كيف وجدت مواد الإغاثة طريقها للأسواق.. فساد بين ركام الحرب..
تحقيق: (المركز السوداني للإعلام الديمقراطي)
يكشف هذا التحقيق عن فساد كبير في إدارة ملف الإغاثة في السودان أدى الى بيع الجزء الاكبر منها فضلا عن المحسوبية والانحيازات العنصرية في توزيع ما تم توزيعه مجانا، وتوصل التحقيق الى ان هناك شبكات متعاونة في تسويق المساعدات الانسانية تبدأ من الجهات الحكومية مرورا بوسطاء وصولا الى عناصر من الجيش ومن الدعم السريع تنسق مع بعضها البعض لتسهيل عبور “شاحنات الإغاثة” من والى مناطق سيطرة الطرفين.
ودّع السودانيون عام (2024)، لكنهم لم يودعوا مأساة النزوح والتشرد، وبحلول (2025) توشك الحرب المُستعرة في السودان على إكمال عامها الثاني، ولاتزال الأزمة الإنسانية الناجمة عن الصراع المُدمر تتفاقم بشكل حاد، ويعاني (14) مليوناً يشكلون (33%) من السكان، مأساة كارثية وسط تمدد وإتساع رقعة القتال المسلح، بعد أكثر من (500) يوم على إندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل 2023.
تؤكد لجنة مراجعة المجاعة التابعة لتصنيف مرحلة الأمن الغذائي المتكامل وفقاً لتقرير صادر في (ديسمبر 2024)، أن ظروف المجاعة موجودة في خمسة مواقع على الأقل في السودان، بما في ذلك مخيمات النازحين في شمال دارفور وجبال النوبة الغربية في جنوب كردفان.
وطبقاً للأمم المتحدة يواجه نحو 25 مليون شخص (أكثر من نصف السكان)، مستويات عالية لانعدام الأمن الغذائي الحاد، بينهم ما يربو على 11 مليوناً أجبرتهم الحرب على النزوح داخل السودان خلال 20 شهراً من الصراع المحتدم دون التوصل لاتفاق يوقف إطلاق النار بين طرفي الحرب، حيث يبقى الحُلم بعيد المنال – حتى الآن على الأقل.
تتطلب خطة الاستجابة للاحتياجات الإنسانية في السودان لعام 2024 مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي لتوفير المساعدات المتعددة للقطاعات المنقذة للحياة والحماية لفائدة 14.7 مليون شخص في جميع أنحاء السودان. وحتى 29 يوليو 2024 تلقى النداء تمويلاً بنسبة 31.9 في المائة، مع تحصيل 859.3 مليون دولار، وفقاً لخدمة التتبع المالي.
ورغم شُح الاستجابة مقابل الاحتياجات الإنسانية المتنامية يوماً بعد يوم، لكن آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية والإغاثية تدفقت نحو السودان بحراً و جواً وعبر الطرق البرية إلى مدينة بورتسودان الساحلية التي تتخذ منها السلطات المركزية عاصمة ادارية مؤقتة للسودان، وكذلك عبر ” معبر أدري” الحدودي مع إقليم دارفور..
وتفيد متابعات فريق التحقيق: أن جملة المساعدات الإنسانية المقدمة للشعب السوداني- خصوصاً للنازحين في المناطق الآمنة بلغت آلاف الأطنان تدفقت عبر المطار والمنافذ البرية والبحرية في شرق السودان و( معبر أدري) الى دارفور.
هل وصلت هذه المواد الإغاثية الى مستحقيها؟
خلال شهور منصرمة، عكف فريق العمل على تقصي الحقائق للإجابة على فرضية “وجود فساد في توزيع الاغاثة أدى الى تسريب المساعدات الإنسانية للأسواق وتورط نافذين في الاتجار بالمواد الإغاثية” ..
(-) شواهد و شكوك
شكاوى متكررة عبر عنها مئات الأفراد والأُسر النازحة من ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار، بعدم تلقيهم الإعانات الضرورية، رغم ما يصدر عبر وسائل الإعلام عن وصول كميات ضخمة من الإغاثة إلى البلاد ؟! .. هذا الأمر كان بمثابة الخيّط الذي تتبعه فريقنا، وشيئاً فشيئاً تزايدت المعلومات، لتضعنا أمام نقطة (الشك المعقول) بوجود فساد إداري كبير طال عمليات توزيع الإغاثة إلى حد تسرب المساعدات الإنسانية المجانية لتُباع في الأسواق عبر أفراد وشبكات مشبوهة نشطت في الإتجار المحظور.
