انهيار دالة الموجة.. كيف تشكل ميكانيكا الكم واقعنا اليومي

مقدمة الترجمة
في العالم الكمومي، حيث تتراقص الجسيمات في بحر من الغموض والاحتمال، يبرز سؤال قديم: ما هو الواقع؟ هل هو ثابت كما نراه بأعيننا، أم أنه متغير، يتشكل ويتلون بحسب ملاحظاتنا له؟ في هذا العالم الكمومي المليء بالشكوك، تقف مشكلة القياس كعائق رئيسي، تسأل عن كيفية تأثيرنا في ما نراه من حولنا. تفسيرات متعددة تتقاطع وتتنافر، كل واحدة تحمل مفتاحًا لفهم ما وراء الستار، وتفتح أمامنا أبوابًا من التساؤلات التي تتعلق بمفهومنا عن الواقع وهل هو مستقل عن ملاحظاتنا أم متشابك معها.
نص الترجمة
لا تكمن المعضلة الحقيقية لميكانيكا الكم، أو السبب في أن يقف حتى الفيزيائيون أمامها حائرين؛ في أنها ترسم لنا واقعًا غريبًا وغير مألوف، فليس من الصعب أن نتقبل أن عالم الجسيمات الأولية، ذاك العالم الخفي الذي يتعذر علينا أن نراه أو نلمسه، يختلف كليًا عن عالمنا الذي نعيشه ونُدركه بحواسنا.
فما إن نتساءل عما يحدث فعليًا للجسيم قبل إجراء القياس عليه، حتى نلاحظ أن نظرية الكم لا تُجيب عن هذا التساؤل، إذ لا تكمن المشكلة الحقيقية في أن ميكانيكا الكم ترسم عالمين مختلفين، بل في أنها تترك المساحات الرمادية بينهما دون تفسير. بمعنى أنها لا ترسم لنا الطريق الذي يعبر من عالم الجسيمات الغامض إلى واقعنا الملموس. ونتيجة لذلك، وبعد قرنٍ من نقشها على جدار العلم بوصفها تحفة علمية، لم تكشف لنا بعدُ عن جوهرها في تفسير الواقع.
إعلانلسنا في عوزٍ من الأفكار، بل العكس من ذلك، فالتفسيرات تتكاثر، والمفاضلة بينها ليست مسألة دليلٍ علمي حاسم، بل أقرب إلى الذوق الشخصي أو إلى اعتبارات فلسفية، إذ إن معظمها عصيّ على التجربة ولا يخضع للاختبار. وكما قال الفيزيائي ن. ديفيد ميرمين مازحًا ذات مرة: "تتوالى التفسيرات الجديدة عامًا تلو آخر، ولا يكاد يختفي منها شيء".
هل ما نراه هو الواقع حقًا؟
غير أنه في العقد الأخير، بدأت الأمور تأخذ منحًى مختلفًا، فمثلًا، أحد التوجهات الجديدة في النظرية هي أنها أصبحت تقدِّم توقعات قابلة للرصد تجريبيًا، مما أيقظ الأمل بإمكانية تحقيق تقدم علمي حقيقي يُضيء فهمنا لهذه النظرية.
وفي الوقت نفسه، اكتسب توجه آخر في نظرية الكم زخمًا قويًا لأنه يبدو قادرًا على حل العديد من الألغاز المُحيِّرة في نظرية الكم دفعة واحدة. ولكن هذا التوجه يُثير تساؤلًا كبيرًا، حيث يفترض أنه لا يوجد شيء يُسمى "الواقع الموضوعي".
وما قد يبعث على التفاؤل أكثر في مجال نظرية الكم، هو أن الفيزيائيين بدؤوا استكشاف طرق جديدة لاختبار صحة الافتراضات التي تقوم عليها النظرية. تتمثل هذه الخطوة في تحويل التجارب الذهنية المعقدة إلى اختبارات حقيقية على أرض الواقع، وهو ما سيفسح المجال لإحراز تقدم حقيقي في فهم ما تحاول نظرية الكم أن تشرحه أو تكشفه.
وتعليقًا على ذلك، يقول إريك كافالكاني، عالم الفيزياء الكمية في جامعة غريفيث في كوينزلاند بأستراليا: "نحن الآن قادرون على تقليص الاحتمالات".
