أعظم إبداعات البشر.. كيف ساهمت الرياضيات في فهم التعقيد المذهل للكون

مقدمة للترجمة
تتسم الرياضيات بالبساطة والتناظر، فإذا تعاملنا معها باعتبارها لغة، فستُعتَبر أفضل طريقة ممكنة لوصف العالم، ويتمتع البشر بالقدرة على اختراق أدغال الرياضيات العجيبة وشق سبيلهم عبر هذه الأشجار الكثيفة. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: من أين تأتي هذه القدرة؟ ولماذا طورناها؟ وما الغرض منها؟ تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الخوض في أحد أهم النقاشات العلمية وأكثرها احتدامًا في علم الأعصاب، كما يجب علينا أيضًا إعادة التفكير في ماهية الرياضيات نفسها.
نص الترجمة
ترى مريم ميرزاخاني، عالمة الرياضيات الإيرانية، وهي أول امرأة تفوز بجائزة فيلدز (وهي جائزة مرموقة تُمنح في مجال الرياضيات، وتُعتبر أعلى تكريم رياضي عالمي*) أن الرياضيات غالبًا ما تبعث في نفسها "شعورًا أشبه بالتيه وسط غابة كثيفة، حيث يتحتم على المرء استخدام كل ما لديه من معرفة لسبر أغوار بعض الحيل الجديدة، وبقليل من الحظ، قد يجد سبيلًا للخروج".
غاصتْ ميرزاخاني، التي تُوفيت في الرابع عشر من يوليو/تموز 2017 عن عمر يناهز 40 عامًا، في غابة الرياضيات بدرجة أعمق من أغلب الناس الذين قضوا وقتًا طويلًا على حدودها لتصور شكل تضاريسها فقط. تبدو القدرة على التفكير الرياضي العميق ميزة فريدة للبشر مقارنة بالحيوانات الأخرى، إذ يتمتع البشر بالقدرة على اختراق هذه الأدغال وشق سبيلهم عبر هذه الأشجار الكثيفة.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: من أين تأتي هذه القدرة؟ ولماذا طورناها؟ وما الغرض منها؟ تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الخوض في أحد أهم النقاشات العلمية وأكثرها احتدامًا في علم الأعصاب، كما يجب علينا أيضًا إعادة التفكير في ماهية الرياضيات نفسها.
إعلانإن العالم الطبيعي مكان مُعقد ويصعب التنبؤ بمجرى أحداثه، إذ تتغير مواطن الكائنات، وتهاجم الحيوانات المفترسة الكائنات الأخرى، وفي أي وقت قد ينفد الطعام. وتعتمد نجاة الكائن الحي على قدرته على فهم محيطه، سواء من خلال حساب الوقت الباقي حتى حلول الظلام، أو تحديد أسرع طريقة للهروب من الخطر، أو تقييم الأماكن الأكثر احتمالًا لوجود الطعام. ومن جانبه، يقول كارل فريستون، عالم الأعصاب الحاسوبي والفيزيائي بجامعة لندن: "تحتاج هذه القدرات إلى إجراء حسابات رياضية".
ويضيف فريستون: "تتسم الرياضيات بالبساطة والتناظر، فإذا تعاملنا معها باعتبارها لغة، فستُعتَبر أفضل طريقة ممكنة لوصف العالم". فمن الدلافين إلى العفن الغروي، يبدو أن معظم الكائنات الحية تستخدم نوعا من الرياضيات لفهم العالم من حولها، وذلك من خلال تحليل أنماطه وفك رموزه لتبقى قادرة على النجاة والتكيف.
يطرح فريستون فكرة أن أي نظام ذاتي التنظيم (أي كائن حي أو نظام قادر على التكيف مع بيئته) يحتاج إلى نموذج داخلي ضمني عن البيئة المحيطة به ليعمل بكفاءة. وتعود هذه الفكرة إلى سبعينيات القرن الماضي بعدما طُورتْ ضمن نظرية "المنظم الجيد".
