربما يمنحنا هذا المقطع السابق لمحة بسيطة للغاية عن المستقبل الذي نخشاه؛ رجل يقود سيارة "تسلا" معتمدا على القيادة الذاتية، ومرتديا نظارة "آبل فيجن برو" محركا يديه في الهواء، كعازف أوركسترا بدون جمهور، مستخدما تطبيقات مختلفة داخل عالم افتراضي، ولا يأبه بما يحدث خارج هذا العالم، حتى إن تسبب في كارثة لمن حوله.
سوق راكدة منذ سنوات
في عام 2012، كشفت غوغل عن ما كانت تأمل أن يصبح الثورة التقنية الأكبر في عالم الأجهزة الذكية: نظارات غوغل، وهي كانت أولى تجاربها لنظارة ذكية تعتمد على تقنية الواقع المعزز (AR)، ثم قررت بيع نسخة للمستهلكين بعدها بعامين بسعر وصل حينها إلى 1,500 دولار. كانت الشركة تضع آمالها أن تحقق تلك النظارة للعالم ما حققه الآيفون والهواتف الذكية قبلها بسنوات قليلة، لكن تلك الثورة لم تحدث بالطبع. الفكرة كانت سابقة لعصرها فعلا، لكن الإمكانيات التقنية لم تكن موجودة بعد، والنظارة كانت محدودة ولا يوجد لها استخدامات حقيقية كالهاتف الذكي، مقارنة بسعرها المرتفع للغاية، والأهم أن رد فعل المستخدمين والجماهير كان سلبيا جدا.
في يناير/كانون الثاني عام 2015، أعلنت غوغل إيقافها عمليات بيع النظارة، وإنهاء المرحلة التجريبية لمشروع تطويرها، واستمرت إصدارات النظارة المخصصة للأغراض الصناعية لفترة زمنية أطول، ولكن أوقفتها الشركة أيضا في العام الماضي.
تأتي كل بضع سنوات شركة تقنية أخرى تحاول إحياء هذا التوجه ولكن دون نجاح يُذكر. فمثلا، تجربة مايكروسوفت، عام 2016، مع نظارتها "هولولنز" لم تختلف كثيرا عن فشل تجربة نظارة غوغل، ولم تحقق منها أي مبيعات أو نجاح في هذا السوق، ربما كان أكبر نجاح لها هو الاتفاق مع الجيش الأميركي في عام 2021 على عقد لتصنيع أجهزة الواقع المعزز المخصصة لتدريب الجنود، بناء على تصميم نظارتها "هولولنز"، بأكثر من 120 ألف جهاز.
إعلانأي أن استخدامها في النهاية اقتصر على مهام واضحة ومتخصصة جدا، كما هو الحال مع نظارات الواقع الافتراضي التي تستخدم غالبا في ألعاب الفيديو، ولم ينتشر استخدامها في سوق الأجهزة الذكية الاستهلاكية المعتادة.
وفي الوقت الراهن، لا تروق فكرة الواقع الافتراضي أو المعزز لكثير من المستخدمين، وهذا السوق كان في انخفاض مستمر خلال السنوات الماضية، مثلا انخفضت مبيعات تلك النظارات، سواء للواقع المختلط أو الافتراضي، بنحو 8.3% العام الماضي، وفقا لشركة أبحاث السوق (IDC). كما خسرت شركة ميتا، وهي للمفارقة من الشركات الرائدة في هذا المجال، بسبب استثمارها في نظارات "كويست"، أكثر من 46 مليار دولار في قطاعها لتطوير أجهزة الواقع المعزز منذ عام 2019.
حدث هذا بالطبع بعد فشل فكرة الميتافيرس في اكتساب أي زخم حقيقي، بعدما قرر مارك زوكربيرغ التوجه نحو تلك الفكرة بالكامل للدرجة التي غيّر معها اسم الشركة إلى ميتا، لأن هدفه في الأساس كان حجز أول مقعد في هذا المجال الجديد ليضع شروطه الخاصة.