زعزع تطور ميكانيكا الكم في منتصف عشرينيات القرن العشرين الأفكار الراسخة حول آلية عمل الكون، فمنذ أن صاغ إسحاق نيوتن قوانينه للحركة والجاذبية في القرن 17، بنى الفيزيائيون نظرياتهم بطريقة معينة تتضمن نظاما فيزيائيا (مثل حركة الأجسام)، ومعادلات رياضية تحدد كيف سيتغير هذا النظام مع مرور الوقت.
إعلانلكن الميكانيكا الكلاسيكية تعجز عن تفسير سلوك الجسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات. وتشير التجارب إلى أن هذه الجسيمات تتصرف بطرق غريبة جدًا لا تتوافق مع المنطق الكلاسيكي. فعلى سبيل المثال، نجدها تتصرف أحيانا كموجات ويبدو أنها توجد في حالة "تراكب"، أي أنها تكون في عدة حالات أو أماكن في الوقت نفسه، بدلًا من أن تكون في حالة واحدة محددة. لكن هذا التراكب لا يستمر إلى الأبد، فعند قياس الجسيم، سرعان ما يكتسب خصائص مُحددة.
تُجسّد معادلة شرودنغر هذا الغموض العميق، إذ تحتضن في طياتها مفهومًا رياضيًا يُعرف بدالة الموجة، تلك التي تضم في نسيجها كل الاحتمالات الممكنة لما قد نرصده. ومن خلالها يمكننا حساب احتمال ظهور الجسيم في مكان معين لحظة القياس، وهي اللحظة التي يُقال فيها إن دالة الموجة قد "انهارت" إلى واقع محدد. لكن، حتى في أفضل أحوالها، لا تملك هذه المعادلة أن تمنحنا يقينًا بنتيجة واحدة، فما قبل القياس ليس إلا عالمًا من الاحتمالات، لا من الحقائق.
مجهولات الكون المهيبة
ما الذي يحدث قبل لحظة القياس؟ الحقيقة أن نظرية الكم لا تُجيب على هذا السؤال، بل إنها لا توضح حتى ما الذي يُعَدُّ "قياسًا" من الأساس. ولا تُخبرنا إن كانت دالة الموجة -التي تُعرف غالبًا بالحالة الكمومية- تمثل واقعًا ماديًا فعليًا.
وهنا تبرز المفارقة، فنظرية بهذا المستوى من القوة والنجاح العلمي، تحمل بين طياتها كمًّا كبيرًا من الغموض. لكن جميع هذه الأسئلة ينتهي بها الحال إلى سؤال جوهري واحد: كيف ينبثق هذا العالم المنظم، الواضح، والقابل للتنبؤ (عالمنا اليومي المصنوع من ذرات وجسيمات*) من عالم كمومي ضبابي وغير مرئي؟ هذا ما يُعرف في أوساط الفيزيائيين بمشكلة القياس التي لا تزال إلى يومنا هذا أعقد أسرار ميكانيكا الكم وأكثرها إرباكًا.
إن التفسير التقليدي والأكثر شيوعًا لميكانيكا الكم يُعرف باسم "تفسير كوبنهاغن"، وقد سُمي كذلك نسبة إلى المدينة الدنماركية التي نشأ فيها هذا التوجه. ووفقًا لهذا التفسير، لا يمكننا معرفة أو قول أي شيء عن حالة الجسيم قبل قياسه، (بعبارة أخرى، الواقع لا يتحدد إلا في لحظة القياس*).
إعلانورغم غرابة هذا الطرح، فإن الرياضيات التي تستند إليها النظرية تعطي نتائج صحيحة، ولهذا أصبح شعار بعض الفيزيائيين كما قال الفيزيائي ميرمن ساخرًا: "اصمت واحسب!".
لكن هذا التفسير لم يكن مقبولًا لدى الجميع، فقد كان آينشتاين نفسه من أبرز المعارضين، ورفض فكرة أن الكون يعمل على أساس الاحتمالات، وآمن بأن هناك قوانين حتمية تحكم الطبيعة، وعبّر عن رفضه الشهير لتفسير كوبنهاغن بقوله: "الله لا يلعب النرد مع الكون".
