خبر ⁄تقني

النموذج العملي الياباني لحوكمة الذكاء الاصطناعي

النموذج العملي الياباني لحوكمة الذكاء الاصطناعي

يقدم نهج اليابان لحوكمة الذكاء الاصطناعي دراسة لحالة مفيدة حول كيفية تمكن الدول الديمقراطية من تحقيق التوازن بين التقدم التكنولوجي والإشراف التنظيمي، وقيود الموارد، كما كتب تشارلز موك وأثينا تونغ (*).

ويكمل الاجتماع الأخير بين رئيس الوزراء الياباني، إيشيبا شيجيرو، مع سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وماسايوشي سون، الرئيس التنفيذي لشركة «سوفت بنك»، نهجاً هجيناً يجمع بين نظام أوروبي مؤيد للتنظيم ونظام بيئي تقني بقيادة الولايات المتحدة.

تموضع اليابان الاستراتيجي

يأتي هذا التموضع الاستراتيجي في وقت حاسم، حيث تكافح الدول في جميع أنحاء العالم مع الآثار الناجمة عن تطويرات الذكاء الاصطناعي على أمنها الاقتصادي والوطني.

في السنوات الأخيرة، بدأت اليابان في صياغة إطار تنظيمي متطور يستهدف بشكل خاص شركات التكنولوجيا العالمية الكبيرة؛ ففي ديسمبر (كانون الأول) 2024، قدمت الدولة لوائح تستهدف منصات التكنولوجيا، مثل متاجر التطبيقات وأنظمة التشغيل والمتصفحات ومحركات البحث، التي تضم أكثر من 40 مليون مستخدم.

عقوبات على انتهاكات شركات التكنولوجيا

وتتضمن هذه القواعد عقوبات تصل إلى 20 في المائة من المبيعات اليابانية، في حالة الانتهاكات، وتتصاعد إلى 30 في المائة في حالة المخالفات المتكررة، وتعمل على تنظيم المنصات الكبيرة ضد إساءة استخدام السوق. وفي الوقت نفسه، تسمح بمساحة للتنفس للاعبين المحليين الناشئين.

اصطفاف جيوسياسي تكنولوجي مع أميركا

من ناحية أخرى، تُظهر الضوابط الجديدة على عمليات نقل التكنولوجيا المتقدمة التي أعلنت عنها وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة أن اليابان تدرك تماماً أهمية الاصطفاف مع الولايات المتحدة، من حيث الجغرافيا السياسية للتكنولوجيا. تتطلب هذه اللوائح الإبلاغ المسبق عن عمليات نقل التكنولوجيا، خصوصاً للتطبيقات المتقدمة ذات الاستخدام المزدوج. من خلال اتباع ضوابط التصدير الأميركية، لا تخلق اليابان مساراً تنموياً لصناعة أشباه الموصلات المتجددة فحسب، بل أيضاً قطاع الذكاء الاصطناعي الجديد.

شبكة وطنية لموارد الذكاء الاصطناعي

لقد جلبت الخيارات الاستراتيجية لليابان نتائج مبكرة مشجعة؛ إذ ستساعد الشراكات الواسعة النطاق لشركة «إنفيديا» مع موفري الخدمات السحابية اليابانيين، بما في ذلك «SoftBank» و«GMO Internet Group» و«Sakura Internet»، اليابان على إنشاء شبكة وطنية لموارد الحوسبة بالذكاء الاصطناعي.

يتم دعم هذه التعاونات من خلال برنامج «METI» المصمَّم لتوفير موارد الحوسبة الحرجة عبر الصناعات، مع مراكز البيانات في مواقع استراتيجية عبر المناطق الوسطى والشمالية والغربية من اليابان.

مليون وحدة معالجة للرسومات

يحدد بناء البنية التحتية هذا نغمة تطوير الذكاء الاصطناعي باليابان في المستقبل. يمثل توسع شركة «ساكورا إنترنت لمنشأتها في إيشيكاري، التي تستهدف نشر 10800 وحدة معالجة رسومية من «إنفيديا»، بحلول عام 2027، عنصراً واحداً فقط من استراتيجية وطنية أوسع. يتوقع مؤسس الشركة، كونيهيرو تاناكا، أن اليابان قد تحتاج إلى ما يصل لمليون وحدة معالجة رسومات في غضون عقد من الزمان لتلبية الطلب المتزايد؛ ما يسلط الضوء على الرؤية طويلة الأمد التي تدفع هذه الاستثمارات.

تقييم التطويرات بعد اختراق «ديب سيك»

أجبر ظهور نموذج الذكاء الاصطناعي الفعال لشركة «ديب سيك» الناشئة الصينية على إعادة تقييم عالمية للافتراضات حول تطوير الذكاء الاصطناعي. في حين أن اليابان، على عكس الصين، لا تعاني من نقص في قوة الحوسبة بسبب ضوابط التصدير، فإنها تواجه مع ذلك قيوداً خطيرة على الطاقة.

