عبد الرحيم أبو ذكرى.. أيها الراحل في الليل وحيدا

عبد الرحيم أبو ذكرى.. أيها الراحل في الليل وحيدًا
عبدالله برير
بموسيقى جنائزية محشوة برائحة الموت ومسورة بمزامير الضياع، الفرقة الموسيقية ترتدي أسود الحداد يطل مسموعا، العد التنازلي لقنبلة موقوتة، صوت مصطفى يطل من أعماق الأسف، نشرة للأموات، أيها الراحل/ أيها السادة، مشهد مغلف بالوحدة مطلي بالضياع والعزلة، اللحن يمارس التخفي الحذر في أتون اللحظة الأسيفة، بعض الآلات تسن أحرف الموت، وتلمع شظايا الانفطار، تتكئ الكمنجات وتقدم أوتارها قرابين للحزن المرتجى، تردد الصوت وصدى الرحيل.
أمس زارتني بواكير الخريف، خطاب للذات، جواب انتحار، يقرأ في مرآب القيامة، اللحن يحاول التجاسر أمام طقوس العزاء، الغسيل بالثلوج، في مشارح الروح، والعكس بإشراق المروج! محاولات بواكير الخريف حيث معاني الاخضرار والغسل والثلوج والإشراق، لكن كان مفعما بالتناقضات مثقلا بالأضداد، كان صيفي جامدا، بارد الجبين، عبارات سوداوية لولا طغيان الموسيقى لقضت على المستمعين، الرابضين مع سكوته المتربص خلف البيوت الخشبية، السكوت الموزع بؤسه على الأماكن، مخفيا حيرته في الشجر، وغروب الأنهر وانحسار البصر، ثلاثي الموت: الحيرة والغروب والانحسار امتدادات الضياع والوريث الشرعي للوحدة.
اللحن مجنزر في سكرات الانفاس الأخيرة، لوحت له ساعة، الوداع، حين انصرفنا، الى الرحيل.
عادت بواكير الخريف، حين عادت وثب الريح على الأشرعة المنفعلة التي تمور بداخله، غاب ليل الرحيل وتداعت شمس الفراديس على أروقته ودواخله رغم انفرادها، ومضت تحضنه الشمس الندية، بوارق أمل بالحياة وافتكاك من الضياع، فهي لم تحضنه في الزمان الغابر الغائب المرتحل الذي لم يلق فيه طريقا للاستقرار، وهو الراحل في الليل وحيدا، ضائعا موغلا منفردا بكامل الإصرار.
موجة أخرى من مارشال عسكري موسيقي، يتصاعد مثل فوهة بركان تدريجي، النعش يطل من على حواف اللحن وصولا لسدرة منتهى التراجيديا، ينبعث صوت مصطفى من مرقد الحزن، أيها الراحل: استعد لخطاب تأبينك وأنت ما تزال حيا، ارقص رقصتك الجنائزية الاخيرة، ولا تنس: انتظرني يا ذاتي يا أنا، فأنا أرحل مثلك في الليل وحيدا، ضائعا بلا هوية منفردا بلا رفيق سوى العزلة، اختار أبو ذكرى مفردات الدهاليز القصيات حيث الانطواء الأبدي، في العتامير وصحارى الجنون، في البحار حيث العمق والخوف، زمكانا للانتظار، انتظرني، بتطريب محزون، في حفيف الأجنحة حيث الطيران الى المجهول، وسموات الطيور النازحة، حيث انهداد المدارات، واسوداد السماء، المصير المحتوم. انتظرني، انتظرني، انتظرني، انتظرني انتظرني.
يزف الى مثواه الأخير، الموسيقى تتولى تشييع الألحان، يتراءى الفنان متعبا يسقط مغشيا عليه من الأسف، في خواتيم الحكايات، انتظرني، ينتظر ذاته في سموات البارحة المسودة مسلما للمصير المحتوم محنطا في سرادق الكلمات.