المعلومات الأولية فتحت أسئلة مُلحة لدى “فريق التحقيق” للتقصي عن: كيفية تسرب المساعدات الإنسانية..؟ وماهي الجهات المسؤولة عن ذلك ابتداءً ..؟، وماهي أساليب المتاجرة المتبعة ..؟.. ومن المستفيد و الرابح الأكبر على حساب أصحاب الحوجة الأساسيين..؟ وما دور المانحين والجهات العاملة على توزيع الإغاثة..؟.
تحفظ عدد كبير من التجار الذين يبيعون المساعدات الإنسانية إزاء الحديث معنا في سياق التحقيق بدواعي وأسباب تشترك في المخاوف من تعرضهم للمضايقات والمساءلة ما يدل على ادراكهم بحجم مخالفات هذا النشاط للقانون، بينما قدم البعض إفادات حذِرة، طالب آخرون بحجب أسمائهم الحقيقية.. ومن منطلق المسؤولية والحماية الشخصية للبعض آثرنا استخدام “أسماء مستعارة” في جزئيات محددة من سياق هذا التحقيق لاعتبارات ودواعٍ أمنية..
(-) رصد ومشاهدات
أمام مركز مخصص لتوزيع المساعدات الإنسانية في مدينة بورتسودان، رصد فريق التحقيق، تكدس مئات الأُسر لساعات عديدة وسط مكابدات ومشّاق كبيرة في سبيل الحصول على مواد غذائية تسد رمقهم في ظلل الأوضاع المعيشية الضاغطة والغلاء الطاحن في أسعار السلع الاستهلاكية ..
وصوب نازحون خلال استطلاع أجراه “فريق المحققين”، اتهامات مباشرة بالفساد للسلطات المركزية والقوات العسكرية المتحاربة بدعاوى تحويل مسار المساعدات والمواد الإغاثية المجانية إلى غيّر مستحقيها واستخدامها في كسب الولاء السياسي وخدمة الأجندة الحربية، علاوة على جعلها نشاط تجاري يتكسب من ورائه سماسرة وموظفون ومراقبون فاسدون.
ذات الشكاوى والاتهامات والملاحظات، عن تسرب مواد الإغاثة إلى الأسواق وردت أيضاً، في إفادات متطابقة وثّقها (فريق التحقيق) بإقليم دارفور برصده شواهد عن تسرب الإغاثة وعرضها للبيع، وفي حالات أخرى جرى توزيعها لغيّر أصحاب المصلحة الحقيقيين، وتم ذلك بأمر السلطات المحلية..!.
استطاع فريق التحقيق خلال جولة ميدانية داخل السوق الكبير في مدينة بورتسودان، توثيق تسرب الإغاثة، إذ رصد في نوافذ البيع أصنافا غذائية ( أرز ، سكر ، دقيق ، ولبن مجفف) تحمل (ديباجات) كتب عليها ( يوزع مجانا)، بجانب أسماء الجهات المتبرعة، لكن رغماً عن ذلك فهي معروضة في المتاجر وبين أيدي الباعة المتجولين في الأسواق ومناطق أخرى.
جاءت حصيلة استطلاع شمل أصحاب الاستحقاق من النازحين، عبر اجاباتهم متفرقة لكنها تتفق بشكل مشترك حول معاناتهم في الحصول على الإعانات المقدمة من قبل المنظمات والدول المانحة، وشكا غالبيتهم من شُح المواد الاغاثية وانعدامها في بعض الأحيان، إلى جانب سوء عمليات التوزيع وافتقاره للعدالة، وقال لنا عدد من المتحدثين، إن ذات المواد الإغاثية يشاهدونها في معروضة في الأسواق، وأحياناً يضطرون لشرائها بما يتوفر لهم من أموال خاصة..
أجرى فريق التحقيق زيارة إلى معسكر النازحين داخل إحدى المدارس التي تستغل كدار للإيواء بمنطقة (ديم مايو) أحد أحياء مدينة بورتسودان – العاصمة الإدارية المؤقتة – بغرض معرفة المزيد عن الإغاثة وكيفية توزيعها.
(-) قيود وتشديد بمنع الصحفيين
الدخول للمعسكر لم يكن أمراً سهلاً حيث توجد رقابة تجاه الزائرين خصوصاً من لا يتبعون لمنظمة أو جهة حكومية.. واللافت هو التشديد بمنع الصحفيين من دخول المعسكر، لكن محررة ضمن فريق العمل، أفلحت في مسعاها بالدخول دون كشف هويتها الصحفية وتسنى لها ذلك بمساعدة بعض النازحات اللائي يحملن (جركانات) المياه لداخل المعسكر حيث سكنهن..