كان أحد رواد هذا المفهوم هو روس آشبي، الذي أسس علم السايبرنيتيك (وهو علم يهتم بدراسة التنظيم الذاتي والأنظمة المعقدة*). وفقًا للنظرية، لكي يتمكن الروبوت من التحكم بفعالية، لا بد أن يمتلك نموذجًا داخليًّا لجسده الميكانيكي وبيئته.
يوضح فريستون أن هذا المبدأ أصبح أكثر وضوحًا ودقة اليوم مع تطور التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، والنتيجة المترتبة على ذلك هي أن دماغ الحيوان أيضًا يعمل بالطريقة ذاتها، أي أنه لا بد له أن يكوّن نموذجًا داخليًّا لجسده والبيئة التي يتحرك فيها.
لا حاجة إلى جهد ذهني
الأمر المذهل هو أن جميع الكائنات التي "تصمم نماذج" للعالم من حولها لا تدرك ذلك بوعي، والأمر ذاته ينطبق علينا نحن البشر. فعلى سبيل المثال، عندما نركض لالتقاط كرة أو نتحرك بسرعة وسط زحام المرور، فإن عقولنا تُجري عمليات رياضية معقدة دون وعي منا.
إعلانوفقًا للنظرية، يستخدم كل دماغ نموذجًا داخليًّا للتنبؤ بما سيحدث، كما يُجري تحديثًا على هذا النموذج باستمرار من خلال مقارنة التوقعات مع ما يحدث بالفعل على أرض الواقع.
في السياق ذاته، يقول آندي كلارك، الفيلسوف الإدراكي بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة، إن هذه العمليات الرياضية تُحسَب بلا شك بواسطة أجزاء مُحددة من الدماغ. لكن هذا لا يعني وجود وحدات متخصصة في الدماغ تعمل مثل أزرار الآلة الحاسبة، بضغطة زر واحدة يمكنها إجراء عمليات حسابية. ويؤكد كلارك على ذلك بقوله: "ليس لدينا قدرة مباشرة على إدارة هذه الحسابات لأنها تحدث تلقائيًّا وبطريقة غير واعية".
على الرغم من أن النماذج العقلية التي يبنيها الدماغ تهدف إلى ضمان بقائنا في عالم مُعقد تحكمه قوانين الفيزياء، فإن تركيزها الشديد على إبقائنا على قيد الحياة قد يُفضي أحيانًا إلى تجاوز المنطق، بمعنى أن الدماغ يُفضّل أحيانًا اتخاذ قرارات سريعة تساعدنا على البقاء، حتى لو لم تكن دقيقة أو منطقية تمامًا.
خذ على سبيل المثال، مغالطة المقامر، وهي الاعتقاد الخاطئ بأنه إذا سقطت كرة الروليت على اللون الأحمر عدة مرات متتالية، فإن المراهنة على الأسود ستكون الخيار الأفضل. لكن في الحقيقة، تُعتبر كل دورة مستقلة عن الأخرى، وبالتالي فإن احتمالات ظهور الأحمر أو الأسود تظل متساوية.
إذن، لماذا يقع الدماغ في مثل هذا الخطأ؟ تنص النظرية على أن أدمغتنا طورت هذه النماذج لتساعد أجدادنا على اتخاذ قرارات مصيرية، مثل معرفة متى يجب مغادرة منطقة أصبحت جدباء ولم تعد توفر طعاما. لكن قد يعتمد الدماغ على تجاربه السابقة أو غرائزه في اتخاذ القرارات؛ مما يجعله يتجاهل أو يخطئ في فهم الحقائق الإحصائية الواضحة.
أو لنأخذ على سبيل المثال تأثير ويبر-فيشنر، وهو مبدأ في علم النفس يفسر كيف نستجيب للمحفزات الخارجية، ويوضح كيف يصبح من الصعب ملاحظة الفروق بين الأشياء كلما زادت قوتها أو شدتها. فبينما يُمكن بسهولة تمييز وزن كيلوغرام واحد عن وزن كيلوغرامين، يصعب التمييز بين وزني 21 كيلوغرامًا و22 كيلوغرامًا. وينطبق الأمر نفسه على الحواس الأخرى، ففي الوقت الذي يمكننا فيه تمييز الفرق بين ضوء خافت وآخر أقوى، فإنه عند مستويات السطوع العالية، يغدو من الصعب التمييز بين درجتين متقاربتين من الضوء. وينطبق الأمر ذاته على الأضواء، وشدة الأصوات، وحتى عدد الأشياء التي تستطيع رؤيتها (وبالتالي، كلما زادت شدة المحفزات، أصبح من الصعب ملاحظة الفروق بينها*).