لا يزال الكثير من الفيزيائيين يرون في تفسير كوبنهاغن نوعًا من التهرّب الفكري في مواجهة الأسئلة العميقة حول طبيعة الواقع. وعن ذلك، يقول الفيزيائي النظري رودريش تومولكا من جامعة توبنغن في ألمانيا، إن هذا التفسير لا يقدِّم إجابة جادة على سؤال جوهري: "ما الذي يوجد فعليًا في هذا الكون؟"، مشيرًا إلى أن ما يريده العلماء هو فهم حقيقي لطبيعة الواقع ذاته، لا مجرد أدوات رياضية تعطي نتائج صحيحة.
وما يزيد من غرابة هذا التفسير أنه يترك الباب مواربًا أمام فكرة تبدو عبثية للوهلة الأولى، وهي أن الإنسان الواعي، المُراقِب، هو من يتسبب في انهيار دالة الموجة، وكأن الواقع لا يتبلور إلا حين ننظر إليه.
ينتمي الفيزيائي رودريش تومولكا إلى المدرسة التي تُفضل تفسيرًا لميكانيكا الكم، التي ترى في دالة الموجة شيئًا حقيقيًا ماديًا، أي أنها تمثل العالم كما هو، سواء كنا نراقبه أم لا. هذا النوع من التفسيرات لا يربط وجود الواقع الفيزيائي بوعي الإنسان أو عملية القياس.
ومن أشهر هذه التفسيرات يأتي "تفسير العوالم المتعددة"، الذي يفترض أن جميع النتائج المحتملة التي تحتويها دالة الموجة تحدث فعليًا، لكن في أكوان متعددة تتفرع عن عالمنا، ويشهد كل منها حدوث واحدة من هذه النتائج، ليشكل بذلك سلسلة من الأكوان المنفصلة التي تتوالد من تجربتنا الكونية.
إعلانلكنّ ثمة اتجاهًا آخر يُعرف باسم "الانهيار الموضوعي"، يضم مجموعة من النماذج التي ترى أن ميكانيكا الكم ليست مكتملة، وأن شيئًا ما لا بد أن يُضاف إلى معادلة شرودنغر كي يُفسّر ظاهرة انهيار دالة الموجة.
وتأكيدًا على ذلك، يقول أنجيلو باسي، الفيزيائي النظري في جامعة ترييستي الإيطالية: "الفرق الجوهري بين هذا التفسير والتفسير التقليدي هو أن انهيار دالة الموجة لا يحدث كأنه تعويذة سحرية تُلقى عند نهاية القياس، بل هو ببساطة جزء طبيعي من الديناميكا التي تحكم النظام".
في السنوات الأخيرة، حظيت نماذج الانهيار باهتمام أكبر من معظم التفسيرات الأخرى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها تقدّم تفسيرًا معقولًا لكيفية نشوء الواقع الكلاسيكي دون الحاجة للرجوع إلى المراقب البشري. فوفقًا لهذا الطرح، فإننا لا نرى الأجسام الكبيرة مثل إطارات الصور أو فرش الرسم في حالة تراكب كمومي (أي في حالتين أو أكثر في آنٍ واحد)، لأن عملية الانهيار تعمل بطريقة طبيعية كلما زاد عدد الجسيمات المتفاعلة في النظام.
بمعنى آخر، كلما زاد تعقيد الجسم وحجمه، زادت سرعة انهيار حالته الكمومية إلى حالة واحدة محددة، مما يجعل الواقع الذي نراه مستقرًا وموحدًا دون تدخل أو ملاحظة من الإنسان.
لكن، ما الذي يُشعل فتيل هذا الانهيار المتواصل؟ الحقيقة أن الغموض ما زال يحيط بالإجابة. بعض النماذج تصمت تمامًا، وأخرى تهمس بأن الجاذبية هي السبب. لكن أنجيلو باسي يرى أن السر قد لا يُجاب عليه بجواب قاطع، بل ربما يكون الانهيار سِمة أصيلة من سمات الطبيعة، لا تفسير لها سوى أنها كذلك.