الحاجة سلوى محمد ابراهيم القادمة من ولاية الجزيرة، اكدت في افادتها بأن المواد التي ترد الى معسكر الإيواء شحيحة مقارنة بحوجة النازحين، وقالت إن ما يصلهم من منتجات غذائية محدودة وغير متنوعة وتقتصر على الدقيق والزيت فقط ..
وقدمت سلوى مقارنة بين معسكرها الحالي وتجربتها السابقة عندما كانت ضمن نازحين بمدينة ودمدني وقالت إن برنامج الأغذية العالمي (wfb) كان يقوم بتوزيع الدقيق بالجوالات بينما يتم توزيعه الان بنظام (الكوتة) بحسب وصفها.. أو يتم تقسيم المواد على كل اسرة حسب المواد الاغاثية، واكدت استلامها (نواميس وسجادات بلاستيكية)، و تم وعدهم بتوفير (مراتب وأغطية بطاطين).. وختمت بقولها: (مازلنا في الانتظار)..
(-) تلاعب في الإغاثة
من جهة ثانية كشفت جولة خاصة لدار الإيواء المخصصة للصحفيات والاعلاميات اللائي أجبرن على النزوح من العاصمة الخرطوم، عن عمليات غِش وتلاعب بإفراغ وتبديل مواد الإغاثة المقدمة عبر الدعم الكويتي بمواد أخرى من المساعدات المحلية، وذكرت إحدى الاعلاميات أن المواد وصلت لمصلحتهن من قبل” الهلال الأحمر” كانت معبأة داخل (كراتين) تحمل ديباجة الدعم الكويتي لكن محتواها مواد محلية أقل جودة مع نقص بائن في الكمية بالمقارنة مع السلة الكويتية التي تزن نحو (30) كيلو جرام من المواد الغذائية.
(-) من داخل الأسواق
جولة أخرى داخل السوق الكبير في مدينة بورتسودان ولأيام متتالية، كشفت لنا طبيعة العمل الاحترافي في دخول الإغاثات إلى السوق وبمعاونة تجار وصفهم البعض بـ (الكبار والنافذين)..
التاجر : (م،ح) يدير متجراً لبيع أغطية شتوية (بطاطين) ذكر لنا أنهم يقومون بشراء الأغطية من( مندوب) إحدى المنظمات – لم يفصح عن اسمه- ولا حتى المنظمة التي يعمل بها، مبيناً أنه يستلم منهم أموال بضاعته بـ(الكاش) وأنه يرفض التعامل عبر الحسابات المصرفية والبنكية.
التاجر : (م،ح) كان حذراً وشحيحاً في إجاباته ويظهر عليه التخوف في التعامل معنا .. و رفض أن نقوم بتسجيل ما أدلى به من معلومات، لكنه وبعد شراء محررة من فريق التحقيق احدى السلع “غطاء شتوي” من النوع الشائع ضمن المساعدات اضطر للاعتراف بأن كميات منها تصله من سماسرة ويقوم بشرائها ووضع أرباحه عليها.
تجار آخرون أبلغونا عن خطوات تمويهية يلجأ إليها مسربو الإغاثات بإستبدال “جوالات” الدقيق التي كتب عليها (ليست للبيع) بإعادة تعبئتها في “أ كياس” وإدخالها للأسواق كسلعة دقيق وطنية بواقع (٣٥) ألف جنيه للجوال .. شاهدنا بعض التجار يقومون بإعادة تعبئة ” لبن مجفف” داخل جوالات السكر الفارغة بغرض اخفائه وتباع بنحو (٣٥٠) ألف جنيه للجوال الواحد، و ذكر تجار محليون أن (جركانات) الزيت بمختلف أنواعه لا يتم توضيح إن كانت إغاثية مجانية أو تجارية، ولكن (الجركانات) ذات اللون الأصفر في الأغلب متفق بأنها إغاثية وتتفاوت أسعارها حسب العبوة، فسعة اللتر الواحد بسعر (7) آلاف جنيه، وأكد تجار ضمن افاداتهم لنا، أن السلع (الإغاثية) الأكثر رواجاً في الأسواق هي الدقيق واللبن وزيوت الطعام.
شاهدنا خلال جولة بأسواق بورتسودان أن الأغطية الشتوية “البطاطيين والدفايات” الواردة ضمن الإغاثة يتم نزع “الديباجات” منها وتباع بأسعار قد لا تتوفر لكثير من الأسر و بحسب جودة الصناعة. وقال أحد التجار – فضل حجب اسمه- إن البضائع تورد بواسطة أحد وكلاء المنظمات ولايظهر لهم هويته أو المنظمة التي ينتمي إليها، ويتعامل معهم عبر وسيط، وأضاف: ” هم أيضاً يطلبون أسعار كبيرة لكنها أفضل بكثير من أسعار الاستيراد والموردين المحليين.