إعلانوعلى الرغم من أن عقول البشر ترتكب نفس الأخطاء الإدراكية التي تقع فيها عقول الحيوانات، فقد طورنا القدرة على تحديد بعض هذه الأخطاء والتغلب عليها، مثل اختراعنا للأرقام التي تُعتبر نظاما ترميزيا يسمح لنا بإجراء الحسابات بدقة، كإدراك أن الفرق بين 1 و2 هو نفسه الفرق بين 21 و22. فابتكار هذه اللغة الرمزية المعقدة للرياضيات لم يسمح لنا بتجاوز بعض القيود التي يفرضها عقلنا الباطن فحسب، بل مكّننا من استكشاف المفاهيم المجردة بعمق ونقلها إلى الآخرين. لكن يبقى السؤال الأساسي: "كيف طوّرنا الأدوات اللازمة لفهم ما تفعله أجسادنا غريزيًّا؟".
قدرة فطرية على فهم الأعداد
تنص إحدى الأفكار القديمة الراسخة على أننا نولد بحسٍّ واعٍ للأرقام بالطريقة ذاتها التي ندرك بها الألوان. في كتابه "الإدراك العددي" الصادر عام 1997، افترض عالم الأعصاب الفرنسي ستانيسلاس ديهاين من وحدة التصوير العصبي الإدراكي التابعة للمعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية في جيف سور إيفيت بفرنسا، أن البشر والحيوانات الأخرى يتمتعون بقدرة فطرية على الإدراك الفوري للأعداد.
بعبارة أخرى، عندما يرى الإنسان ثلاث كرات زجاجية حمراء، فإن عقله يدرك العدد 3 بالطريقة ذاتها التي يدرك بها اللون الأحمر، دون الحاجة إلى العدّ. ورأى ديهاين أن هذه القدرة العددية تتميز بدقة عالية فيما يخص الأرقام الأقل من 4، إلا أنها سرعان ما تفقد دقتها بزيادة هذه الأعداد، ولكنها مع ذلك تُمثل قدرة مدمجة في الدماغ بالفطرة. وستساعدنا هذه القدرة الفطرية في شق طريقنا عبر الغابة الرياضية (أو بمعنى آخر عبر تعقيدات الحسابات الرياضية*).
سرعان ما بدأت الأدلة تتراكم لدعم هذه النظرية الفطرية (التي تفترض أن إدراك الأعداد ليس مكتسبًا، بل قدرة يولد بها الإنسان*). أظهرت إليزابيث سبيلكي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وزملاؤها أن الأطفال بعمر 6 أشهر يمكنهم التمييز بين مجموعة تحتوي على 8 نقاط وأخرى تحتوي على 16 نقطة.
كما أفاد ديهاين وزملاؤه أن أفراد قبيلة الموندوروكو في الأمازون البرازيلية، لا يمتلكون كلمات تعبر عن أرقام تزيد على خمسة، ورغم ذلك، فهم قادرون على التمييز بين كميات أكبر بكثير، وهو ما يؤكد على أن الإحساس العددي موجود بغض النظر عن الثقافة أو اللغة.
وذلك في حين أشارت دراسات أخرى إلى أن البشر يميلون تلقائيا إلى تصور الأرقام مرتبة على خط متصاعد، تزداد فيه الأرقام تدريجيا. كما بزغت أدلة تشير إلى أن الحيوانات تمتلك أيضًا حسًّا عدديًّا، وتنص هذه الدراسات على أن إحساسنا بالأعداد هو قدرة فطرية، لكنها تطورت عبر آلاف السنين بفضل الثقافة.