إذن، لماذا تفكر شركة آبل في دخول هذه السوق الراكدة فعلا منذ سنوات؟
هل ستنجح آبل؟
قد تكون الإجابة الأقرب للواقع: لأنها تحاول التفكير في الأمر من وجهة نظر المستخدم العادي، بإجراء تغيير جوهري في تسويقها لنظارة "فيجن برو" والتأكيد على أنها لا تسعى إلى كسب ود اللاعبين المحترفين، كما تفعل باقي النظارات من شركات أخرى، بل تحاول إضفاء الطابع الاعتيادي على فكرة ارتداء النظارة للاستخدام اليومي في مهام مختلفة كالعمل والترفيه بمختلف أشكاله، لهذا تعتبر أنها بدأت حقبة جديدة من الحوسبة التي تطلق عليها اسم الحوسبة المكانية. لا تفكر الشركة في النظارة كأداة ألعاب أخرى، لكنها تراها كأداة أعمال كالحاسب الشخصي والهاتف الذكي مثلا.
في يونيو/حزيران العام الماضي، مع حدث الإعلان عن النظارة الجديدة، ذكر تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة آبل، أن "اليوم بداية حقبة جديدة للحوسبة؛ كما قدّم لنا جهاز ماك الحوسبة الشخصية، وقدم لنا الآيفون الحوسبة المحمولة، فإن نظارة آبل فيجن برو تُقدِّم لنا الحوسبة المكانية".
إعلانWelcome to the era of spatial computing with Apple Vision Pro. You’ve never seen anything like this before! pic.twitter.com/PEIxKNpXBs
— Tim Cook (@tim_cook) June 5, 2023
لا تحاول الشركة مجرد بيع منتج أو جهاز جديد، لكنها تحاول بيع مفهوم جديد للحوسبة، كأنها تبيع منصة جديدة بنظام تشغيل جديد، في محاولة استحواذ على بدايات هذا النوع الجديد من الحوسبة. بالطبع، كان هذا نفس النهج من التفكير الذي تبنّاه مارك زوكربيرغ عندما أطلق فكرة الميتافيرس، مؤكدا أنها منصة جديدة بالكامل للحوسبة يمكن للمستخدم الاستفادة منها في العمل والتواصل والترفيه وكل تلك الأنشطة اليومية الطبيعية، لكن، كما رأينا جميعا، لم يقتنع أحد بفكرة مارك أو بالميتافيرس.
الفكرة الأساسية في تسويق آبل لنظارة "فيجن برو" أنها ستدمج العالم الواقعي مع العالم الافتراضي، ستختفي الحدود بين العالمين تدريجيا وأنت ترتدي النظارة. وربما هي الفكرة الأكثر إثارة للقلق والخوف، خاصة عندما تدرك أننا لا نحتاج أصلا لمثل تلك التقنيات كي ننغمس أكثر في العالم الافتراضي في وقتنا الحالي. المشكلة الأكبر، بطبيعة الحال، هي أننا لا ندرك كيف سيؤدي النظر إلى العالم من خلال شاشة فقط إلى الإضرار بأدمغتنا وعلاقتنا بالحياة والمجتمع من حولنا.
لذا، فإن الأمر سيكون أعقد قليلا من فكرة توقع نجاح هذه النظارة أم لا، لأن التقنية نفسها عندما تتطور قد تسمح بإنتاج نظارة بمواصفات أفضل، ويمكن استخدامها فعلا في مهام متعددة بعيدا عن كونها جهازا ترفيهيا كما هو الحال حتى هذه اللحظة. لكن ربما ستكون المعضلة حينها: هل سيتقبل المستخدم هذا النوع الجديد من الحوسبة قريبا، أم أن الأمور ستظل على وضعها الحالي؟
الحوسبة المكانية
دائما ما تحدّث تيم كوك عن إمكانات الواقع المعزز بوصفه تقنية مستقبلية، تنقل تجربة العالم الرقمي إلى العالم الحقيقي، وكيف ستدخل تلك الأجهزة في الاستخدام اليومي لمعظم الناس، وربما تأثيرها سيماثل اختراع الإنترنت يوما ما.
إعلانتهدف آبل من طرح نظارتها الجديدة "فيجن برو" إلى دمج الواقع مع المحتوى الرقمي، لهذا يُطلق عليها نظارة "الواقع المختلط (Mixed Reality)"، بجانب تغيير أسلوب تفاعل المستخدم مع هذا المحتوى. كما ذكرنا، تُقدِّم آبل نظارتها الجديدة باعتبارها منصة حوسبة جديدة بالكامل، لا علاقة لها بالهاتف الذكي أو الحاسب الشخصي أو حتى شاشة التلفزيون، وهو نوع الحوسبة الذي يُعرف باسم الحوسبة المكانية.
