خبر ⁄سياسي

حرب المليون بليد..

حرب المليون بليد..

مهدي رابح

لست مندهشاً ابداً من حجم التوحّش الذي وصلت اليه الأحداث مؤخراً، ما يُدهشني حقّا هو ان الكثيرين يجهلون او ينسَون او يتناسَون او يتجاهلون أن التوحّش هو السمة الأصيلة الثابتة الوحيدة لكل تاريخنا الحديث وأن عدد ضحايا النزاعات الأهلية المسلّحة التي تورّط فيها الجيش الرسمي وأجهزة الدولة الأمنية ومليشياتها المختلفة عبر الحقب، قوات صديقة، مراحيل، دفاع شعبي، أمن شعبي، جنجويد، حرس الحدود، الدعم السريع، بلغ ما يقدر ب 2 مليون مواطن/ة مقتول حتى قبيل انطلاق الرصاصة الخائنة الأولي في هذه الحرب.

انتهاكات مروّعة اُديرت طوال عقود في الظلام الدامس بعيدا عن اعين الاعلام والرقابة، بعيدا عن الخرطوم والمدن المستقرة الأخرى، في الجنوب، دارفور، جبال النوبة، النيل الازرق وغيرها، بُقرت فيها بطون النساء الحوامل، القي البعض من الطائرات، تم تصفية ممنهجة للنخب المحليّة، أُلقي الأطفال داخل اكواخ تحترق، اغتصبت النساء بمن فيهن طفلات يافعات، دُمرت القرى والحقول، نُهبت الممتلكات على قلّتها… الي اخرها من الفظائع.

جرائم استطاع مرتكبوها المباشرين وأولئك المسؤولين عن وضع سياسات الدولة وإصدار الأوامر الإفلات من المحاسبة، القانونية والمعنوية التاريخية. عبر اخفائها تحت غطاء اتفاقيات سلام شائهة، هي في جوهرها صفقات بين نخب حاملة للسلاح من اجل إقتسام السلطة والثروة وتوفير الإطار المؤسسي للإفلات من العقاب.. وهنا أعني كل اتفاقيات السلام، دون استثناء، منذ اتفاقية أديس ابابا 1972م وحتي اتفاقية سلام جوبا 2020 مرورا بإتفاقية السلام الشامل، نيفاشا 2005.

ورغم ان التطور التكنولوجي الاسفيري فرض واقعا جديدا سمح لعديد المغفّلين وماسحي الجوخ وجودا مضخما في الفضاء العام، او “غزو البلهاء” كما اطلق عليه الفيلسوف الإيطالي امبيرتو ايكو ، وفتح الباب واسعا امام الات التضليل الاعلامي، لكنه في المقابل وفر نافذة، ولو ضيقة، يطلّ بها الجمهور المغيّب علي هذا القبح البالغ، بدأ في حالتنا التي تدعو للأسي بالصور والفيديوهات التي وثقت مجزرة القيادة العامة واستمرت حتى اليوم لتوثق مجازر طرفي هذه الحرب.

حرب ابريل القذرة التي دمّرت بلادنا اليوم ومزّقتها اشلاءً هي محنة كبري لكنها لا تعدو حلقة من حلقات سلاسل المحن السودانية منذ عام 1956م، وإن كانت اخطرها علي الإطلاق، لكنها ايضا فرصة لمواجهة الحقائق القبيحة وجها لوجه، حقيقة مدي العنصرية المترسّخة والقائمة علي هويات مُستلفة، والخلل الاخلاقي العميق المتدثر بتدين مظهري زائف، والغلّ والحقد والجُبن المتسربِل يإدّعاء الكرم والعفّة والشهامة، والاختلال المؤسسي المتخفي خلف واجهات وأسماء فخمة كذّابة وقِصر النظر السياسي الكامن في جُمل خشبية محفوظة مكررة وشعارات تعني كل شئ ولا شئ.
هي فعلاً حرب المليون بليد…

altaghyeer.info