مشاكل نقص الطاقة

وهناك تساؤلات جوهرية حول قدرة اليابان على دعم استهلاك الطاقة للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي على نطاق واسع؛ حيث تنتج 13 في المائة فقط من احتياجاتها من الطاقة محلياً؛ ثاني أدنى نسبة بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وقد دفع هذا التحدي في الموارد إلى اتباع نهج مبتكر لتطوير البنية التحتية، تماماً كما دفع نقص الرقائق في الصين أمثال «ديب سيك» إلى التفكير خارج الإطار المألوف.

إن نشر «سوفت بنك» لأول أنظمة «Nvidia DGX B200» في العالم، إلى جانب نشرها لتكنولوجيا «AI - RAN» (شبكة الوصول اللاسلكي)، التي تعد بتوفير ما يصل إلى 40 في المائة من الطاقة مقارنة بالبنية التحتية التقليدية، يوضح النهج العملي لليابان لمواجهة قيود الموارد من خلال الابتكار.

نشر الذكاء الاصطناعي

كما تلعب جهود اليابان في مجال خدمات الذكاء الاصطناعي الحكومية دوراً في الاستراتيجية بأكملها. ووفقاً لشركة «أوبن إيه آي»، فإن النشر الناجح للذكاء الاصطناعي في مدينة يوكوسوكا؛ حيث أفاد 80 في المائة من موظفي المدينة بزيادة الإنتاجية، أدى إلى إنشاء شبكة تضم 21 حكومة محلية (بما في ذلك حكومة العاصمة طوكيو ومدينة كوبي) لتبادل أفضل الممارسات.

مشروع ياباني- أميركي مشترك

ويمتد أحدث تشكيل لشركة «SB OpenAI Japan»، وهي مشروع مشترك بنسبة 50 - 50 بين «أوبن إيه آيسوفت بنك» إلى هذا النهج التعاوني للقطاع الخاص؛ حيث يشارك أكثر من 500 شركة يابانية في مختلف الصناعات لتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي المصممة خصيصاً لتلبية احتياجاتها. وهذا بدوره سيعزز الفرص أمام الشركات الناشئة في مجال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، ونأمل أن يكمل نظاماً بيئياً مستداماً للذكاء الاصطناعي في اليابان.

ويعكس وضع الذكاء الاصطناعي في اليابان قدراً جيداً من الدراسة الدقيقة للديناميكيات التنافسية العالمية والإقليمية الناشئة، مع التركيز على أهدافها الاستراتيجية. ويشير تأكيد سون على أن «المزيد أفضل» في تطوير الذكاء الاصطناعي إلى الثقة في المسار الذي اختارته اليابان لتحقيق الكفاءة في الابتكار، مع الحفاظ على تفوقها في بيئة البنية التحتية الوفيرة.

مشاركة اليابان في مشروع «ستارغيت» الأميركي

وعلاوة على ذلك، يمتد التعاون بين «أوبن إيه آي» و«سوفت بنك» إلى ما هو أبعد من اليابان؛ حيث تشارك كلتا الشركتين في مشروع Stargate الذي تبلغ تكلفته 500 مليار دولار في الولايات المتحدة، والذي أعلن عنه الرئيس دونالد ترمب. بعبارة أخرى، يمكن لليابان الحفاظ على سيادتها التكنولوجية، مع المشاركة أيضاً في المبادرات الدولية الكبرى.

استراتيجية اليابان

تقدم استراتيجية اليابان العديد من الدروس الحاسمة للدول الديمقراطية التي تبحر في ثورة الذكاء الاصطناعي.

- أولاً: تحاول إظهار كيف يمكن للإطار التنظيمي المسؤول أن يعزز الابتكار مع حماية المصالح الوطنية والفردية.

- ثانياً: توفر استجابة اليابان لقيود موارد الطاقة رؤى حول مسار تطوير الذكاء الاصطناعي الأكثر استدامة، والسعي إلى الحجم والكفاءة.

مع استمرار تقدم قدرات الذكاء الاصطناعي، فإن الخيارات التي تتخذها الدول بشأن الحوكمة وتخصيص الموارد والتعاون الدولي والمنافسة لن تشكل التطور التكنولوجي فحسب، بل ومستقبل المجتمع الديمقراطي أيضاً. تقدم استراتيجية اليابان الفريدة، التي تجمع بين الرقابة التنظيمية وكفاءة الموارد والشراكة الدولية، مخططاً محتملاً للدول التي تسعى إلى المنافسة، مع الحفاظ على القيم الديمقراطية.

* «ذا دبلومات» - خدمات «تريبيون ميديا»

aawsat.com