ويشير المصطلح إلى التقنية المستخدمة في مثل هذه النظارات، التي تدمج بين العالمين الرقمي والحقيقي، ما يسمح للمستخدم بالتفاعل مع المحتوى الرقمي داخل بيئته الواقعية. بينما التقنية الأساسية وراء هذا النوع الجديد من الحوسبة هي "تمرير الفيديو (passthrough)"، التي تسمح للمستخدم برؤية العالم الواقعي والتفاعل معه، في الوقت الفعلي، في أثناء استخدام النظارة ومشاهدة المحتوى الرقمي داخلها.
نظرا لأن التقنية نفسها حديثة نسبيا، فإننا لم ندرك بعد آثارها الصحية والنفسية علينا، لكن بدأت جهود بعض الباحثين في دراسة تلك التأثيرات الصحية والنفسية على الإنسان، والهدف من هذه الجهود هو الحرص على إمكانية استخدام تلك الأجهزة بأمان وفعالية مع تطور تقنية الحوسبة المكانية، باعتبار انتشار استخدام مثل هذه النظارات الجديدة أكثر داخل حياتنا اليومية في المستقبل القريب.
إذ أظهرت دراسة جديدة، نشرها مختبر التفاعل الإنساني الافتراضي التابع لجامعة ستانفورد، أن الاستخدام المتواصل لنظارات الواقع المختلط، مثل نظارة "آبل فيجن برو"، قد يسبب للمستخدمين اضطرابات حقيقية، مثل مشكلات إدراك العمق أو الإصابة بما يُعرف باسم "دوار أجهزة المحاكاة (simulator sickness)"، وهي مجموعة من الأعراض المزعجة التي تشمل الغثيان والصداع والدوار وإرهاق العين، وهو ما عانى منه الباحثون عند اختبارهم لهذا النوع من النظارات في أثناء الاستخدام اليومي.
إعلانشارك 11 باحثا، في هذه الورقة البحثية، بعد اختبارهم واستخدامهم لأكثر من نظارة واقع افتراضي ومعزز، بما فيها نظارة آبل الجديدة ونسخ "كويست 3″ و"كويست برو" من شركة ميتا والعديد من نظارات الرؤية الليلية المختلفة. ووفقا للورقة البحثية، فإن هذا النوع من نظارات الواقع المختلط، التي تستخدم ميزة تمرير الفيديو، قد تؤدي إلى حدوث آثار نفسية سيئة على المستخدم.
الهدف من تلك الدراسة هو وضع إرشادات ومبادئ لبناء أساس مجال الأبحاث في هذا النطاق، المتعلق باستخدام هذا النوع من الأجهزة القابلة للارتداء، لكن نتائج الدراسة تشير إلى وجوب توخي الحذر عند ارتداء تلك النظارات لفترات متواصلة أو طويلة على مدار اليوم.
الحدود بين العالم الافتراضي والواقعي
بينما كانت نظارة غوغل تسمح لمرتديها بمشاهدة العالم الحقيقي بأقل قدر من التشويش، فإن نظارة آبل "فيجن برو" تحوّل العالم إلى شاشة عملاقة عبر عتاد داخلي قوي، لأنها مزودة بشاشتين بدقة 4K مع 23 مليون بيكسل و12 كاميرا ومستشعرات "ليدار" وغيرها، لإعادة تصميم العالم الحقيقي أمام عيني المستخدم على صورة عالم افتراضي. تجتمع كل هذه الكاميرات والمستشعرات والشاشات لإنتاج الميزة الأساسية في النظارة التي تفرقها عن النظارات الذكية السابقة تقنية "تمرير الفيديو" في الوقت الفعلي.
تستخدم نظارة آبل "فيجن برو"، شأنها شأن نظارات ميتا "كويست 3″، تقنية " تمرير الفيديو" التي تلتقط صورة العالم الخارجي وتعيد إنتاجها داخل الجهاز. إذ تزود المستخدم بصور لبيئة اصطناعية مصممة لتبدو وكأنها واقعية،