(-) اعتراف بتسرب السلع الإغاثية
اعترقت جهات حكومية بوجود تسرب لبعض السلع الإغاثية حسب بيان صادر من مجلس الوزراء بتاريخ 3ربيع الثاني 1446 الموافق 6 أكتوبر 2024 النمرة :م و/أ ع/ م ر ى/ و/أ، والذي تحدث عن وجود تجاوزات ومخالفات في استلام وتوزيع المساعدات الإنسانية التي تصل إلى البلاد من المواد الغذائية والإيوائية التي يتم توزيعها الى الولايات والمحليات، وقال البيان إنها لا تصل الي المستهدفين بل تباع في الأسواق الأمر الذي يعد انتهاكا للنظم والإجراءات والضوابط المنظمة للعون الإنساني في ظل الطوارئ ومخالفة صريحة وواضحة تستدعي المساءلة والمحاسبة.
وطالب البيان الممهور بتوقيع وزير شؤون مجلس الوزراء المكلف : عثمان حسين عثمان بضرورة توجيه حكام الأقاليم وولاة الولايات بإخطار منسوبيهم بالولايات والمحليات بتشديد الإجراءات الرقابية لضمان الالتزام بضوابط العمل في ظل الطوارئ والتأكد من توزيع العون الإنساني على مستحقيه.
(-) دور الجيش وتحكم الاستخبارات
أفاد مصدر موثوق ينشط في مراقبة عمليات توزيع المساعدات الإنسانية في مدينة بورتسودان، أن الجيش السوداني سيّطر على طائرات شحن “كارقو” بعد هبوطها في مطار بورتسودان بتعليمات مباشرة من قائد منطقة البحر الأحمر العسكرية، و قائد الدفاع الجوي، وقال إن العسكريبن يضعون إيديهم على المساعدات الواردة من الخارج بتنفيذ هيئة الاستخبارات العسكرية، ويتحكم مكتب خاص للتنظيم الإسلامي داخل المؤسسة العسكرية في عمليات التوزيع …!
وكشف المصدر الذي فضل حجب اسمه، عن نشاط أفراد عسكريبن في نقل كل حمولات الطائرات الى مخازن القوات البحرية، قبل أن تخضع للفرز وتصنيف محتوياتها، حسب نوع المساعدات من “غذاء ، دواء، مستلزمات الأغطية والخيام”.
وذكر المصدر أن الهيئات العليا للجيش ويمثلها الفريق مهندس : ابراهيم جابر رئيس اللجنة العليا للمساعدات الانسانية تصدر توجيهات الى دائرة التوزيع، وتشمل العمليات امدادات الجيش في الميدان والجبهات واسقاط للمناطق المحاصرة، مبيناً أن حصة هيئة الاستخبارات تدفع كـ “رشاوى” لنافذين في تحالفات سياسية مساندة للجيش، ومنهم مكونات أهلية في شرق السودان تدين بالولاء السياسي للجيش، بجانب مجموعة الحركات المسلحة التي تقاتل مع الجيش وبعض السياسيين أصحاب الولاء للسلطة الحاكمة، فيما تُغذي حصص وأنصبة الضباط النافذين الأسواق في ولاية نهر النيل حيث تجد طريقها إلى مدينتي (شندي وعطبرة ) وكذلك صوب مناطق بالعاصمة الخرطوم.
(-) أسواق رئيسية للمساعدات الإنسانية
تمثل مدينة “الحاج يوسف” – 20 كيلومتر شرقي العاصمة الخرطوم المصدر الرئيس ومحطة العبور لمواد الإغاثة والمساعدات الإنسانية الأخرى الى أسواق العاصمة المثلثة – بحري ،الخرطوم ، ام درمان، يمتاز سوق مربع (6) الحاج يوسف المنشأ في عان 1972 م ، بموقع جغرافي يساعد على دخول المواد من منافذ توزيع المساعدات الإنسانية في مدن شندي ، عطبرة ، وبورتسودان حيث تفصله عن هذه المدن ارض منبسطة، فلا توجد حواجز طبيعية، ويتم تجميع كل الإغاثة الواردة في منطقتي الشيخ ود حسونة – الشيخ ود أبوصالح ، وهي “أضرحة” لشيوخ الطرق والمذاهب الصوفية في منطقة شرق النيل .
وتجري عمليات الفرز لكل السd