نص:
الرحيل في الليل
كلمات عبدالرحيم أبوذكرى
ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺣﻴﺪﺍ
ﺿﺎﺋﻌﺎ ﻣﻨﻔﺮﺩﺍ
ﺍﻣﺲ ﺯﺍﺭﺗﻨﻲ ﺑﻮﺍﻛﻴﺮ ﺍﻟﺨﺮﻳﻒ
ﻏﺴﻠﺘﻨﻲ ﺑﺎﻟﺜﻠﻮﺝ
ﻭﺑإﺷﺮﺍﻕ ﺍﻟﻤﺮﻭﺝ
ﺍﻳﻬﺎ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺣﻴﺪﺍ
ﺿﺎﺋﻌﺎ ﻣﻨﻔﺮﺩﺍ
ﺣﻴﻦ ﺯﺍﺭﺗﻨﻲ ﺑﻮﺍﻛﻴﺮ ﺍﻟﺨﺮﻳﻒ
ﻛﺎﻥ ﺻﻴﻔﻲ ﺟﺎﻣﺪﺍ
ﻭﺟﺒﻴﻨﻲ ﺑﺎﺭﺩﺍ
ﻭﺳﻜﻮﺗﻲ ﺭﺍﺑﻀﺎ
ﺧﻠﻒ ﺍﻟﺒﻴﻮﺕ ﺍﻟﺨﺸﺒﻴة
ﻣﺨﻔﻴﺎ ﺣﻴﺮﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺠﺮ
ﻭﻏﺮﻭﺏ ﺍﻻﻧﻬﺮ
ﻭﺍﻧﺤﺴﺎﺭ ﺍﻟﺒﺼﺮ
ﻟﻮﺣﺖ ﻟﻲ ﺳﺎﻋﺔ
ﺣﻴﻦ ﺍﻧﺼﺮﻓﻨﺎ
ﺛﻢ ﻋﺎﺩﺕ ﻟﻲ ﺑﻮﺍﻛﻴﺮ ﺍﻟﺨﺮﻳﻒ
ﺣﻴﻦ ﻋﺎﺩﺕ ﻭﺛﺐ ﺍﻟﺮﻳﺢ ﻋﻠﻲ
ﺍﺷﺮﻋﺘﻲ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﻠة
ﺳﻄﻌﺖ ﺷﻤﺲ ﺍﻟﻔﺮﺍﺩﻳﺲ
ﻋﻠﻲ ﺍﺭﻭﻗﺘﻲ ﺍﻟﻤﻨﻌﺰلة
ﻭﻣﻀﺖ ﺗﺤﻀﻨﻨﻲ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﻨﺪية
ﺍﻟﺘﻲ ﻣﺎﺣﻀﻨﺘﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﺍﻻﻭﻝ
ﻓﻲ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﺍﻟﻐﺎﺋﺐ ﺍﻟﻤﺮﺗﺤﻞ
ﺍﻳﻬﺎ ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺣﻴﺪﺍ
ﺿﺎﺋﻌﺎ ﻣﻨﻔﺮﺩﺍ
ﺍﻧﺘﻈﺮﻧﻲ ﻓﺎﻧﺎ ﺍﺭﺣﻞ
ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺣﻴﺪ
ﻣﻮﻏﻼ ﻣﻨﻔﺮﺩﺍ
ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻫﺎﻟﻴﺰ ﺍﻟﻘﺼﻴﺎﺕ ﺍﻧﺘﻈﺮﻧﻲ
ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺘﺎﻣﻴﺮ
ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻧﺘﻈﺮﻧﻲ
ﺍﻧﺘﻈﺮﻧﻲ ﻓﻲ ﺣﻔﻴﻒ ﺍﻻﺟﻨﺤة
ﻭﺳﻤﺎﻭﺍﺕ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ ﺍﻟﻨﺎﺯحة
ﺣﻴﻦ ﺗﻨﻬﺪ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺍﺕ
ﻭﺗﺴﻮﺩ ﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺒﺎﺭحة
ﺍﻧﺘﻈﺮﻧﻲ ﺍﻧﺘﻈﺮﻧﻲ
altaghyeer.info