إعلانلكن بعد فترة من الزمن، ساور بعض الباحثين شعور بعدم الارتياح إزاء نتائج هذه الدراسات، وبدؤوا التساؤل عمّا إذا كان المشاركون في الدراسات يميزون بين مجموعتين من النقاط بناءً على عددها فعلًا، أم أنهم يعتمدون على عوامل أخرى، مثل التوزيع المكاني للنقاط (كيف تتوزع النقاط في الصورة*)، أو المساحة التي تغطيها النقاط.
وعن ذلك، تقول الباحثة في علم الأعصاب الإدراكي تالي ليبوفيتش: "هذه إشارات مرتبطة عادةً بالعدد، لذلك من المنطقي أن يعتمد عليها الدماغ". فمثلًا إذا كنت حيوانًا في البرية وتحتاج إلى صيد شيء ما بسرعة، فغالبا ما ستحتاج إلى استخدام جميع الإشارات المتاحة لكَ، وليس مجرد العدد فقط.
عند إجراء المزيد من الدراسات، تبين أن البشر لا يعتمدون فقط على الأعداد، بل يستخدمون أيضًا إشارات غير عددية. ومع ذلك، أدى هذا الاكتشاف إلى ظهور فرضية جديدة: ربما لم نولد بحس فطري بالأعداد، بل بحس فطري للكميات بصورة عامة مثل حجم الأشياء وكثافتها، إذ إن الكميات غالبًا ما ترتبط بعددها. وتوضح ليبوفيتش أن تطوير هذا الإدراك وفهم العلاقة بين الكمية والعدد يتطلب وقتًا وخبرة.
كما تشير الاختبارات الإدراكية الأكثر دقة التي أُجريت على الأطفال إلى دعم هذه الفرضية الجديدة. فمثلا، لا يستطيع الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 4 سنوات إدراك أن خمس برتقالات وخمس بطيخات تشترك في شيء واحد، وهو العدد 5. بالنسبة لهؤلاء الأطفال، تبدو مجموعة البطيخ وكأنها "كمية أكبر" مقارنة بالعدد ذاته من البرتقال، لأنهم يعتمدون على الحجم والإحساس بالكثرة بدلًا من العدد الفعلي.
في حين يؤكد عالم النفس التطوري دانيال أنصاري من جامعة ويسترن أونتاريو في كندا أن تعليم الأطفال الصغار كيفية ترتيب الأرقام والعد لا يعني بالضرورة أنهم يفهمون معناها الفعلي على الفور. فبدلًا من ذلك، يحدث هذا الفهم بصورة غير مباشرة عبر التعرض الطويل والتدريجي للأرقام في الحياة اليومية، من خلال التفاعل مع الوالدين والأشقاء. ويشير أنصاري إلى أن الثقافة تؤدي دورًا قويًّا في تعلم التمثيلات الدقيقة للأعداد (وهو ما يعني أن إدراك الأرقام ليس فطريًّا بالكامل، بل يتشكل تدريجيًّا بفعل الممارسات الثقافية والتجربة المستمرة*).
إعلانويعتقد أنصاري أن دراسة تأثير الثقافة في فهم الأعداد كانت منحازة، لأن معظم الأبحاث ركزت على المجتمعات الصناعية ولم تهتم كثيرًا بالثقافات الأخرى. لهذا السبب، قد يكون الاعتقاد بأن إحساس البشر بالأعداد هو أمر فطري غير دقيق، لأن الثقافة والتجربة تؤديان دورًا كبيرًا في تعلم الأرقام.
خذ على سبيل المثال شعب اليوبنو في بابوا غينيا الجديدة. اكتشف رافاييل نونيز من جامعة كاليفورنيا في سان دييغو أن هذا الشعب لا يستخدم خط الأعداد العقلي الذي يُفترض أنه عالمي. فضلا عن أن لغتهم لا تحتوي على كلمات للمقارنة مثل "أكبر" أو "أصغر".
وهذا لا يعني أن لغة اليوبنو بدائية، بل على العكس تمامًا. في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، توجد أربع كلمات فقط للإشارة إلى الأشياء بناءً على قربها أو بعدها. أما لغة اليوبنو، فتتمتع بكلم