ويقول: "لهذا أحب نماذج الانهيار، لأنها لا تغلق الباب على ما نجهله، بل تفتحه على مصراعيه أمام عالم جديد لم تُسبر أغواره بعد.. شيء يتجاوز حدود ميكانيكا الكم، ويقبع خارج مدى فهمنا الراهن".
إعلانأما الفرق الحقيقي الذي يميز نماذج الانهيار عن غيرها هو أنها قابلة للاختبار. فعلى عكس العديد من تفسيرات ميكانيكا الكم التقليدية، فإنها تُقدِّم تنبؤات تجريبية واضحة يمكن قياسها عمليًا.
تكمن الفكرة الأساسية وراء هذه النماذج في أن عملية الانهيار العفوي المستمرة للأجسام الكمومية يجب أن تؤدي إلى اهتزاز مستمر للجسيمات، وهو ما يؤدي بدوره إلى إصدار طاقة زائدة من هذه الجسيمات. ويجب أن تكون هذه الطاقة الزائدة قابلة للرصد، حتى وإن كانت الإشارة الناتجة عنها في غاية الضعف.
على مدار العقد الماضي، انخرط باسي وزملاؤه من مختلف أنحاء العالم في برنامج تجريبي طموح، بحثًا عن إشارة قد تكشف السر وراء الانهيار الكمومي. وقد استعانوا بشكل أساسي بأجهزة الكشف التي كانت مُصمَمة للكشف عن آثار المادة المظلمة أو جزيئات النيوترينو المراوغة، مثل الأدوات فائقة الحساسية المدفونة في أعماق الأرض تحت جبال غراند ساسو في إيطاليا.
وبمرور الوقت، بدأت نتائج تلك الجهود تظهر تدريجيا. ففي عام 2020، على سبيل المثال، استطاع فريق يضم باسي وكاتالينا كورسيانو، الباحثة في المعهد الوطني الإيطالي للفيزياء النووية، أن يستبعد أبسط أشكال أحد النماذج التي افترضت أن الجاذبية هي المسؤولة عن الانهيار الكمومي.
ما زالت التجارب المماثلة جارية، ومع كل تحليل جديد نواجه قيودًا إضافية تحدد أيا من هذه النماذج قد يكون قابلا للتطبيق. ورغم أن فرصة استبعاد الانهيار الموضوعي باستخدام التجارب تُعد تقدمًا في حد ذاتها، فإن عملية تحقيق ذلك ما تزال بطيئة جدًا. ومن جانبه، يعلِّق باسي قائلًا: "حتى الآن، لم نرَ أي إشارة، لكن هذه مجرد البداية".
لو تمكّنا من رصد إشارة يتفق الجميع على أنها تدعم فرضية الانهيار الموضوعي، فستكون بلا شك جديرة بجائزة نوبل. لكن، بحسب ما تشير إليه ماغدالينا زيخ، من جامعة ستوكهولم في السويد، فإن هذا لا يعني بالضرورة أننا سنفهم فورًا ما تعنيه نظرية الكم، إذ لا يزال علينا أن نكتشف ما هو العامل في البيئة الذي يسبب هذا الانهيار في المقام الأول.
إعلانفي السياق ذاته، تقول زيخ إن الكشف عن إشارة تدعم الانهيار الموضوعي سيكون بمثابة حل لمشكلة القياس، بمعنى إذا كنتَ تؤمن بأن نظرية الكم تفتقر إلى عنصر مفقود، فإن هذا هو العنصر المقصود.
لكنها تضيف أن هذا لا يعني أننا سنفهم بالضرورة ما الذي تحاول نظرية الكم أن تخبرنا به عن طبيعة الواقع، إذ ما زال علينا أن نمنحها معنى، أن نُسمي ذلك الهمس الغامض في البيئة، ذلك "الضجيج" الذي يتسبب في انهيار دالة الموجة.
وما هو أعمق من كل ما سبق -كما تقول زيخ- هو أننا حتى لو نجحنا في حل لغز "الانهيار الكمومي"، فلن نقترب كثيرًا من فهم لماذا تظهر خصائص الجسيمات عند القياس بطريقة احتمالية لا تخضع لقانون صارم. إننا رغم شغفنا باليقين مضطرون إلى الحديث عن الاحتمالات. وتتابع زيخ: لا يوجد سبب بديهي يمنع الجسيم